المقالة الخامسة عشرة في ذكر الآباء المتوفين

31 أكتوبر 2020
Large image

يوجعني قلبي فتوجعوا معي يا إخوتي العبيد المباركين، تعالوا فأسمعوا أن نفسي توجعني وجوانحي تؤلمني، أين الدموع ؟ وأين التخشع ؟ حتى أحمِ جسمي بالدموع والزفرات.
من ذا ينقلني ويخلصني من مكان غير مسكون ؛ حيث لا يوجد ألبته صوت أبناء البشر ؛ حيث يكون الصمت وعدم جلبة، حيث لا يكون رهج يقطع الدموع، ولا مفاوضة شعب تعوق البكاء.فكنت أرفع صوتي وأبكي لدى الإله بعبرات مرة، وأقول بزفرات: أشفيني يارب لكي أبرأ ؛ لأن قلبي يوجعني فوق الإفراط ؛ وزفراته لا تتركني لحظة أن أنال راحة.
لأنني أعاين قديسيك كذهب منتخب، تأخذهم من هذا العالم الباطل إلى نياحة الحياة. بمنزلة الفلاح الفهيم العاقل الذي إذا رأى الأثمار بالغة حسناً يقطعها بإسراع لئلا تضرها عوارض ما وتفسدها.هكذا أنت أيها المخلص تجمع المصطفين العاملين أعمالهم ببر ؛ ونحن الوانيين والمسترخين بالنية تبقينا في قساوتنا وثمرنا لا يتغير عن ماهيته.
لأن ليس له نية ليبلغ في الأعمال بلوغاً حسناً ؛ ويقطف كما يليق ؛ ويجعل في مخزن الحياة ؛ لأن ثمرنا ليس له دموع لتوصله إلى تناهي البلوغ ؛ ولا تخشع لتتناهى نضارته من نسيم العبرات.ولا تواضع ليظلله من الحر الكثير، ولا هجر قنية لينتقل من الأمور المضادة، ولا محبة اللـه الأرومة القوية الحاملة الثمر، ولا عدم الاهتمام بالأمور الأرضية، ولا سهر، ولا عقل متيقظ في الصلاة.فعوض هذه الأشياء الحسنة ؛ والفضائل الصالحة له أضدادها غيظ مذموم، وغضب ييبسان الثمر لئلا ينمو فينتفع به، وكثرة قنية، والضجر العظيم ينقلانه إلى أسفل.هذه المصائب كلها تشتمله ؛ ولا تتركه ينتهي إلى البلوغ كما يليق ليستوي ؛ ويصلح لصاحبه الفلاح السماوي.ويلك ويلك يا نفس تكلمي وأبكي إذ فقدت بسرعة الآباء الكاملين ؛ والنساك الأبرار.أين الآباء ؟ أين الكاملون ؟ أين القديسون ؟ أين المستفيقون ؟ أين المتيقظون ؟ أين المتواضعون ؟ أين الودعاء؟ أين الصامتون ؟ أين الساكتون؟ أين المتورعون ؟ أين العادمون القنية ؟أين المتخشعون المرضو اللـه الذين كانوا يقفون في الصلاة النقية قدام اللـه كملائكة منيرين يبكون حتى يبلوا الأرض بعبرات الخشوع الحلوة ؟
أين المحبو اللـه الموعبو محبة ؛ الذين لم يقتنوا شيئاً على الأرض ؛ بل حملوا صليبهم ؛ وأتبعوا المخلص أتباعاً دائماً ؛ وسلكوا في الطريقة الضيقة متأملين حذرين أن يسقطوا في الهفوات.أو في برية غير مسلوكة ؛ وفاقدة الماء ؛ ومظلمة ؛ بل سلكوا طريق الحق الممهد ؛ طريق وصايا الرب ؛ سائرين في الطريق المملوء استنار ؛ إلا وهو أوامر المسيح ؛ خادمين اللـه بسيرة حسنة وبحرارة، حزناء باختيارهم في العالم الباطل.فلهذا أحبهم اللـه جداً ؛ وضمهم إلى ميناء الحياة ؛ وإلى الفرح الخالد وليستبشروا هناك ؛ ويتنعموا في فردوس النعيم ؛ وفي خجلة الختن الباقي ؛ لأنَهم ساروا من هنا بفرح إلى الإله القدوس ومعهم المصابيح معدة.فليس فينا نحن فضيلة أولئك ؛ ولا نسكهم؛ ولا حميتهم ؛ ولا مسكهم؛ ولا ترتيبهم ؛ ولا ورعهم ووداعتهم وتخشعهم ؛ ولا زهدهم في القنية ؛ وليس لنا سهرهم، وليست فينا محبة اللـه ؛ ولا تحنن الإله ؛ ولا تألم الأعضاء.لكننا متنمرون غير مستأنسين، ولا يحتمل بعضنا بعضاً ألبته، فألسنتنا هي محمية ؛ نتكلم بِها على بعضنا البعض، كلنا نلتمس الكرامة ؛ ونؤثر التشرف ؛ ونبتغي الراحة لأنفسنا ؛ ونحب القنيات.نحن مسترخون غير مثابرين على الصلوات، أقوياء في الهذيان وفي الدوران غير خاضعين، ضعفاء في السكوت، نشيطون إلى التنعم، مقطبون في الحمية والمسك، باردون في المحبة، حارون في الغضب، عاجزون في الصالحات، حرصون في السيئات.ترى من لا ينتحب، من لا يبكي على محبتنا الموعبة رخاوة، إن أولئك الآباء إذ صاروا قبلنا مرضين للرب خلصوا أنفسهم، ما كانوا متراخين، ولم يتخذ الكاملون فكرين لكن فكراً واحداً وهو كيف يخلصون.وكانوا مرآة صافية للناظرين، وكان الواحد منهم يستطيع أن يبتهل إلى اللـه من أجل أُناس كثيرين ؛ واثنان منهم إذا وقفا أمام اللـه في الصلوات النقية كانا يقدران أن يستعطفا الإله المتعطف كما يليق عن ألوف أناس.ويلك يا نفس في أي زمان أنت.ويلنا يا أحبائي إلى أية حمأة المساوي بلغنا ؛ ونحن نريد أن ينكتم أمرنا؛ ولكون ناظر النفس لا يتيقظ من كثرة العمي والتنزه فلذلك لسنا قادرين أن نتأمل الحزن المنصوب.وها الآن الأبرار والصديقون يختارون ؛ ويجمعون إلى ميناء الحياة ؛ لكي لا يعاينوا الحزن والشكوك التي تتبعنا من أجل خطايانا.
كان أولئك ينتحبون ونحن نتناعس، أولئك يجمعون ونحن نتناوم، أولئك يحفظون ونحن ننجذب إلى العالم الباطل، أولئك يذهبون إلى اللـه بدالة ونحن نتنزه على الأرض.
حضور الرب قد وقف على الأبواب ونحن نتشكك ونتقسم، الصوت السماوي متهيئ أن يبوق بأمر الرب ويزعزع الكل بصوته المفزع فينهض الموتى ليستوفي كل أحد نظير عمله.
قوات السماوات مستعدة وقوفاً في مواكبهم ؛ أيوافوا بتقوى أمام الختن إذا جاء بمجد في سحب السماء ليدين الأحياء والأموات ؛ ونحن غير مصدقين.أترى كيف نكون يا إخوتي في تلك الساعة المخوفة ؟ كيف نعتذر إلى اللـه هناك عن توانينا في خلاصنا ؟ إن لم نحرص الآن ونبكي بوقاحة ونتوب توبة حسنة بتواضع نفس ووداعة كثيرة، فكم كل واحد منا مزمع أن ينتحب في ضغطته ؟وإذا تندم يقول بدموع غزيرة: ويلي أنا الخاطئ، ماذا داهمنى بغتة ؟ كيف عبر عمري وغاب عني بالجملة ؟ كيف سُرق زماني أنا المتنزه الطموح ؟ أين تلك الأيام الهادئة التي قضيتها في التنزه حتى أتوب بمسوح ورماد ؟ لكن لا ينتفع من كثرة هذه الأقوال.وإذا شاهدنا القديسين يتطايرون بمجد في السحب ؛ سحب الأهوية لاستقبال الرب ملك المجد ؛ ونعاين ذاتنا في ضغطة عظيمة. ترى من منا يستطيع أن يحتمل ذلك الخزي والتعيير المض ؟فلنفيق يا إخوتي ؛ فلنستفق يا أحبتي، ولنتيقظ أيها المحبو اللـه، ولننهض يا خلان اللـه.أيها الأولاد المحبوبون من الإله الآب، لنصغين إلى ذاتنا ؛ ولنجمعن أفكارنا قليلاً من هذا العالم الباطل ؛ ولنبحث أمام اللـه بعبرات غزيرة متضرعين بوقاحة وحرص وزفرات قلب ؛ لينجينا من النار التي لا تطفأ، والعذاب المر، لئلا نفارق السيد الحلو الذى أحبنا وبذل ذاته على الصليب من أجلنا.وأنا غير المستحق الخاطئ، أتضرع إليكم وأطلب إلى جماعتكم ؛ أن تذرفوا من أجلي دموعاً في صلواتكم وطلباتكم النقية ؛ طالبين لي التخشع لأبكي معكم ؛ وليستضئ قليلاً قلبي الأعمى.وأطلب إلى الإله المخلص القدوس ؛ لكي ما يعطيني نشاطاً وحرصاً فأتوب ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع ؛ وأخلص معكم.
يا إخوتي أنا غير مستحق الحياة، يا أحبتي أطلب إليكم أن تقبلوا استغاثة إفرآم الخاطئ أخيكم المسترخي ؛ ولنحرص كلنا أن نستغفر الإله القدوس ما دام لنا زمان ؛ لأن ها الرب قد وقف على الأبواب ليفني العالم الباطل.وله السبح إلى الأبدآمـين
هذا هو اليوم المتقدم والمشرف ؛ فلنسبح بتشريف أسرار الابن الوحيد ؛ ولنصرخ بالتسبيح في الكنيسة التي هي عروس المسيح ؛ مشيدين بانتصار الآباء الأبرار ؛ ولنرتل مدائح القاطنين القفر ؛ واصفين جهاد الذين تركوا المدن ؛ وآثروا بشوق أن يسكنوا البرية لمنفعة كافة الذين يسمعونه ؛ لكي بصلوات الآباء الأبرار ؛ وبصلوات السامعين يخلص المتكلم.
لأن الآباء الأبرار لم يبتعدوا منا إذ اشتقنا إليهم ؛ ولم نفارق جلالهم كأنَهم غرباء عنا لأنَهم يبتهلون دائماً من أجل هفواتنا.وليسوا ذوي مقامات دنيئة بل مشرفون ولا حقيرين بل مكرمون، ولا فاقدي العلم بل علماء لأنَهم كانوا معلمين لكل الناس بأعمالهم الصالحة لأنَهم كانوا قد تعلموا من سيدهم أن يجولوا الجبال مغتذين كاغتذاء الوحوش.كانوا تامين مملوءين عدلاً ؛ وإذ صاروا أعضاء الكنيسة لم يفصلوا أنفسهم من الرعية لأنَهم أولاد الاستنارة المقدسة ؛ ولم ينقضوا الناموس بل حفظوا الكهنوت ؛ وحفظوا الوصايا ؛ ولم يقاوموا الشريعة بل كانوا حارين في الأمانة.وحين كان الكهنة المكرمون يقفون قدام المائدة المقدسة يقربون الخدمة كانوا هم أول من يمدون أيديهم فيقبلون بأمانة جسد السيد الذي كان معهم دائماً.كانوا كحمام طائر في العلاءِ، نصبوا مساكنهم في الصليب ؛ تائهين في مواضع مقفرة كالغنم.فحين سمعوا صوت الراعي عرفوا في الحين سيدهم الصالح، كانوا تجاراً قد خرجوا يلتمسون الدرة النفيسة، كانوا مجتهدين مختبرين في جهاد العبادة الحسنى.أصغوا إلى مسامعكم ؛ أميلوا آذانكم حتى أصف لكم سيرة الآباء القاطنين البرية، أجمعوا فكركم وسافروا به معنا إلى وسط الصقع المقفر فسنشاهد هناك عجباً عظيماً ؛ ومجداً ؛ ولنذهبن في طرفة فنسطر رسوماً صالحة وعجيبة رسوم سيرتِهم.فإن الشوق إليهم يضطرني كثيراً أن أذهب فأعرف من كنوز سيرتِهم، وأرهب أن أتقدم إليهم سراً ؛ وإذا حضرت عندهم ولو مدة يسيرة وأراهم يحنون ركبهم ليبتهلوا إلى اللـه ؛ يستطيعون أن يجعلوني أنا الموجود الضعيف متأيداً متوطداً.إذا مدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء ؛ يقوموا نطقي لكي ما أمدحهم بأمانة، إذا تضرعوا يقف معقولي ثابتاً ويفرح بوداعتهم، وكذلك لساني يتلذذ إذا تنغم بوصف سيرتِهم.إذا سكب واحد منهم سحابة دموع عن هفواتي فللحال يستجاب له، أولئك القديسون شابَهوا المسيح نفسه، واقتنوا البيوت في البرية لأنه لا يمنع من كنوزه الصالحة الذين يقصدونه في الساعة التاسعة والعاشرة ؛ بل يعطيهم أولاً بما أنه سيد صالح كإعطاء الأجرة للفاعل الذي عمل في الساعة الحادية عشرة في كرمه بنشاط ؛ فقد فتح المخزن والغنى يعطي للمريدين أن يتقدموا ويتسربلوا بالمجد الذي كانوا يلتمسونه دائماً.فلنتخذ رسماً حسنة شريفة ؛ ونصير مشابِهين لسيرتِهم، فمن يريد أن يحرص ويذهب فيلبس الحلة التي لهم ويستغنى بثروتِهم.ومن قام عندهم يبدأ في الحين أن يعطي للذين يسألونه طلباتِهم، لأنَهم يعطون لكافة من يسألهم، ويمنحون الكل المواهب التي اقتنوها.فلنتقدم فنأخذ منهم عطية نفيسة صلاة وترتيلاً، نأخذ محبتهم التي هي أشرف وأرفع من جواهر كريمة وزبرجداً شريفاً، وعوض اللؤلؤ فلنأخذ أمانتهم القوية المشرفة التي من أجلها صاروا تائهين في الجبال والآكام والمغائر والثقوب.هب لي يارب قوة وتأييداً للساني لئلا ينغلب من تعب سيرتِهم ولأصف شيئاً من جهادهم البهي، فلهذه الحال إذا نَهضنا فلنطرح أسلحة الشيطان ونعطف قلبنا ونجعل لنا أجنحة حمامة ؛ ونطير فنبلغ حتى نشاهد سيرتِهم.لأنَهم تركوا المدن وضوضاءها ؛ وتاقوا إلى الجبال والبراري أكثر منها، فنمضي فنشاهد مساكن أولئك، وكيف هم جالسون كالموتى في القبور، نذهب فنعاين تنعم الذين يتنعمون بفرح بين الجبال.نمضي فنبصر الماقتين للعالم والمؤثري التصرف في البراري أكثر جداً، نذهب فنشاهد أجساد أولئك كيف قد تسربلت بشعورهم، نمضي فنعاين مسوحهم التي لبسوها بسرور ممجدين اللـه، نذهب فنشاهد وجوههم كيف بتقطيبها قد ضاعفوا بِها نفوسهم.
نمضي فنبصر الملائكة معهم مهللين ومرتلين بسرور جزيل ؛ نذهب فنشاهد طاساتِهم الممزوجة بدموعهم، نمضي فنبصر موائدهم مملوءة دائماً من البقول البرية، هلموا فلنبصر حجارة أولئك التي يضعونَها تحت رؤوسهم.فلنذهب ونأخذ من شعور القديسين ؛ لنتخذ السيد متعطفاً علينا، إن شاهدهم لص يجثوا ساجداً لأنَهم متدرعوا الصليب دائماً.إذا أبصرت الحيوانات الوحشية مسوحهم ؛ للحين تبتعد منهم ناظرين عجباً عظيماً، كل ما يدب يدوسونه بأرجلهم ؛ لأنَهم لابسون ومحتذون أمانة العدل.إذا أبصرهم الشيطان في الحال يفرق منهم ويعج بتوجع هارباً في الحين، لأنَها تكسرت ربوات فخاخ نصبها وراءهم ؛ ولم يمكنه بالجملة أن يضرهم لأنَهم لم يكونوا مسترخين مثلنا نحن الجهال بل منتصبون بشهامة في محاربة العدو إلى أن سحقوه تحت أقدامهم إلى النهاية، وسحقوا أفكاره واغتيالاته، ولم يجزعوا من كافة حيلة.فكان إن أراهم غنى لم يعتدوا به شيئاً بل يحتقرونه ويطئونه كالصخرة، لأن الغنى كان لهم في السماوات مع الملائكة القديسين.والجوع ما كان يحزنَهم لأنَهم كانوا يغتذون من خبز المسيح النازل من السماوات القدسية، إن العطش لم يلهبهم لأن المسيح كان لهم في أنفسهم وفي لسانَهم عين الحياة. لم يستطع الخبيث أن يزعج فكراً واحداً من أفكارهم ؛ لأنَهم وضعوا أساس أمرهم على الصخرة.وقطنوا المغائر والكهوف كأنَهم في القصور المزخرفة، والجبال والروابي التي كانت تكتنفهم كانوا يؤثرونَها بمنزلة أسوار عالية، وكانت الأرض والجبال لهم مائدة، وعشائهم كانت الحشائش البرية، ومشربَهم اللذيذ الماء من الأودية، وخمرهم الماء من ثقوب الصخور.وكانت لهم كنائس ألسنتهم التي بِها كانوا يكملون صلواتَهم الاثنتا عشر ساعة التي يشتمل عليها النهار، كانت لهم صلاة إلى سيدهم، والتمجيد الذي كانوا يرتلون به في الجبال والمغائر كان يقدم إلى اللـه ذبيحة حسنة مقبولة. هم كانوا كهنة لأنفسهم.ويشفون بصلواتِهم أمراضنا لأنَهم شفعاء لنا كل حين،لم يعقلوا رؤيات عالية، ولا كانوا يلتمسون التصدر في المجالس لأن شرفهم كان التواضع. صاروا مشابِهين للسيد المسيح الذي تمسكن من أجلنا نحن الأشقياء.لم يعطوا أنفسهم نياحاً في العالم إذ كانوا منتظري النياح الذي هناك.فلنصيرن متشبهين بالقاطنين في الجبال ؛ ومشاركين لسيرتِهم، لأن أولئك كانوا جائلين مع الوحوش كأنَهم وحوش، وكالطيور كانوا يطيرون في الجبال، يرعون كالآيلة مع الوحوش الوحشية.ومائدتِهم كانت مستعدة دائماً ؛ لأنَهم كانوا يرتعون العشب الأخضر والحشائش بمداومة ؛ جائلين في الجبال كسروج واضح ضيائها، وكان الذين بشوق كثير يقتربون إليهم يستضيئون بضيائهم.كان الآباء الذين في البرية سوراً منيعاً ؛ فلذلك أي موضع كانوا يسكنونه يجعلونه أميناً أنيساً، إلى أي صقع انتهى واحد من الآباء يصير جميع الموضع الذي يحيط به أنيساً موعباً سلامة.كانوا يتطايرون إلى الروابي نظير جمع الحمام ؛ ومثل النسور في الجبال الشامخة، لا يتنعم رؤساء العالم بالقصور والسقوف المذهبة كما يسر هؤلاء بالجبال والمغائر، وربما الملك يضيق به البلاط أما هؤلاء فواسعة عليهم ثقوب الأرض ورحبة كثيراً.الثياب الشعرية التي لبسها الآباء الأبرار وابتهجوا بِها أكثر من الملابس البرفيرية ؛ فهذه رثت وبليت، والمسح من أجل صبر الآباء القديسين بُجل ووقر، لأنَهم رفضوا الكبرياء وآثروا التواضع الجزيل، مقتوا كل شرف العالم الباطل ؛ وها هم يشرفون من كافة الناس من أجل غزارة تواضعهم ووداعتهم.فالملوك ما اقتنوا مثل هذه الراحة ؛ نظير الراحة التي أقتناها الآباء في البرية، لأن المسيح كان بَهجتهم، رعوا في البرية الحشائش كالوحوش كانوا ينتظرون الفردوس المطرب.إذا ضعفوا من الجولان في الجبال كانوا يضجعون على الأرض كأنَهم في نعيم لذيذ، إذا ناموا كانوا يقومون بإسراع كأنَهم أصوات أبواق ملوكية يسبحون المسيح المشتهى، وكانت مواكب الملائكة معهم دائماً وتحصنهم وتحفظهم كل وقت، ونعمة السيد كانت معهم سرمداً.ولم يخدعهم العدو، وحين كانوا يحنون ركبهم يصنعون قدامهم طيناً وينشدون من عبراتِهم غدراناً، إذا ختموا تسبيحهم يقوم السيد وعبيده يخدمون مرادهم.إذا حلك الظلام ؛ في الحين يرفعون أجنحتهم ؛ ويطيرون في كافة المسكونة، لأنَهم لم يكن لهم مسكن ظاهر ؛ لأن مسكن الآباء القديسين الحقيقي هو عدن، حيث تغرب لهم الشمس هناك يحلون، وحيث ما يلحقهم الليل هناك يجعلون منزلهم.ما كانوا يذكرون قبراً ؛ لأنَهم كانوا موتى ؛ وإنصلبوا للعالم بالشوق إلى المسيح ؛ لأنه حيث كان أحدهم يسكن يصير له ذلك الموضع قبراً.وكثيرون منهم إذا أحنوا رؤوسهم في الصلاة ؛ تنيحوا بِهدوء أمام السيد، آخرون استندوا إلى صخرة ؛ وسلموا نفوسهم إلى سيدهم، آخر بينما كان يتمشى في الجبال مات وصار له الموضع قبراً ومدفناً معاً.آخر دفن ذاته بارتسام الشكل فقبض بنعمة سيده، آخر بينما كان يرعى خضرة السيد نعس فتوفى في مائدته، آخر حين كان واقفاً في تلاوة التمجيد خطفت منه نعمة نسمته.آخر بينما هو واقف في الجبال مرتلاً ومتضرعاً ختم الصلاة بنفسه، كانوا منتظرين النهاية القدسية، الصوت الذي ينهض فيزهرون كالأزهار الفائحة نسيم الطيب.إذا أمرت الأرض أن تبرز الموتى يينعون في الحين ويزهرون كالسوسن الأبيض، وحينئذٍ السيد عوض العمل الكثير والتعب الذي احتملوه من أجل محبة المسيح يعطيهم الحياة الدائمة سرمداً.وبدل شعورهم يمنحهم إكليلاً مضفوراً شريفاً، وعوض المسوح التي شقوا بلبسها يعطيهم حلة العرس المجيدة، عوض الحشائش وضيقة الماء يصير لهم المسيح مطعماً ومشرباً، وبدل ثقوب الأرض التي سكنوها يمنحهم المسيح الفردوس المعظم، ولكونَهم لم يأثروا أن يكون لهم حِرز في العالم هو يخول لهم السرور العظيم.أنه غير ممكن أن نوضح بالكلام الفرح الجزيل الذي يحصل فيه كافة القديسين ؛ الذين باختيارهم حزنوا وضيقوا على أنفسهم في هذا العالم، الذين ناصبوا وجاهدوا الآلام النجسة ؛ وغلبوا العدو ؛ وحفظوا وصايا الإله العلى.فلذلك يطوب الملائكة القديسين ؛ ويقولون لهم: مغبوطون أنتم الذين من أجل شوق المسيح دبرتم مركبكم تدبيراً سديداً في الأرض بفطنتكم ؛ وبغزارة صبركم، وقومتم وصايا المسيح السيد الصالح بحق.فلذلك وصلتم إلى الميناء الصاحي واتخذتم المسيح الذي تُقتم إليه، نَسر معكم أيها المغبوطون لأنكم نجوتم من فخاخ العدو ؛ وجئتم إلى المسيح الذي كللكم وصرتم وارثين ملكه، وحين يرى الخبيث نفسه مغلوباً يجلس فينتحب ويقول ببكاء:الويل لي أنا الشقي ؛ وماذا أصابني أنا المُحطم ؟ كيف غُلبت ؟ أني أنا سبب هذا الأستخزاء، لأني أنشأت معهم الحرب بإلحاح كثير، ولما هُزمت من المعركة الأولى والثانية كان يجب أن أفطن أن المسيح معهم.فالآن إذ حاربت القديسين العجيبين فازداد ثوابِهم بذلك وغُلبت، فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ملطخاً رأسي بالدماء من جراحاتي ؛ لأنني نصبت الفخاخ لاقتنصهم ؛ فأخذوها وكسروا بِها رأسي، ونشابي الحاد الذي أرسلته إليهم تناولوه بدهاء وقتلوني به.أنا حاربتهم بآلام مختلفة ؛ وهزموني بقوة الصليب، فبواجب تألمت بِهذه أنا الجزيل الغباوة، إذ أوضحت المجاهدين بغير اختياري مدربين مختبرين، لأنه كان سبيلي أن أرتدع من آلام المسيح لأنه هدم كافة قوتي، كنت عملت كل الأشياء حتى يُصلب ؛ فبموته دفعني إلى الموت.وهذا الأمر أصابني نظيره من الشهداء؛ إذ صرت عاراً وخزياً وضحكاً، لأنني حركت الملوك، وأعددت لكي ما إذا عاينوها يُذهلون ويجحدون المسيح، فليس أنَهم لم يُذهلوا فقط من آلام العذاب المختلفة بل إلى الموت اعترفوا بالمسيح.هكذا الآن لما أردت أن أغلب هؤلاء بالقتالات غُلبت فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ولن أستطيع أن أحمل العار الذي حل بي أنا المتشامخ بالعظائم، تحطم عزي وكافة اقتداري من أناس حقيرين.أما بعد فلست أعلم ماذا اصنع أو بماذا أعتذر، إن الحقيرين والأميين قد أخذوا إكليل الظفر وأنا الشقي احتضنت بالخزي، أظلميت تحيرت نفذت قوتي.ماذا أعمل أنا الشقي ؟ وماذا أصنع ؟فأهرب إذاً من هؤلاء المجاهدين الشجعان ؛ وأذهب إلى أصدقائي المتوانيين بنيتهم ؛ حيث لا يكون لي تعب ؛ ولا أحتاج لحيل.لأنني آخذ منهم رباطات وأشدهم بِها ؛ وإذا قيدتَهم بالقيود التي يسرون بِها يكونون فيما بعد تحت يدي ؛ ويحصلون لي مثل عبيد، ويعملون دائماً مشيئتي باختيارهم.وإذا غلبتهم أعود إلى ذاتي قليلاً مفتخراً كبطل ظافر ؛ فإنَهم وإن كانوا يسقطون إلى الهوة لكن مع هذا أتلذذ أنا بِهلاكهم، وأسر إذا اقتدتَهم إلى طريق التهلكة ليكونوا لي مشاركين في النار التي لا تطفأ.فإذ قد عرفنا يا إخوتي ضعفه ؛ فلنصغين إلى ذاتنا مغايرين الآباء ؛ فإنَّا إن سلكنا الطرق التي سلكوها ؛ فسنجد فيها يسوع المسيح مرشداً وموازراً إيانا ؛ فإذا أبصر العدو معنا المسيح النور الحقيقي فهو لا يجترئ بالجملة أن ينثني بنظره إلينا، لأن النور الذي فينا يعمي عينيه.وكما تقدمت فقلت لكم أيها الإخوة المحبون للمسيح أقول: احرصوا بنا أن ننقي قلوبنا حتى نجذب إلينا معونة نعمة المخلص حتى لا يقتدر العدو علينا، لأن السفهاء الأغنياء يرومون أن يعطوه قوة علينا بإبعادنا من اللـه بمخالفتنا وصاياه المقدسة ؛ ليجدنا العدو عراة من النعمة ؛ فيقتادنا ويرشدنا إلى طريقه.فأتضرع إذاً وأتوسل إليكم دائماً ؛ أن نَهرب من الخبيث مبتعدين منه ؛ ولنحل ونفك القيود التي قيدنا بِها باختيارنا ؛ ملتجئين إلى المسيح حاملين نير تحننه الصالح الخفيف ؛ حتى إذا سلكنا في طرق وصاياه الصالح نصل إلى المدينة التي أعدها اللـه للذين أحبوه. ويليق المجد والكرامة وعظم الجلالة بالآب والابن والروح القدس ؛ إلى أبد الدهور. آمين.
مقالات مار إفرآم السريانى

عدد الزيارات 790

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل