المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها

26 ديسمبر 2020
Large image

إن بولس الرسول المشير الفاضل يعلمنا كلنا قدر بتولية النفس وطهارتها، ويحتسب درجة البتولية أفضل وأعلي من العالم لأنه قال: من له امرأة يهتم في كيف يرضي امرأته فأما المستسير بالبتولية فيهتم في أن يرضي الرب. فذاك الاهتمام يؤدي إلي العذاب وهذا يؤدي إلي الحياة الخالدة، فالطوبى للإنسان الذي يهتم في أن يرضي الرب ويحفظ جسده طاهراً ليصير هيكلاً مقدساً طاهراً للمسيح الملك. أيها الإنسان قد صرت باختيارك هيكلاً للـه لا بإلزام وغضب بل بإثرة ونشاط، وقد عرفت أن من يكن إنساناً للإله العلي يسكن روح اللـه فيه فإن كان منظفاً نقياً يقدسه ليكون استعماله مأثوراً لسيده، أسمع يا أخي المخلص ما أقول لك وأكتب ألفاظ حقارتي في قلبك، منطق ذاتك وتضرع بأمانة صافية مهذبة ورجاء ومحبة، أنتصب كالرجل الشهم لتحفظ هيكل اللـه من سائر الأفكار الدنسة والنجسة المزروعة من العدو، صر بجملة نفسك غنياً معايناً بمداومة تجارب العدو لأن تجارب الخبيث تتقاطر دائماً لتجد إنساناً مسترخياً ومتنزهاً لتفسد هيكل جسد ذاك الشقي لئلا يكون مأثوراً لاستعمال سيده، فأحذر علي نفسك لئلا توجد قابلاً بذاتك تجارب العدو، أتجهل أيها الأخ من هم المحاربون الخبثاء والمجلبون الأفكار الدنسة والشهوات الرديئة هم ” الغضب والاضطراب، السخط والمماحكة، وعبودية الآلام ” فهؤلاء هم المجربون الذين لا يخجلون، والأردياء الذين لا يكفون ولا يشبعون من الشر وإذا غلبوا يدارك برازهم دائماً لأن أصل الشهوة وقح لا يخزى، أقتلع أيها الأخ أصل الشهوة من قلبك لئلا ينبت ويينع فلو قطعتها ربوات مرات تنبت بقدر ذلك إن لم تقتلع بالجملة جدرها ، جاهد متواتراً لتكون هيكلاً للـه بلا دنس وبلا عيب، إن هيأت هيكلك للـه فالإله القدوس يعطيك عوضه الفردوس المطرب لنياحتك، صر بانتصارك علي الآلام والأفكار الدنسة حافظاً هيكلك قديساً ليكون بَهياً للـه ومقبولاً، أصغِ إلي ذاتك ألا تُدخل في الهيكل عوض السيد الأقدس الطاهر العدو النجس فيفسد هيكلك لأنه عدو ماقت الخير فإنه وقح فاسد الخلق لا يخجل تنتهره مراراً كثيرة وتخرجه إلي خارج وهو يتواقح فيلاكم ويزاحم ليدخل، أما اللـه الغير محدود الطاهر القدوس فما أبتعد هو بل أنت طردته، إذ أدخلت الدنس وصرفت القدوس، أبغضت الملك وأحببت المارد، أبعدت عين الحياة وتقلبت في الحمأة، عدمت النور وشاركت الظلمة، من أجل رخاوتك أسلمت ذاتك إلي العدو النجس، إن الإله القدوس أثر أن يسكن في هيكلك دائماً أما أنت فأحزنت السيد الصالح الرب الذي لا يشبع منه، التائق أن يعطيك ملكه لأن الصائرين هياكل لا عيب فيها وطاهرة يسكن اللـه فيهم، فإن آثرت أن يسكن اللـه في هيكل جسدك كافة أيامك التي تعيشها علي الأرض فاللـه القدوس يسكنك في فردوسه في النور الذي لا يقاس والحياة التي لا تموت إلي أبد الدهر بفرح عظيم وينجيك هناك، أتراك سمعت هذا أو قرأته أن يوماً واحداً في نور ملك اللـه كألف سنة في هذا الدهر، أفتح قلبك أيها الأخ وأقبل أن تشتاق إلي اللـه كافة أيامك فإن الاشتياق إلي اللـه هو حلاوة واستنارة وسروراً دائماً، إن صبوت إليه دائماً يسكن فيك سرمداً، إن اللـه غيور طاهر وقدوس يسكن في نفس الذين يتقونه ويصنع مراد الذين يحبونه، أتؤثر أن تكون للـه هيكلاً نظيفاً لا عيب فيه، أتخذ أيقونته في قلبك دائماً وأعني بأيقونة اللـه لا المرسومة بألوان الأصباغ علي ألواح خشب أو علي شئ آخر بل تلك الصورة المزخرفة العجيبة في النفس المرسومة فيها بالأعمال الحسنة بالأصوام بالحميات بالمسك بالاعتدال النفيس بالاسهار والصلوات، فألوان صورة السيد السمائي هي اعتدال الفضائل الأفكار النقية التعري من الأرضيات مع الطهارة والوداعة جميعاً، لا يكلل في العالم أحد خلواً من جهاد، وفي سيرة النسك بغير حرص وجهاد لا يمكن أحد أن ينال الإكليل الذي لا يذبل والحياة الخالدة، لأن هذا العالم يضاهي جلبة فالمجاهدون الكاملون بوداعتهم يضعون ذاتهم في المقام بلا خوف، أما المسترخون والخبثاء فيهربون برخاوتهم من الجهاد، فالمجاهدون الكاملون النساك وذوو الحمية والنسك قدام أعينهم الفردوس المطرب منتظرين كل حين أن يتمتعوا بكافة الخيرات في النور المؤبد والحياة الفاقدة الموت، أفتؤثر أن تجاهد وتظهر كاملاً ألبس الفضائل كثوب وإذا لبست فضيلة فجاهد ألا تنزعها، أرهب الخمر لئلا تفضحك وتعريك من الفضائل كما عرت الصديق في القديم، أتعرف قوة الخمر أم لا ؟ أسمع أنا أخبرك: نوح الرجل الصديق والبار البهي في الجيل الفاسد الذي أستحق أن يسمع من اللـه أقوالاً ومدائح لأن اللـه قال له: إياك وحدك شاهدت صديقاً في هذا الجيل الفاسد، هذا الصديق الذي غلب طوفان المياه غُلِبَ من نبيذ قليل ونام، إن المياه التي لا توصف كميتها ما غلبته والخمر اليسيرة كشفت جسد الصديق الصائر رئيس آباء الأمم، وهذا النبيذ أيضاً أسترق لوط البار في نومه لأنه سرق به من أبنتيه وحملتا منه بضد الطبيعة. الصديقون والأبرار ما شفقت عليهم الخمر، فأنت الشاب الحقير كم أولى بِها أن تغلبك، أرهب النبيذ لأنه لا يشفق علي الجسم ألبتة بل يضرم فيه نار الشهوة الرديئة، لا يتراخى جسمك بحرارته لئلا تقتنص من قبل الأفكار الرديئة والدراسة القبيحة فتكون غير فاعل بشركة الجسد وبالعقل تشارك الهذيذ الردئ، إن الخطية نفسها ضلال وصنم فإن تقدمت تمسك منها وتندم كل حين وتعانق كل وقت أصنام الخطيئة المتخائلة لناظر الذهن فتتخيل معاينتها وتكثر مناجاتها، وإذا ذقت حلاوة دراستها ترخي فكرك وتنغلب إنغلاباً لا يبرأ، وتخطئ خطأً لا يستوضح فيصيح الناظرون يشاهدونك واضحاً حاوياً كافة الوداعة وأنت في ضميرك تتعذب باطناً متندماً حزيناً بلا انقطاع لأن للإنسان ضميراً يوبخه وعادة الشهوة الرديئة المألوفة حين تكمل يتبع الحزن أثارها فيرى وجهه بالزي الظاهر وديعاً وهو من داخل لا دالة له بالكلية قدام اللـه، ترى من لا يبكي وينوح ومن لا يحزن إنه في طرفة عين واحدة يتراخى الفكر فتخطئ حينئذ إلي اللـه عمداً وتطرد منه الموهبة السماوية أعني الطهارة والبتولية، لأنه حينما يكون هيكل الجسد قديساً وطاهراً يسكن فيه الإله الأعلى فإن أنفسد الهيكل وتدنس في الحين يتركه السيد، وعوض النور السمائي والأقدس يدخل الدنس ويقطن مستوطناً تدخل لذة الشهوة الرديئة وتدنسه كل وقت، ترى من يخطر هذا في قلبه بغير دموع وهو أن الإله القدوس رفض الهيكل وسكنته الشهوة الرديئة، أتعرف ذلك فأبتعد منه لأنه من أين وإلي أين سقط إن من أصابه ذلك لا يشبع من الدموع والزفرات، من أنغلب برخاوته في الجهاد ورأى آخر غالباً في الجهاد والصراع مشهوراً بالأكلة والرايات وظافراً والجماعة يمدحونه محيطين به، تكتنفه ندامة موجعة ويعذب ذاته الحزن، فيقول في نفسه لِمَ في لحظة واحدة أنغلبت للفكر وهربت من الجهاد، فها الذين أكملوه في مجد عظيم ومدائح جسيمة وأنا أختفي بخجل لأني أنهذمت منه، كذلك يوم المجازاة إذا أبصر المسترخون والخطاة الصديقون والأبرار بسرور عظيم بعضهم في الفردوس وآخرين في الملك، آخرين في السحب يتطايرون في النور، وهم في النار التي لا تطفأ والظلمة القصوى، حينئذ تحدق بِهم ندامة عظيمة مرهوبة، وبكاء لا ينفع. فلذلك أطلب إليك يا أخي المحبوب أن تصير مشابِهاً للآباء الكاملين القديسين الذين لا عيب فيهم، أسلك علي آثار الآباء السائرين بالبتولية الطاهرة، وبالنسك المهذب، والصلاة والصوم حب النسك تُقْ إلي الصلاة مخاطباً السيد لأن كل صلاة نقية مقدسة تخاطب بها السيد، صلاة المشتاقين إلي اللـه ترتقي متواتراً بفرح عظيم إلي السماء والملائكة ورؤساء الملائكة يبتهجون بِها ويقيمونَها أمام عرش السيد الأقدس العالي سيد الكل وحينئذ يكون السرور، حين يقدمون قدام اللـه صلوات الصديقين الوادين للـه.
أحرص إذاً أيها الأخ كي تصير مضاهياً سيرة الآباء القديسين وفضائلهم، أسلك في طريق سيرتهم، إنسك نظيرهم إنسك بالمعقول، إنسك بالروح، إنسك بالجسد، إنسك بالزي، في الطعام، باللسان، بالناظر، بالفكر، بالضحك، لتستبين في كل شئ كمجاهد كامل، أصغِ إلي ذاتك وأحذر أن توجد إذا صليت متنزهاً طموحاً، إذا أنتصبت تصلي إلي اللـه فقف بخشية ورعدة، أطرح من قلبك وما يحوط به الفكر والاهتمام بسائر الأرضيات، صر بكليتك أجمع في ساعة الصلاة ملاكاً سمائياً وجاهد أن تكون صلاتك مقدسة ونقية بلا وسخ ولا عيب حتى إذا بلغت الأبواب السمائية وقرعت للحين تفتح لها، وإذا أبصرها الملائكة ورؤساء الملائكة يستقبلونها كلهم مسرورين ويقدمونها إلي عرش السيد الطاهر الأقدس والشاهق، صر كل وقت في ساعة الصلاة كالشاروبيم والساروفيم ماثلاً أمام اللـه. أيها الأخ أدرس هذه الأقوال وترنم بها بخشية وبهجة فإنها ترزق النفس أغذية روحانية، وتنتزع منها مرارة العالم الباطل وتحليها وتخففها من ثقل المهمات الأرضية والأمور الوقتية، كل ما سمعته أحرص أن تحفظه بعقلك دائماً فيرتاح اللـه فيك وتجد دالة في الساعة المرهوبة المرعبة إذا جاء المسيح ليجازي كل أحد نظير عمله. له المجد دائماً وعلينا رحمته آمـين
مقالات مار إفرآم السريانى

عدد الزيارات 489

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل