«والكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)

05 يناير 2021
Large image

كلمة الله ربنا يسوع المسيح:-
نَعْلَم أن الله خَلَقَ الإنسان على صورتـه ومثاله، وأعطاه شـركة في قوة كلمته الحيَّة، ووهبه نعمة الروح القدس عندمـا نفخ في أنفه نسمة الحياة، هذه النعمة التي تُهيِّئ الإنسان للشركة مع الله والتمتُّع بالحياة الأبديـة معه. ولكـن عندما تعدَّى الإنسان وصية الله، سقط مـن النعمة، وتعرَّى من الروح القدس الحافظ له والذي يطبع صورة الله في كيانه البشري؛ وبـالتالي سـاد عليـه الفسـاد والموت، وتشوَّهت صورة الله التي خُلِقَ عليها ولكن الله، مـن قِبَل صلاحـه ومحبته لنا، لم يترك خليقته تهلك هكـذا ويسـود عليها الموت. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي[من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد، تلك الخليقة (ويقصد ”البشر“) التي خُلِقَت عاقلة، وكان لها شركة في الكلمة. وأيضاً لأنه سيكون مـن غير اللائـق بصلاح الله أن تَفْنَى خليقتـه بسبب غوايـة الشيطان للبشـر. ومـن ناحيةٍ أخرى، كـان سيصبح مـن غير اللائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بيـد البشـر، إمـا بسبب إهمالهم أو بسبب غوايـة الشياطين. فطالما طـال الفسـاد الخليقة العاقلة، وكـانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الـذي كـان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيـترك الفسـاد يُسيطر على البشر، والمـوت ليسود عليهم؟ وما المنفعة، إذن، من خِلْقتهم منذ البدء؟ لأنـه كـان أفضل، بالحري، ألاَّ يُخلَقوا بـالمرَّة مـن أن يُخلقـوا وبعد ذلـك يُهمَلوا ويَفْنَوا... كان يجب، إذن، أن لا يُترَك البشر لينقادوا للفساد، لأن هـذا يُعتَبَر عملاً غير لائق ويتعارَض مع صلاح الله](1).وبسبب التعدِّي والسقوط تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان، وانطمست ملامحها في كيانه البشري، دون أن يفقدها؛ ولكنه فَقَد النعمة الإلهية التي تؤهِّله للبلوغ إلى مثـال أو كمـال الصورة الإلهية التي طبعها الروح القدس فيه.ولا يمكـن للإنسان أن يستعيد بنفسـه بهاء الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها، لأنه ليس هـو صورة الله. ولا يمكن لخليقةٍ أخرى أو ملائكة أن تُجدِّد صورة الله التي انطمست في الإنسان، لأنهم ليسوا صُوَراً لله. لذلك، بحسب عِلْم الله السابق ومعرفته الأزلية، جاء كلمة الله نفسه، الذي هو صورة الله الأزلية، والذي بـه خُلِقَت كل الخليقة؛ جـاء ليُجدِّد الصـورة التي جُبِـلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط.
+ ويوضِّح هـذا الأمـر القديس أثناسيوس الرسولي بقوله[وكما أنـه لـو كـانت هناك صورة لشخصٍ مرسومة على قماش مُثبَّت على لوحـةٍ خشبية، وتلطَّخت هـذه الصورة مـن الخارج بالأقذار، ما أدَّى إلى اختفاء ملامحها؛ ففي هذه الحالة لابد مـن حضور صاحب الصورة نفسها ثانيةً لكي يمكن إعـادة تجديـد الصورة على نفس قماش اللوحة. فلا يُلقي بالقماش، لأن صورته رُسِمَت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرَّةً أخرى.وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كُلِّي القداسة ابـن الآب، إذ هو صورة الآب، لكي يُجدِّد الإنسان الذي خُلِقَ مرَّة على صورتـه، ويُخلِّص مَن قد هلك بمغفرة الخطايا...](2).
كلمة الله أخلى ذاته من مجد الأُلوهة:-
لقد تواضَع كلمة الله ونزل إلى عالمنا الفاسد لكي يُخلِّص جنس البشر، ويُعيد إليهم ما فقدوه من نعمـة إلهية، ويُجـدِّد فيهم الصورة الإلهية التي تشوَّهت. ولكنه لكي يصير إنساناً كان لابد له أن يُخلي نفسه من بهاء ومجد لاهوته، دون أن يُفرغ نفسه مـن لاهوتـه. وكما يقول بولس الرسول: «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 6-8).
+ وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير[إنَّ الله الكلمة بطبيعته كامل مـن كل الوجوه، ومِن مِلْئه يُوزِّع عطاياه للخلائق. ونحن نقول عنه إنه ”أفرغ ذاته“ دون أن يمسَّ هذا بطبيعته (الإلهية)، لأنه عندما أفرغ (أخلى) ذاته لم يتغيِّر إلى طبيعةٍ أخرى، ولم يصبح أقل مِمَّا كان عليه، لأنه لم ينقص شيئاً. هـو غير مُتغيِّر مثل الذي ولـده (الآب)، ومثله تمامـاً غير عُرضة للأهواء. ولكن عندمـا صار جسداً أي إنسانـاً، جعل فقـر الطبيعة الإنسانية فقـره، ولذا قال: «سأسكب مـن روحي على كـلِّ جسد» (يوئيل 2: 28)](3).
كلمة الله صار جسداً (أي إنساناً)
مع بقائه إلهاً كما كان منذ الأزل:-
في رسالتـه الأولى ضد الآريـوسيين، أراد القديس أثناسيوس الرسولي أن يوضِّح أن كلمة الله مـن حيث لاهوته هو غير مُتغيِّر، إذ يقول[إن كـان الكلمة مُتغيِّراً وقابلاً للتحوُّل، ففي أيَّة نقطـة، إذن، سيتوقَّف (عـن التغيير)؟ ومـاذا ستكون نهاية عملية تطوُّره هذه؟... لأنه كيف لا يكون كاملاً هذا الذي هو مساوٍ لله؟ أو كيف لا يكون غير مُتغيِّر هـذا الذي هـو واحد مع الآب، وهو نفسه ابنه مـن ذات جوهره؟ ولأن جوهـر الآب غير مُتغيِّر، فبالضرورة يكـون مولوده الذاتي أيضاً غير متغيِّر](4) أمَّـا في تنازُله وتجسُّده، فكلمة الله لم يفقد شيئاً من لاهوته المساوي للآب في الجوهر، ولم يتحوَّل بالتالي لاهوته إلى جسدٍ؛ بل صار كلمة الله جسداً مع بقائه إلهاً بسـرٍّ لا يُنطَق بـه. وهذا ما نُردِّده في التسبحة اليومية، وخـاصةً مـرد ثيئوطـوكية يوم الخميس: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابـن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“.ويشـرح القديس أثناسيوس الرسولي كيف صار الكلمة جسداً، قائلاً[(لقد) صـار الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) هـو جسد الإله، ليس كمساوٍ له في الجوهر، لأنه ليس أزليّاً مع الكلمة؛ وإنما ”صار“ معه بالطبيعة جسده، دون أن ينفصل عن اللاهوت بسبب قوَّة الاتِّحاد. وظلَّ جسداً من نسل داود وإبراهيم وآدم الذيـن تناسلنا منهم جميعاً. ولـو كـان الجسد مُساويـاً لجوهر الكلمة وأزليّاً معه... لأصبحت كـل الخلائـق السماويـة مساوية في جوهر الله خالق كـل الأشياء... إنَّ المساوي في الجوهـر لـه في الحقيقة ذات صفات الجوهـر، أي أنـه غير مُتغيِّر وغير قابـل للموت. وهنا لا يجوز الكلام عـن الاتِّحاد مـا دام الناسوت مساوياً في الجوهر لأقنوم الكلمـة، بـل لا يبقـى مجـالٌ للاتِّحاد الأقنومي](5).
لاهوته لم يُفارق ناسوته:-
يشرح القديس كيرلس الكبير اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح الواحد، قائلاً[عندما نقول إنَا كلمة الله اتَّحد بطبيعتنا، فإنَّ كيفية هـذا الاتحاد هي فـوق فَهم البشر... فهو اتِّحادٌ لا يوصَف وغير معروف لأيٍّ من الناس سوى الله وحده الذي يعرف كل شيء... لكن إذا طُلِبَ منَّا أن نُحدِّد كيفية اتِّحاد اللاهوت بالناسوت، وهـو أمرٌ يفوق كل فَهم بل صعبٌ جداً! نقول: إنه من اللائق أن نعتقد أنَّ اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في عمانوئيل، هو مثل اتِّحاد نفس الإنسان بجسده... فإذا ضُرِبَ الجسد أو جُرِحَ بالحديد مثلاً، فإنَّ النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألَّم بالآلام المادية التي تقع على الجسد ويمكننا أن نرى أيضاً الجمرة مثالاً لكلمة الله المُتَّحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه؛ بل حـوَّل مـا أخذه (أي الطبيعة البشريـة) وجعله متَّحداً به، بـل بمجده وبعمله. لأن النار عندمـا تتصل بالخشب تستحوذ عليه، لكن الخشب يظلُّ خشباً، فقط يتغيَّر إلى شكل النار وقـوَّتها، بـل يصبح له صفات النار وطاقتها، ويُعتَبَر واحـداً معهـا. هكـذا أيضاً يجب أن يكـون اعتقادنـا في المسيح، لأن الله اتَّحـد بـالإنسانية بطريقـةٍ لا يُنطَق بها، ولكنـه أَبقى على خواص الناسوت على النحـو الذي نعرفـه، وهـو نفسـه لم يفقد خواص اللاهوت عندمـا اتَّحد بـه (بالناسوت)، بـل جعلـه واحـداً معـه، وجعـل خـواص (الناسوت) خواصه، بل هو نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (أي في الناسوت)](6).
كلمة الله صار إنساناً كاملاً:-
لقـد سـقط أبوليناريـوس أسقف اللاذقيـة في سوريـا (من 372-392م) هـو نفسه في الهرطقةٍ عندما هاجَمَ هرطقة آريـوس الذي كـان يُشيع أنَّ الرب يسوع هو بِكْر خليقة الله، وبالتالي فهو مجازاً إلهٌ ثانوي، خَلَقه الله لكي يخلق بـه كـل الكائنات؛ ولذلك فإنـه مـن جوهر مختلف عـن جوهر الله، وبالتالي فهـو غير مسـاوٍ للآب في الجوهـر. أمَّا أبوليناريوس فهـو يَعتَبِر أنَّ لاهوت ابن الله حلَّ محل النفس البشريـة في الناسوت الذي اتَّحد بـه، وبالتالي فكلمـة الله اتَّحـد بطبيعـة بشريـة ناقصـة. وقـد نَسِيَ مـا حـدَّده آبـاء الكنيسـة، ومنهـم القديس غريغوريوس اللاهوتي القائل: ”ما لم يتَّحد بـه الرب عندما تجسَّد هـو مـا بَقِيَ بدون شفاء، أمَّا ما اتَّحد بأُلوهيته فقد خَلَص. إذا كان نصف كيان آدم فقط (أي الجسد) قد سقط، فإنَّ ما اتَّحد به الرب هو نصف آدم، وبالتالي خَلَص هذا النصف“(7) فـالخلاص تحقَّق باتِّحاد لاهـوت ربنا يسوع المسيح بكلِّ مُكوِّنات الناسوت، فكلُّ ما اتَّحد به كلمة الله نـال الخلاص، وما لم يتَّحد به كلمة الله لم يَنَل الخلاص، بل يبقى في الموت. ولذلك يُكمِل القديس غريغوريوس اللاهوتي كلامه قائلاً[لقد حُكِمَ على عقلنا، وهذا يعني أنه قد حُكِمَ على جسدنا أيضاً. فإذا كان الرب قـد اتَّحد بما هو وضيع (أي الجسد) لكي يُقدِّسه، فهل لا يتَّحد بما هـو سـامٍ (أي النفس البشرية) لقد سقط آدم بعقله أولاً، ولذلك كـان على المسيح أن يأخذ عقلاً إنسانياً لكي يُقدِّس العقل الإنساني](8) لقد اتَّحد كلمة الله بكلِّ الكيان الإنساني، نفساً وجسداً، وبـذلك نـال الإنسان بجملته الخلاص: نفساً وجسداً. ومعنى هـذا أن كـل ثمار وقـوَّة هـذا الاتِّحاد الأقنومي بين اللاهـوت والناسوت في المسيح يسوع، تُنقَل إلى كل الكيان البشري لقـد سقط الهراطقـة في هـذا الخطأ لأنهـم يعتقدون أنَّ الشرَّ هـو جزءٌ مـن الخليقة، وأنَّ له جوهـراً وكيانـاً صنعه الله. أمَّـا آبـاء الكنيسة، فيؤكِّدون أن الشرَّ بلا جوهر وبلا كيان، بل هو من اختراع العقل البشري، وأنَّ الإنسان بطبيعته ليس شريـراً، وإنمـا يصبح شريراً إذا مارَس الخطية والشـر وحتى الطبيعة البشريـة، بعد السقوط، لم تَصِر طبيعـة شريـرة، إذ لم تُخلَق شريرة، بل هي طبيعة مريضة تحتاج إلى العلاج. ولأن من سِمات الصورة التي جُبِلَ عليها الإنسـان: العقل والإرادة والحريـة؛ فصار، إذن، كلُّ إنسان مسئولاً عـن اختياراتـه، وفي النهايـة سيتحمَّـل نتيجـة هـذه الاختيارات. فـالطبيعة البشريـة لم تتحـوَّل نتيجة السقوط إلى شـرٍّ، بـل أُدخِلَ عليها الشر، وسـاد عليها الفسـاد، وتسلَّط عليها الموت بسبب التعدِّي. ولذلك صارت مُحتاجة إلى الخلاص والحياة الأبدية وفي تفسيره لآيـة سِفْر نشيد الأنشاد: «أنـا نرجس شارون، سوسنة الأودية» (2: 1)، يُشير القديس كيرلس الكبير، في سرٍّ، إلى أنَّ الناسوت الذي اتَّحد به كلمة الله كان ناسوتاً كاملاً، قائلاً [السوسنة واحـدة مـن اثنين (الرائحة وجسم السوسنة). وغيـاب رائحـة السوسنة لا يجعلها سوسنة. وكـذلك غياب جسم السوسنة لا يُفسِّر وجـود رائحة السوسنة، لأن في جسم السوسنة رائحتها... لأنـه عندما أراد (كلمة الله) أن يُعلِن عن ذاته مـن خلال الجسد، جعل فيه (أي في الطبيعة البشرية كلها) كل ما يخص اللاهوت](9).
(1) ”تجسُّد الكلمة“، 6: 4-7، 10.
(2) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 2،1.
(3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 5.
(4) ”ضد الآريوسيين“، 10: 35.
(5) ”ضد أبوليناريوس“: 13.
(6) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 9،8.
(7) رسالة 101.
(8) رسالة 101؛ ومقالة 22: 13.
(9) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 10.

عدد الزيارات 995

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل