«مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ»

12 فبراير 2021
Large image

ما أجمل قول الرسول بولس الذي قاله عن فم المسيح.. لم يُذكَر هذا القول في الأناجيل الأربعة، ولكنّه سمعه منه شخصيًّا مصدر العطاء هو المسيح ذاته.. الذي بذل ذاته وأعطانا جسده ودمه. هذا هو قمة السخاء وبالفعل «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ.» (يو15: 13). وحين يملك المسيح على القلب يفيض القلب عطاءًا وسخاءًا وفرحًا. أمّا الشُّحّ والبُخل فهي علامات للأنانية وحُبّ الذات.
قرأتُ اليوم خبر انتقال إنسان في بلغاريا إلى الفردوس عن عمر يناهز 103 سنة. كان في بداية حياته يمتلك مزرعة، باعها وتَصَدَّق بها، وعاش فقيرًا مُعدَمًا باقي حياته.. سَكَن في كوخ صغير، وصار يتسوّل كلّ يوم في شوارع صوفيا (عاصمة بلغاريا) وهو يصلِّي الصلاة الدائمة. وكان الناس يُشفقون عليه، بسبب منظره المسكين وسِنّه المتقدمة. والغريب في أمره أنّه لم يكُن يقتني شيئًا، ولا يتسوّل لنفسه.. بل كان كلّ ما يحصُل عليه في يومه يُقدّمه خدمةً للأيتام في الملاجئ، وللمحتاجين على اختلاف حالاتهم.. تعجّبتُ جدًّا. إلى هذه الدرجة.. لعشرات السنين يفعل هذا؟ ما الدافع؟ وما هو السرّ وراء ذلك؟
بكلّ تأكيد إنّه ذاق نعمةً وغِبطةً لم يذُقها أحد.. لقد اختبر النعمة أن يعطي ويفرح، ولمّا باع ما كان له لم يكتفِ، بل ظلّ فِعل الخير والاحسان يدفعه دفعًا بلا توقُّف وبلا كَلل. وقبلَ على نفسه أن يصير فقيرًا بل شحّاذًا، من أجل خدمة أخوة الربّ الأصاغر.
بل يَحكي تاريخ الكنيسة قِصّة القديس بطرس الذي كان بخيلاً جدًّا، فلمّا افتقدَتْه النعمة تبدَّل حاله إلى أكثر الناس عطاءًا. فلمّا باع كلّ ما له، باع نفسه عبدًا، وتَصَدّق بثمن حرّيته للمحتاجين.
إنّها نعمة لا يعرفها إلاّ المختبِرين.. هي بعيدة عن كلّ المظاهر والاعلانات والافتخار الباطل.. هي نعمة باطنيّة حرصَ عليها كلّ مَن اختبرها. هم أحبّوا المسيح حبًّا طاغيًا.. أحبّوه في الفقراء والضعفاء والمرضى وكلّ ذي حاجة. رأوه عريانًا وجائعًا وعطشانًا ومحبوسًا ومريضًا فأتوا إليه وخدموه.
الأمر ليس مقصورًا على الأغنياء الذين يتصدّقون مِن فائض ما عندهم، فهناك فقراء جدًّا، بل ومُعدَمين، ولكنّهم يحبّون العطاء.وقصّة الأرملة الفقيرة التي مدحها المسيح في الإنجيل، وقبلَ عطيّة الفلسين من يدها، وشهد عنها أنّها أعطَتْ أكثر من جميع الذين قدّموا. هذه القصة قد صارت نموذجًا وأيقونة للعطاء المقبول لدى المسيح. وقد جعلَتْها الكنيسة في أوشية القرابين فنقول هكذا للرب «وكما قبلتَ إليك قرابين هابيل الصديق وذبيحة أبينا ابراهيم وفلسي الأرملة، هكذا نذور عبيدك اقبلها إليك». فكأن فلسيّ الأرملة قد توازَتْ مع ذبيحة أبينا ابراهيم وقرابين هابيل.. ياللعجب!!
لذلك أَعطِ روح الله الحالّ فيك أن يستخدمك للعطاء. لقد قال الرسول عن المؤمنين «فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ» (2كو8: 2، 3). لقد صار العطاء تلقائيًّا عندما حلت نعمة الله عليهم، كما كان في البداية أيضًا، فكلّ الذين آمنوا وقبلوا روح الله تخلُّوا تلقائيًّا عما كان لهم بكلّ الفرح والسرور، دون أن يسألهم أحد أن يفعلوا ذلك السرّ أنّهم أعطوا أنفسهم للرب.. فعمل بهم وفيهم ثمر السخاء والبذل بكلّ الفرح، ليس عن اضطرار، أو بسبب الإحراج، أو حُبّ الظهور. لقد تبعوا قول الرب القائل «لتكن صَدَقَتُكَ (رحمتُك) فِي الْخَفَاءِ» (مت6: 4) كذلك الأمر يحتاج إلى تدريب.. فالطبيعة البشريّة تحبّ الأخذ دون العطاء، وتفرح بالامتلاك والاكتناز. أمّا النعمة فعلى العكس، فالنعمة سخيّة باذِلة مُضَحِّية لا تطلب ما لنفسها. فعلينا إذن أن ننحاز للنعمة، لكي نَغلب الطبيعة، ونُسرَّ بحركات النعمة التي تقودنا لعمل الخير، وتفتح لنا المجالات وتشجّعنا وتُحبِّب لنا البذل والعطاء.
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 789

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل