" وقالَ لِقَوْمٍ واثقين بأنفُسِهِمْ أَنهم أبرار، وَيَحْتَقِرُونَ الآخرين هذا المثل: إنسانان صعدا إلى الهيكل ليُصَلِّيا، واحِدٌ فريسي والآخَرُ عَشَارٌ. أَمَّا الفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكذا : اللَّهُمَّ أنا أشكُرُكَ أني لستُ مِثْلَ باقي الناس الخاطفين الظَّالِمِينَ الزُّناةِ، ولا مثل هذا العشار. " أصومُ مَرَّتَين في الأسبوع، وأَعَشرُ كُلَّ ما أقتنيه . " وأمّا العَشَارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحوَ السماء، بل قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قائلاً: اللَّهُمَّ ارحمني، أنا الخاطئ. أقولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دونَ ذاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ،وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ ".
يسوع المخلص:
إن الرب يسوع في تعليمه الإلهي يلمس مواضع أوجاع البشرية كمخلص، فهو يكشف عوار النفس لأن عينيه تخترقان أستار الظلام وهو قابل الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر ، وهو العارف بقلب كل واحد وكل شيء مكشوف وعريان أمامه، وتصعد إليه من قلوب أصفيائه كلمات الصلاة مختلطة بعواطف زكية تستقيم كالبخور الصاعد إلى عنان السماء، بينما تكون صلاة الأشرار مكرهة قدامه إذ تكون مختلطة بدنس القلب ولو زينت بأجمل الكلمات. فالله يقبل الصلاة لا من اللسان والكلام بل من القلب حيث يكمن كنز الإنسان... يا ابني أعطني قلبك"... "ليس كل من يقول لي يارب يارب"... "لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم".
راجع (مت ٦ : ٧).إذا لنحذر ونقدم الصلاة دائمًا من القلب ولا تكن صلواتنا ترديدات وكلمات، ولنتعلم أنه في حالة وقوفنا أمامه يحكم على صلاتنا إما للبر كالعشار وإما بالرفض مثل الفريسي الذي صارت صلاته دينونة وحسبت صلاته عليه وليست له.
البار في عيني نفسه:
قال لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار". هذا هو أصل الداء، الذي أراد الرب بهذا المثل أن يخلصنا منه ويطهر قلوبنا وأذهاننا من هذا العيب القاتل. والحقيقة أن هذا المرض والانحراف في الحياة الروحية يصيب بالأكثر المواظبين على العبادة والصلاة، وقد تكون الثقة في الذات من حيث المعرفة أو الحكمة أو الإمكانيات الذاتية أو القدرات أو المهارات. وقد نبه الكتاب المقدس "فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر، لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء" (رو ۱۱: ٢٥) ، "ليمدحك الغريب لا فمك "(ام٢:٢٧) وقد يثق الإنسان في فهمه فيضل طريقه ويتعثر كثيرًا لأن الكتاب يقول : "توكل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد" (أم ٣: ٥).ويقول: "لا يخد عن أحد نفسه. إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر ، فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا"(١كو١٨:٣)
ويقع الإنسان في غباوة الذين إذ كانوا حكماء في أعين أنفسهم فإنهم لا يفهمون مكنونات الحكمة الإلهية، أما أن يثق الإنسان في بره وتقواه وصلاحه فهذا أمر مخيف حقا. فالمثل قاله الرب لأناس واثقين بأنفسهم من جهة البر... يا للغباوة التي أصابت الذهن، والعمى الروحي الدافع إلى الهلاك. إن هذا المرض الخطير صار ظاهرة متفشية في أيامنا تحتاج إلى مراجعات كثيرة من أين تأتي الثقة بالنفس بأن يكون الإنسان بارًا في عيني نفسه؟!.
الواقع أن ذلك يرجع لانطماس البصيرة الروحية فلم يعد الإنسان يرى خطاياه ولا ضعفاته، بل يرى أنه غني وأنه استغنى ولا حاجة له إلى شيء وهو كما يقول سفر الرؤيا:"لأنك تقول: إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ ۳: ۱۷). إنه إنسان نسي تطهير خطاياه السابقة،نسي أن الله ينظر إلى السماء ذاتها وكأنها غير طاهرة قدام عينيه وإلى ملائكته ينسب حماقة "هوذا عبيده لا يأتمنهم، وإلى ملائكته ينسب حماقة" (أي ١٨:٤). غاب عن ذهن هذا الإنسان موقف الآباء القديسين الذين كان منهجهم الإنجيلي واضحًا "كذلك أنتم أيضًا، متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا : إنَّنا عبيد بطالُون، لأننا إنَّما عملنا ما كان يجب علينا" (لو ۱۷ : ۱۰). الذين وضعوا أمامهم قول الرب: "فإني أقول لكم: إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات" (مت ه: ۲۰). إن البار في عيني نفسه لا يرى سواها، هذا نوع من تأله الذات... بل إن العبادة كلها تتحول إلى مظاهر تعود بالمدح على الذات وإثبات برها أمام الناس وتضخمها في عين صاحبها ... يصوم لينظره الناس، يُصلي ويتصدق سعيا وراء تمجيد الذات، ويمارس عبادات ونسكيات كثيرة لتأكيد البر الذاتي... وكل هذا يعمله بحبكة وحرفية رهيبة. وعندما تقع على هذا المسكين حيل الذات الخبيثة يصدق زيفها ويقتنع بإتقان دورها الذي أخذت فيه الصدارة في مجال أعمال البر وحفظ الوصايا والواقع المر أن الإنسان أبعد ما يكون عن البر في عيني الله، إذ يكون قد استوفى أجره كاملاً مدحًا من الناس ومدحا من نفسه لنفسه.
ويحتقرون الآخرين:
إن البار في عيني نفسه لا يرى في غيره فضيلة، ولكن عينه تبحث عن نقائص الناس، وإذ يقيس غيره على ذاته المتعظمة المتألهة يتضاءل شأن الناس جميعًا في نظره من ناحية البر والفضيلة مهما كان شأنهم ولو أن الفريسي اكتفى بمدح نفسه وإظهار بره الكاذب أمام الله لهان الأمر، ولكنه تعدى ذلك إلى ذم الناس عامة ثم تعدى بالأكثر إلى احتقار العشار الواقف بجواره. على العكس تماما كان الآباء القديسون ... ما نظروا إنسانًا قط إلا ورأوا فيه فضيلة وتعلموا منه درسا وما قارنوا أنفسهم بأحد إلا ووجدوا أنفسهم في الموازين إلى فوق.
العين البسيطة:
قيل إن أحد الآباء ذهب إلى أبيه الروحي في البرية حزينًا متألما فلما سأله أبوه عن سبب حزنه قال له: لقد جلست في قلايتي أعدد فضائل أخي فوجدتها ثلاثين فضيلة، ولما بحثت في نفسي بالمقارنة لم أجد فضيلة واحدة... فعزاه أبوه الروحي قائلاً : إن رؤيتك لفضائل أخيك بينما لم تر في نفسك غير النقص هذا في حد ذاته يعتبر فضيلة الفضائل، يا للعين البسيطة النقية التي ترى فضائل الناس وحين تبحث عن العيوب لا تجدها سوى في نفسها.
محتقر الآخرين:
كيف يصل الإنسان إلى احتقار الآخرين؟.
لا شك أن العين إذا امتلأت شرًا لا ترى سوى من خلال شرها فترى شرًا في كل أحد. "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" (مت ۷: ۳).المحتقر الآخرين يقود الناس إلى الرجم كبريء، ولكن ماذا يفعل حينما يواجهه الرب بالكتابة أي سجل خطاياه السالفة ويقول : من منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر ؟ المحتقر الآخرين هو مخدوع مأخوذ في حفرة من أعلمه بقلوب الناس وسرائرهم من أنت يا من تدين عبد غيرك هو لمولاه المحتقر الآخرين لا يلتمس عذرًا لأخيه في خطيته لا يرحم ولا يعرف سبيلاً للمحبة بحسب المسيح. الآباء القديسون عندما رأوا خطايا آخرين ستروها بالمحبة وتوبوا أصحابها بمسلك روحاني "أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأخذ في زلة ما ، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا" (غل ٦ : ١). وعندما رأوا أخا يخطى اعتبروها خطيتهم الخاصة وبكوا وناحوا وصلوا وتضرعوا ولم يحتقروه !!. "وقال القَوْم واثقين بأنفُسِهم أنهم أبرار، ويحتقرون الآخرين هذا المثل" (لو ۱۸ :۹) ، مثل الفريسي والعشار. إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا":
هذه بداية كلام الرب شافي نفوسنا فالفريسي والعشار أولاً وآخرًا هما إنسانان أمام الله والإنسان ضعيف مهما عظم شأنه، صغير مهما كبر ، إنهما أمام الله إنسانان. عندما نقف للصلاة نصير أمامه مجردين تماما لا اسم ولا رتبة ولا وظيفة ولا لقب ولا شكل ولا شيء بالمرة. فأنت قبل وبعد كل شيء الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا" (أي ١٤: ١). وما أجمل العبارة التي قالها إشعياء النبي: "كفوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة، لأنه ماذا يُحسب" (إش ۲: ۲۲). القديسون العظام حينما وقفوا أمام الله ما وجدوا شيئًا يتقدمون به إلى الله فوقفوا أمامه عراه وضعفاء لم يضبطوا قوة كدانيال، وكإبراهيم أب الآباء حين قال: "إني قد شرعت أن أكلم المولى وأنا تُراب ورماد" (تك ۱۸: ۲۷)، وأيوب الصديق يقول: "لذلك أرفض وأندَم في التراب والرماد" (أي ٦:٤٢)، وداود النبي يقول : "يارب، أي شيء هو الإنسان حتى تعرفه، أو ابن الإنسان حتى تفتكر به" (مز ١٤٤: ٣)، ويقول: لصقت بالتراب نفسي، فأحيني حسب كلمتك " (مز (۱۱۹ : ٢٥). الإنسان عرضة للتغير، عرضة للضعف، عرضة للسقوط لولا نعمة الله معه. فكم من إنسان بدأ بالروح وكمل بالجسد، كم من إنسان سما في الفضيلة ثم سقط من رتبته !! وعلى العكس كم من إنسان رفعه الله من المزبلة ليجلس مع رؤساء شعبه راجع مت (۱۹ :۳۰). ولكن الفريسي نسي في صلاته أنه إنسان!! يا للحسرة نسي أنه نفخة وتراب وبخار !! وضع الرب أمامنا هذا النموذج "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" ترى هل تُسمي هذه صلاة ؟ إنه واقف أمام الله
لا ليأخذ بل كأنه يُعطي !!
إنه الشعور بتكميل الواجبات نحو الله. ماذا يريد الله مني بعد ذلك؟ ليس له عندي شيء !! إنه شعور مؤسف حقا كأن الإنسان يتفضل على الله. ما هي صلواتنا وما هي أصوامنا وما هي عشورنا في حد ذاتها ؟ هل الله محتاج إلى هذه كلها ؟ حاشا . هل الله معوز لعبادتنا ؟ ماذا لو لم يقدم إنسان كل هذه الأمور هل ينقص الله شيء ؟
إن الله هو مصدر النعم، وأصل كل بركة ومنه وله كل الأشياء نحن حينما نُصلي نأخذ من الله، وحينما نصوم نأخذ من الله، وحينما نُعطي نأخذ من الله. هو المنعم دائما المعطي بسخاء ، الكريم في التوزيع... "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظلُّ دَوَران" (یع ۱: ۱۷).
مقارنة مغلوطة
تلك المقارنة في كلمات الفريسي تحوي خداعًا قاتلاً قد يكون في كلام الفريسي شيء من الصدق أنه ليس مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة. والسؤال لماذا قاس نفسه بهذه العينات الساقطة من الناس ؟ لماذا لم يقارن نفسه بالقديسين والأبرار والشهداء الذين أحبوا الرب حتى الموت؟! لماذا لم يقارن صلواته بصلوات الأبرار التي تقتدر كثيرًا في فعلها كصلاة نحميا وعزرا ودانيال والثلاثة فتية القديسين في أتون النار ؟!
لماذا لم يقارن صومه بأصوام الأبرار ؟ كموسى وإيليا اللذين صاما أربعين يومًا كاملة، ولا بصوم أستير بتذللها حتى استدرت مراحم الرب، ولا بصوم أهل نينوى الذين رفع الله غضبه عنهم ؟! ولكنه وضع أمامه أمثلة ضعيفة ساقطة منحرفة لكي يزكي ذاته.
إنه يصوم مرتين كل أسبوع:
وهكذا من جهة العطاء : إنه يعشر كل ما يقتنيه... ألم يكشف الرب عوار الفريسيين حين قال: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون، وتركتم أثقل الناموس : الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك" (مت ۲۳ : ۲۳).تعشرون النعنع والبقول وتأكلون بيوت الأرامل، أيها الفريسي الأعمى تُصلي قائمًا في زوايا الشوارع لكي ينظرك الناس مزكى من الخارج وبواطنك مملوءة غش مثل قبر مبيض؟ ما أكره الرياء !.
ما أحقرك أيتها الفريسية التي حجبت وجه الله فردت صلاة الفريسي الأعمى إلى حضنه وأرجعت كلماته إليه بعد أن أُغلقت السماء دونها !.
القياس السلبي:
القياس إلى أناس فاسدي الرأي وعادمي الذهن، والمقارنة بالمستويات الدون والسلوكيات البغيضة تؤله الذات وتجعل الإنسان بارًا في عيني نفسه، أليس هذا هو منطق كثيرين حين تبلغ إليهم كلمة الإنجيل منبهة. فيقول قائل: "أنا إنسان لا أؤذي أحدًا ولا أضر أحدًا ولا أضمر لإنسان شرا ولا أحلف ولا أشتم ولم أسرق ولم أزن وهكذا ببساطة شديدة يبرر الإنسان ذاته ويبدو كأنه غير ناقص وغير محتاج. أو قل أنه قد وصل إلى الكمال الروحي لقد وقع المسكين في الفخ وقاس نفسه بقياس مغلوط. إن قياسنا الصحيح هو ملء قامة المسيح. والسعي إلى أن نبلغ الذي من أجله قد أدركنا المسيح لعلنا نبلغ إلى قيامة الأموات والرب ترك لنا مثالاً لنقتفي آثار خطواته... فإن عرفنا هذا فلنخرج على آثار الغنم لكي لا تضل أقدامنا سبل الحياة ... لنخرج على آثار الآباء في الفضيلة والسعي وراء المسيح وإنكار الذات والحب الحقيقي والاتضاع الكامل "كونوا متمثلين بي ما أنا أيضًا بالمسيح" (۱کو ۱۱: ۱).
ولا مثل هذا العشار
يا ليتك كنت مثل هذا العشار الكنيسة وضعت في أفواهنا كلمات العشار نكررها كل يوم في الصلاة وصار منهج العشار في قرع صدره وتنكيس رأسه وخفض نظره في خوف ورعدة كثيرة صار كل هذا نموذجا رائعًا يُحتذى به في كنيسة الله!!. أما الفريسي فلم ير شيئًا في هذا العشار سوى خطايا منظره الخارجي. ألم يصر العشار "متى" واحدًا من الاثنى عشر رسولاً الأطهار تلاميذ الرب الذين صاروا أساسات سور أورشليم السمائية - ليتك يا أخي تبرأ من إطلاق لسانك بالجيد والرديء على الناس - العبرة بالنهايات دائما قال الرب للفريسيين: "العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت ۲۱: ۳۱).
صلاة العشار :
أما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء. قال أحد الآباء : إن صلاة العشار غلبت الله الذي لا يغلب لماذا وقف من بعيد. إنه شاعر أنه ليس له جرأة ولا جسارة ولا قدوم بسبب خطاياه. إنه يشعر في أعماقه ببعد المسافة بينه وبين الله القدوس لذلك وقف من بعيد أية خلطة للبر مع الأثم ؟ بأي استحقاق يقف أمام قدوس القديسين الساكن في النور الذي لا يُدنى منه؟ كيف يتقرب إليه إنسان خاطئ. هو ذات الشعور الذي سكن قلب المرأة الخاطئة فجاءت من وراء الرب عند قدميه باكية. الخوف والرعدة هما الإحساس الطبيعي للقلب المتضع عندما يتراءى أمام الله. إشعياء النبي اعتراه خوف عندما رأى السيد الرب جالسًا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل فصرخ قائلاً: "فقلت: ويل لي! إني هلكت،لأني إنسان نجس الشفتين" (إش ٦ : ٥). ذات الشعور اجتاح قلب بطرس عند صيد السمك الكثير فطلب إلى الرب قائلاً : "اخرج من سفينتي يارب، لأني رجل خاطئ" (لوه: (٨). من يستطيع أن يقترب إلى غير المتقرب منه ... إن اجتراء الفريسي وجسارته مغشوشة ومكروهة لأن دافعها هو الكبرياء والثقة بالنفس. إنه بار ماذا يمنعه من الوقوف أمام الله ، لقد تطهر بغسلات خارجية وصار واثقا في نفسه أنه ليس ما يعيبه أو يخيفه فاجترأ بغير معرفة كما يدخل إلى النار الآكلة بغباوة وثقة في النفس فإنه في الحال يحترق، لأنه ماذا يكون الإنسان في مثل هذه المواجهة. أما العشار فقد عرف نفسه واثقا أنه خاطئ وضعيف وليس له أن يقف في الهيكل. ولكن احتياجه يدفعه وشعوره بالهلاك والضياع بعيدًا عن الله جعله يهرب إلى الله... إنه يتقدم بشعور المحتاج لا بشعور المستحق، لذلك وقف من بعيد كمن يتوسل ويستجدي . الدالة عند الله تكون قوية إذا كانت مصحوبة بالاتضاع لا بالكبرياء ... بالبر الحقيقي لا بتزييف البر وتصنع القداسة.
لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء :
هكذا كانت عيني العشار منكسرة في اتضاع عجيب، من الذي يرى هذا المنظر ولا يرق له !! إنه بوقفته هذه وعينيه الذابلتين قد استجلب المراحم الإلهية. صارت عيناه كعيني العبيد إلى أيدي مواليهم ومثل عيني الأمة إلى يدي سيدتها. يقول المرنم : "كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا حتى يتراءف علينا"(مز ۱۲۳ : ۲)قال الرب لعروس النشيد حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني" (نش ٦ : ٥)بل قرع صدره قائلاً: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" ما أن تسلمت الكنيسة من فم الرب هذا التعليم عن الصلاة حتى جعلته منهجًا للتوبة في كل مناسبة، فصار قرع الصدر والوقوف في خشوع وخفض النظر إلى أسفل... صار كل هذا يُسلم من جيل إلى جيل كتعبير صادق للتوبة والرجوع والإحساس بوجع الخطية وطلب المراحم.ففي صلاة الغروب نقول : فما أجسر أن أنظر نحو السماء لكني اتكل على غنى رحمتك ومحبتك للبشرية صارخا قائلاً : اللهم اغفر لي أنا الخاطئ وارحمني"، وكذا في صلاة النوم نقول : لكني اتخذ صورة العشار قارعًا صدري قائلاً : اللهم ارحمني أنا الخاطئ". هنا تضع الكنيسة حركات توبة العشار كأيقونة دائمة للوصول إلى وقفة صحيحة مقبولة. فأوضاع الجسد مقترنة مع خلجات النفس. فإن انسحقت النفس ولصقت بالتراب صار الجسد شريكا ومعبرا عن حركات التوبة. فدموع المرأة الخاطئة، وقبلاتها التي لم تكف على قدمي المخلص، وارتماء الابن الراجع عند قدمي أبيه، وسجود سمعان في سفينته، خرّ عند قدمي يسوع قائلاً: "اخرج من سفينتي يارب" (لوه: ۸)، إلى آخر هذه الأمور صادقة التعبيرصارت أساسا من أساسات العبادة المقبولة والمرضية لدى الرب إلهنا والكنيسة تضع أيضاً صلاة العشار في أفواهنا كل يوم لننال ذات التبرير إذا نطقناها بانسحاق العشار وشوقه للخلاص. ففي ذكصولوجية الصوم المقدس نستعرض عينات للتوبة والتذلل المقبول أمام الله والذين نالوا نعمة الخلاص بالصلاة المنسحقة مثل المرأة الخاطئة واللص اليمين وأهل نينوى. وفي مقدمة هؤلاء تجيء صلاة العشار فنقول: اجعلني
مثل العشار الذي أخطأ إليك وتراءفت عليه وغفرت له خطاياه" وفي ختام الثيئوطوكيات الآدام نقول : "فإن العشار اخترته والزانية غفرت لها واللص اليمين يا سيدي ذكرته.وفي مديحة تقال في شهر كيهك على أبصالية يوم الأحد نقول: "أصرخ بصوت العشار وأنا بوجه مطاطئ... اللهماغفر لي الأوزار فإني عبد خاطئ".
في القداس
بل إن الكنيسة كلها وهي في قمة صلواتها في القداس تقف من الرب موقف العشار المغبوط في نهاية القداس بعد صلوات القسمة حين ينادي الشماس قائلاً: "احنوا رؤوسكم أمام الرب" أي قفوا مثل العشار الذي لم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء ، ويجاوبه الشعب قائلاً : أمامك يارب"، فيقول الشماس: "أنصتوا بخوف الله". وهنا يقرأ الكاهن التحليل ويطلب غفران للشعب الذين أحنوا رؤوسهم تحت يدك ارفعهم في السيرة وزينهم بالفضائل". وهنا ندرك أن الكنيسة ترجمت الإنجيل المكتوب إلى حياة وحولت حركات العشار إلى واقع في حياة أبنائها واستلهمت كلمات التوبة عينها لكي تبلغ بها إلى بر المسيح نزل إلى بيته مبررًا "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء لأن من عرف فكر الرب؟ أو من صار له مشيرا" (رو ١١: ٣٣ - ٣٤). كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرق الرب. الفريسي في عين الناس ممدوح وممجد، معروف و مشهور بالتدقيق وحفظ الناموس ومميز بين الجميع، يشيرون إليه في كل مكان كإنسان بار ومتدين ملابسه تميزه، وشكله وتصرفاته الظاهرة. يُصلي قائمًا في زوايا الشوارع. يصوم معبسًا وجهه لكي ينظره الناس. يُعطي العشور بتدقيق بالغ حتى عيدان النعناع والشبت والكمون. وهكذا على العكس بحسب حكم الناس ونظرتهم يكون العشار ... مكروها مهانا من الجميع معروفًا بخطاياه وظلمه الخ.هذه هي أحكام الناس، بحسب المظهر الخارجي... فإن صلى الفريسي والحال هذا ، مدحه الناس على صلاته وقيامه وتدقيقه، وإن صلى العشار انتقده الناس وظنوا أنه لا يمكن أن يكون مقبولاً لدى الله. ولكن الرب يشهد في هذا المثل الصلاة العشار يقبلها ويتقبلها ويتنفسها رائحة رضى وسرور بينما يرفض صلاة الفريسي فيخرج من لدن الرب صفر اليدين خالي الوفاض.هكذا فاز اللص بالفردوس وهو في آخر لحظة يلفظ أنفاسه محكوما عليه من الناس كمذنب وفاعل شر، ولكنه صلى صلاة فقبلت وطلب من الرب المصلوب أن يذكره في ملكوته فكان أول الداخلين إلى الفردوس. وها المرأة الخاطئة محكوما عليها في المدينة كلها أنها خاطئة. صلت بدموع فسمعت دقات قلبها المحترق ونزلت من بيت الفريسي مغفورة الخطايا حاصلة على السلام. وها السامرية مشهورة في مدينتها أنها لها خمسة أزواج سابقين والذي معها الآن ليس رجلها. جلست مع الرب عند بئر سوخار فعادت مبررة تكرزبالمسيا مخلص العالم نزل العشار من الهيكل مبررًا من فم الرب، وإن كان في نظر الناس إنسانًا خاطئا، بينما نزل الفريسي راضيا واثقا في نفسه أنه بار وهو في نظر الرب مراء مرفوض. الذي سعى في إثر البر بطريقته الناموسية سقط. والذي طلب الغفران بنفس منسحقة استحق أن يتمتع بالبر وكمل قول الرب "من" يرفع نفسه يتضع ، ومن يضع نفسه يرتفع"(مت ۲۳ :۱۲)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
عن كتاب تأملات في أناجيل عشية الآحاد
المزيد