الثبات فى المسيح

05 مارس 2021
Large image

قال الرب يسوع: «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ» (يو15: 4).
ما هو الثبات في المسيح؟ هل هو فكر أو فلسفة أو نظريات أو تأملات؟ أم حقيقة تُعاش وتُختَبَر وتُحَسّ وتُمارَس وتصير ركيزة للحياة. وإن كان الأمر كذلك، ما هي طبيعة هذا الثبات المتبادل؟
إيمانيًّا نحن نعي هذا.. نصدّقه كلّ التصديق بيقين الإيمان، ولكن ينقصنا الاختبار العملي في واقع حياتنا اليومية.
بحسب الإيمان نحن بالمعموديّة وُلدنا «ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط23:1)، وبحسب الإيمان نلنا معموديّة الثبات أو التثبيت بسرّ الميرون المقدس وحلول الروح القدس فينا. وبحسب الإيمان أيضًا كلّما نتناول مِن القُدسات وشركة جسد المسيح ودمه الأقدسين يحلّ المسيح فينا.
أعود وأسأل نفسي هل أنا ثابت في المسيح فِعلاً وحقًّا؟
إنّ الثبات في المسيح يعني الصِّلة الدائمة الحقيقيّة.. فلا أشعر بذاتي ووجودي إلاّ فيه. وهذا ينشئ فيَّ منتهى الفرح الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه مِنِّي. وهنا أسأل نفسي: وهل أحيا أنا هذا الشعور الحقيقي بالفرح الذي لا يشوبه كَدَر؟
ولكنّ حقيقة الأمر أنّه لا يخلو يومٌ من الاضطراب أو الانزعاج أو الغضب أو الحزن، ولا تخلو العلاقات مع الناس من الدينونة أو اختلاف الرأي، والإنسان كلّ يوم عُرضة للزلل من كلّ نوع، سواء بالعين أو باللسان أو بالفكر والقلب.
فأين حالة الثبات في المسيح من كلّ هذا؟ بل كثيرًا ما يسقط الإنسان في فخاخ الخطايا والتعدّيات، وما إلى ذلك من إعلاء الذّات والكبرياء والغرور وشهوات سائر الأشياء. ويعود الإنسان يسأل: أين الثبات في المسيح من كلّ هذا؟
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال.. هل ما اختبره الآباء وتَسَطّر في سيرتهم من الثبات في المسيح، بل والاتّحاد به وفيه.. هل كان هذا قاصرًا عليهم؟ وهل بسبب تفرّدهم في البراري وحياة النُّسك الشديد، تحصّلوا على ما تحصّلوا عليه؟
وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة الأمر، أنّ المسيح إلهنا هو مسيح العالم كلّه، وهو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، وأنّه النصيب الشخصي لكلّ واحد، وأنّه ذاق الموت بنعمة الله من أجل كلّ واحد.
وأنّه ليس مسيحَ الكهنة والرهبان وأصحاب الرُّتَب.. بل هو مسيح الكلّ ومخلّص الكلّ.
فإنْ كان الذين تفرّغوا لحياة الصلاة والعبادة، قد اختبروا وعاشوا حياة الحضور مع الله والثبات في المسيح، فهُم في الواقع قدّموا للكنيسة وللعالم كلّه دليلاً عمليًّا قاطعًا أنّ الحياة بالمسيح والحياة في المسيح هي واقع عملي حيّ، كفيل أن يُغني الإنسان عن العالم وكلّ ما فيه، وأن يُشبع الإنسان حتّى لو عاش في الفقر.
فما دام الأمر كذلك، ومادام قد عاش الملايين من الناس هذه النعمة الفائقة، في الثّبات في المسيح والحياة به، فليس لنا إذن أيّ عُذر ألاّ نتمتّع نحن أيضًا عمليًّا. لأنّ الأمر صار مُعاشًا على مدى آلاف السنين، وفي كلّ الأجيال، وفي كلّ أماكن العالم، ولجميع مستويات الناس على اختلاف أجناسهم. وهذا يُبرهِن على أنّ الأمر ليس بمستحيل، بل هو مُتاح ومُستطاع بالنعمة.
+ لقد طلب الرب يسوع من الآب لأجلنا قائلاً: «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ» (يو17: 15). فدَعوتُنا إذن أن نكون عائشين في العالم، ولكن في المسيح يسوع محفوظين من الشرير.
+ فالخلاصة إذن أن الأمر راجعٌ إلى تدبيرنا نحن، وطريقة حياتنا وفكرنا، وأمر جهادنا وإدراكِنا الروحيّ.
+ فإن كُنّا منغمسين في العالميّات ليلاً ونهارًا، وإن كُنّا قد صرَفنا العمرَ سَعيًا وراء الملذّات، أو الحصول على الماديّات بأيّ شكل من الأشكال.. وإن كُنّا قد شابهنا وشاكَلنا هذا الدهر، فمن أين لنا أن نذوق ملكوت الله داخلنا؟
فالدعوة إذن إلى أن نفيق من غفلتنا، ونتبصّر أمرَ خلاصنا، ونعطي أُذنًا صاغية للذي قال: «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ (أسألكم)، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا (إليها)» (أف1: 4).
وهنا عندما يرجع الإنسان إلى نفسه ويقول: أقوم وأرجع إلى أبي، يجد نفسه في حضن الآب. وكلّ ما فقده أو ظنّ أنّه فقده يتجدّد له. وهنا يبدأ الإنسان قليلاً قليلاً تنفتح بصيرته الداخلية، فيَرى الملكوت داخله.
ويحتاج الأمر جدّيّة في طلب الحياة، ومواظبة واعية على الخلود إلى النفس، في المَخدع المُغلَق كقول الرب.. ويبدأ يتحسّس بالحِسّ الروحي الداخلي وجود المسيح وحضوره، الذي لم يكن للحظة غائبًا ولكن السبب كان في تَغَرُّبنا في الكورة البعيدة.
وللحال يبدأ الإنسان في الإحساس بأنّه ثابتٌ في المسيح بل والمسيح ثابتٌ فيه. وللحال أيضًا يتخلّى الإنسان عن الفكر القديم الذي عاش به لسنين، أنّه يعمل ويجتهد ويكسب ويبلغ إلى مُراده، ولأنّ ذراعه وفهمه هو السبب في كلّ ما هو عليه.
وإذ يجحد هذا الفكر يعود إلى اتضاعه، وينسب الفضل كلّه لصاحب الفضل العامل فينا. وبإدراك ثباته في المسيح، لا يعود يجد سعادة أو فرحًا إلا في زيادة الإحساس بهذه النعمة، وهذا يتحقّق بأوقاتٍ كثيرة يخلو فيها الإنسان مع المسيح، ولا يريد أن يعكِّر صفو هذه الأوقات أي كائن مَن كان. وإذ يتدرّب الإنسان، تصير حواسّه الداخليّة مرهفة لإدراك حضور المسيح، حتّى في خِضَمّ زحام مشغوليات الحياة.
+ ويحلو للإنسان سواء مع نفسه أو مع الناس، أن يعيش الكلمات الحلوة:
- «لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ» (في1: 21).
- «لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ» (رو14: 7، 8).
- «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أع17: 28).
- «لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يو15: 5).
- «اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي» (يو15: 9، 10).
بل يصير كلّ الإنجيل مُعاشًا، فتنفيذ وصايا يسوع سهلة، ليسَتْ ثقيلة، ونيره هيّن وحمله خفيف.
كلّ هذا بسبب ثباتنا فيه، إذ يصير «هُوَ الْعَامِلُ فِينا أَنْ نُرِيدُ وَأَنْ نعْمَل مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 18).
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 1203

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل