الصوم إطلالة على الملكوت

08 مارس 2021
Large image

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الأول من الصوم المقدس (مر 9: 33-50)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
في الحقيقة على مدى العصور، كان لهذا الصوم المقدَّس شأنٌ خاص وكبير. وكلمات إنجيل قدَّاس هذا الصباح يمكن أن تُضَمَّ في ثلاثة معانٍ:
1. السائرون على الطريق.
2. المتعاركون في مَن هو أعظم!
3. عثرات الجسد وإمكانية التخلُّص منها.
فهذا الإنجيل، إذن، يضع لنا منهجاً متكاملاً، نُطِلُّ منه - للحظة بسيطة ولو لدقائق - على الملكوت.
نحن جميعاً نسير على الطريق، وأيُّ عِرَاكٍ في مَن هو أعظم سوف يُخرجنا من الطريق؛ لأن ”الطريق“ في الإنجيل هو المسيح نفسه، كما أنه ”الاتجاه“ نحو ملكوت الله.
ثم تأتي عثرات الجسد، إذ تثور أعضاء الجسد وتتصارع فيما بينها مثلما يحدث أن يتصارع الواحد مع الآخر. فالأعضاء تتصارع فينا كيما تُخرِجنا من الطريق.
الصوم وموسم هجرة الطيور:
وأستطيع تلخيص ذلك، فأقول: إنَّ موسم الصوم يُشبه موسم هجرة الطيور من أوطانها الباردة إلى مناطق أخرى دافئة، وخلال هذه الهجرة تُركِّز الطيور على تحليقها لتصل إلى مقصدها، دون أن تلتفت الإناث منها أو الذكور إلى فراخها الصغيرة الطائرة. وجميع هذه الطيور الطائرة على مسافاتٍٍ طويلة لا يُوجِّهها سوى الغريزة التي لم يستطع الإنسان حتى اليوم تفسيرها. فسِرْب الطيور يصل دائماً في الموعد وخلال نفس الطريق الذي سلكه سابقاً في رحلاتٍ سالفة.
فإن كانت الغريزة الطبيعية المغروسة في الطيور، وهي غريزة الهجرة، عجيبة بهذا المقدار؛ فكم يكون أعجب من هذا الغريزة الروحية المُعطاة لنا، وهي غريزة الهجرة إلى الملكوت. ولكن غريزة الهجرة إلى الملكوت، إلى وطننا الحقيقي والكامل، ما تزال غير واضحة في حياتنا.
فسِرْب الطيور المُهاجر، والذي يُركِّز كل انتباهه لبلوغ المناطق الدافئة، إذا فكَّر في التعارُك والصراع بين أفراده، أو إذا تحوَّل اهتمام بعض أفراد هذا السِّرْب إلى احتياجه للطعام؛ فقد يُعرِّض حياته للضياع والهلاك. فهجرة الطيور، إذن، هي هجرة صائمة غير مُعتمِدَة على أَكل أو شُرب، وبالتالي لا يوجد ما يُوجِّه هذا السِّرْب المهاجر سوى غريزة الهجرة إلى وطنٍ أفضل.
وهناك تفسيرات علمية عديدة ومختلفة لتعليل وتفسير هذه الغريزة عند الطيور المهاجرة. ولكن هذه الغريزة، غريزة الهجرة إلى الملكوت، هي عند الإنسان بصورة أعظم جداً مِمَّا عند الطيور. فلا يوجد إنسانٌ صادقٌ مع نفسه قد هاجر هجرة حقيقية وفَشَلَ.
فالهجرة الروحية ذات مفهوم عجيب، فهي هجرة من الذات، هي تركٌ للعشيرة وللوطن الأرضي، كما خرج إبراهيم وهو لا يعلم إلى أين يذهب. هي انطلاق إلى الوطن الجديد، دون أن نعرف الكثير عنه!
الهجرة في الطيور من أجل حفظ النوع والحياة. أما بالنسبة للسائرين في طريق الملكوت، فهي هجرة تتضمن معياراً روحياً لحياتنا الروحية، هي هجرة من الوطن والذات، اللذين هما أعظم مُسبِّبات العِرَاك والتشاحُن. وهي هجرة أيضاً من الأَكل (وهو أقلُّها)، أي هجرة صائمة.
وكأنما، يا أحبائي، فإنه عن طريق هذا الطير المهاجر، نستطيع أن نُدرك أن الأَكل والشُّرب إنما هما مُعطِّلان لنا في مسيرتنا إلى الحياة الأبدية.
وتطبيقاً على حياة الآباء، فإنَّ كل مَن استطاع أن يَعْبُر من ذاته، ومن شهواته؛ يأخذ مكاسب لا توصف من هذا الصوم. فامتناع الإنسان عن الأَكل، يتحوَّل فيه إلى حركة قيامة للجسد لا تقلُّ عن حركة المعمودية والتناول من الأسرار المقدسة.
الصوم سرٌّ عميق وطاقة روحية لبلوغ الحياة الأبدية:
فالصوم سرٌّ، أو هو في الحقيقة ديناميكية السر، أو الطاقة المُحرِّكة التي تربط ما بين المادة في الإنسان والروح في الله. الصوم طاقة عجيبة لا يمكن تفسيرها، ويمكن القول إنَّ الصوم مادي وروحي بآنٍ واحد، لأنه امتناع عن كل شهوة جسدية.
الصوم هو موهبة إنسانية تؤول إلى ديناميكية روحية لاستيعاب سرِّ الخلود. والصوم هو أيضاً دافعٌ للأسرار، وهو التاج الجميل للأسرار.
الصوم هـو الهجرة من الأرض إلى السماء، تتحقَّق وتنطبع قوتها فينا كخبرة تزداد كل يوم.والصوم في الكنيسة هو الوسط المُحرِّك للأسرار، ومن خلاله يأخذ الإنسان المهاجر مفعول الصوم القوي داخله. فيستطيع الإنسان، بصومه وبنعمة المسيح التي فيه، أن يُهاجر من الأرض إلى السماء، ومن ذاته إلى الحياة الأبدية.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين

عدد الزيارات 750

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل