العين البسيطة(1)

22 مارس 2021
Large image

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من الصوم المقدس (لو 11: 33-36)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
إنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن موضوع هام جداً، ويُعتَبَر من أخطر المواضيع التي تُقابِل الإنسان الروحي في جهاده الروحي، وهو موضوع: ”العين البسيطة“. هذا الموضوع هو معيارٌ مسيحيٌّ من الدرجة الأولى، وهو يُعتَبَر امتيازاً عالياً للإنسان الروحي، ولذلك فهو يهمُّنا للغاية.
في إنجيل القديس متى يُزيد الموضوع توضيحاً، إذ يقول قبل آية العين البسيطة: «لأنه حيث يكون كن‍زُك هناك يكون قلبُكَ أيضاً» (مت 6: 21)، ثم يُكمِل ويقول: «سراجُ الجسد هو العين، فإنْ كانت عينُك بسيطة فجسدُك كلُّه يكون نَيِّراً. وإن كانت عينُك شريرة فجسدك كلُّه يكون مُظْلِماً» (مت 6: 23،22).
وفي الحقيقة، إذا أخذنا هذا التشبيه الذي ذَكَرَه الرب يسوع عن العين، كما أَخَذَه كثيرٌ جداً من الشُّرَّاح على أنه يعني ”العين الجسدية“، يكون الموضوع خارج السياق الذي قصده الرب يسوع. ولكن سوف نرى في شرحنا ما الذي يقصده الرب من كلمة: ”عينك“.
عمل العين وليس شكلها أو صفاتها:
الاتجاه الأول: أوضحه الرب يسوع، عندما لم يذكر ”عينَيْن“، بل قال: ”عين“ واحدة، بالمفرد. معنى هذا أنَّ الرب يقصد الاتجاه ناحية عمل ”العين“، وليس شكلها أو صفاتها.
الاتجاه الثاني: لقد ذَكَر الرب كلمة ”بسيطة“. وفي اللغة اليونـانية كلمة ”بسيطة“ ?????? تعني معاني قوية جداً، ولكن ولا معنى منها ينطبق على الجسد.
+ فعلى سبيل المثال، أحـد أهم هذه المعاني، أنها ”مُفردة“ ??????، ولكي نُزيدها إيضاحـاً فهي بـاللغة الإنجليزية single ”مُفرد“. ومعنى ذلك أنَّ العين هنا لا تحتمل معنى التركيب أو التعقيد أو الثنائية؛ بمعنى أنها لا يمكن أن تنقسم بين رؤيتَيْن.
+ المعنى الثاني لكلمة ”بسيطة“ ??????، أنهـا تعني ”مستقيمة“ باتجاهٍ إلى الأمام، وبالتالي فهي لا تحتمل معنى التعريج ما بين اليمين واليسار. وهذا المعنى نقرأه كثيراً في آيات الإنجيل.
+ المعنى الثالث أنَّ كلمة ”بسيطة“ ??????، تعني ”الصحة“ أي بـاللغة الإنجليزية healthy. وهذه الكلمة تعني أنها ليست ”مريضة“، وليس بها أية معوِّقات للرؤية.
+ المعنى الرابع لكلمة ”بسيطة“ أنها ”مكشوفة“ plain، أي ليس بهـا شيءٌ مختبئ أو متواري عن الأنظار.
والآن، إذا أخذنا كل هذه المعاني لكلمة ”بسيطة“، فهي:
single: ”مُفردة“، ”مستقيمة“.
clear: ”واضحة“، ”صافية“.
healthy: ”صحيحة“، ”سليمة“.
Plain: ”مكشوفة“، ”غير متوارية“.
إذا تمعنَّا في كل هذه الصفات، نجد أنها لا تنطبق عل العين الجسدية. وإذا انتبهنا للتعبيرات اللاهوتية عن طبيعة الله، نجد أنها ”بسيطة“ غير مُركَّبة. فهي تُعبِّر عن الطبيعة الروحية وليست الطبيعة الجسدية.
إذن، كلمة ”بسيطة“ وكلمة ”عين“ (بالمفرد) تُعطينا المفتاح للشرح. فإذا لم نعثر على هذا المفتاح، فسنحاول أن نُطبِّق الكلام على العين الجسدية، وهنا ننحرف عن السياق الذي قصده الرب يسوع ونتوه.
فإذا انحصرنا في نطاق الجسد، فما هو القصد من العين الجسدية البسيطة؟ وما هو معنى العين الجسدية الشريرة؟ فإنَّ الشر، ليس هو من الخارج، وإنما يصدر من الداخل! ومن هذا المنطلق يتضح أنَّ المسيح كان يقصد ”العين الروحية“. ومن هنا نبتدئ نفهم بداية شرح الآية.
ما هو القصد من العين الروحية البسيطة؟
فالقصد من العين الروحية، وبالمواصفات التي ذكرناها آنفاً، أنَّ الرب يقصد ”البصيرة“ وليس ”الإبصار“.
”البصيرة“ هي الإدراك الروحي للحق. فالإنسان الذي عنده ”بصيرة“، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يُدرك الحقَّ ويُميِّز بينه وبين الباطل؛ أما كلمة ”يُبصر“، فإنها تعني أن يرى الإنسان ظواهر الأشياء. فالعين التي يقصدها المسيح هنا هي مركز البصيرة وليس الإبصار.
والحق الذي يُدركه مَن لديه البصيرة، بالمفهوم الإلهي، وكذلك بالمفهوم الإنجيلي، هـو ”النور“، والباطل هو ”الظلمة“. فمركز البصيرة هنا يُدرِك الحق على أساس النور الإلهي.
عندما يُذكَر ”النور“، فهنا يستقرُّ على شخص الرب يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12). فللوقت تبتدئ العين تظهر أنها مركز لإدراك كل هذه الحقائق التي تستقرُّ في الرب يسوع المسيح.
فالعين البسيطة، هي العين الروحية التي انفتحت على المسيح وعلى الحياة الأبدية.
أما العين الشريرة، فهي عين روحية أيضاً، ولكنها انفتحت على الشرِّ. لأن العين الروحية عموماً هي من مُسلَّمات وهبات الله، وبها تُدرِك الطبيعةُ البشرية الحقَّ؛ وهي إما تنفتح على المسيح أو تنفتح على الخطيـة، وعلى ضوء ذلك تـأتي مُحاسبة الرب للإنسان. فـإذا انفتحت العين الروحيـة على الخطيـة والشر، أَظْلَمَتْ؛ وإذا انفتحت على المسيح، استنارتْ. وهذا الكلام واضحٌ جداً.
نعود مرة أخرى لشرح أوضح لكلمة ”بسيطة“ ??????:
+ single ”مُفردة“: أي لا تقبل غير رؤية واحدة، أي لا تقبل غير شخص المسيح، ولا تقبل أبداً أي بديل له.
+ straight ”مستقيمة“: أي تتَّجه نحو المسيح، ولا تميل ناحية اليمين أو ناحية اليسار. لا تحتمل التعريج أو الانثناء، بمعنى لا يُعطِّل اتجاهها إلى الأمام أي مُعوِّق أو عاكس.
+ healthy ”صحيحة“: أي ليست مريضة بأهواء وغوايات جسدية، وهي تستطيع بكل قوَّتها أن ترى المسيح.
+ clear ”صافية“: أي لا يشوبها شائبة، بمعنى قدرتها على صحة الرؤية بجلاء. وبالتالي فهي قادرة على الرؤية بدون تشويش، فلا تدخلها أو تتداخَل معها شوائب عالمية.
+ plain ”مكشوفة“، ”صريحة“: أي لا تُخفي شيئاً، ولا يختفي شيءٌ عنها. فهي عينٌ واضحة.
فهذه العين الروحية التي منحنا إيَّاها الله، هي العين التي تنفتح على المسيح.
معنى أنَّ المسيح ”فَتَحَ ذهن التلاميذ ليفهموا الكُتُب“؟
المسيح يريـد أن يضع العين في وضعها الصحيح. ولذلك فالمعيار الذي وضعه الرب يسوع معيارٌ عالٍ جداً: «ليس أحدٌ يُوقِدُ سراجاً ويضعه في خِفْيةٍ، ولا تحت المكيال، بل على المنارة» (لو 11: 33)، أي يضعه في أعلى مكان بالبيت، معنى ذلك أن الرب يتكلَّم عن العين الروحية.
فموقع العين الروحية، عند المسيح، هو في أعلى مرتبة بالنسبة للإنسان، وهي أهم عضو من أعضاء الإنسان. وهنا يأتي تركيز المسيح عليها في فَهم كل الإنجيل: «حينئذٍ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45).
ما معنى: ”فَتَحَ ذهنهم“؟ أي أنَّ العين الروحية انفتحت على الحق، ودخلها نور المسيح، أي الحق، فانكشف لها كل شيء عن المسيح. ولذلك كَشَفَ المسيح مقدار أهمية العين الروحية، ولذلك وضعها في أعلى مرتبة للإنسان، تماماً مثل السراج الذي يوضَع على المنارة في أعلى مكان في البيت.
فإذا كانت هذه العين مستقيمة أو صحيحة، فإن نور المسيح، النور الإلهي، يدخل من خلالها إلى داخل أعماق الإنسان. فالعين الصافية، غير المريضة، المستقيمة؛ لا تقبل شيئاً غير المسيح، وهي ذات اتِّجاهٍ مستقيم نحو المسيح. ولذلك فإنَّ الشعاع الإلهي، شعاع الحق، النور الحقيقي، يدخلها بدون عائقٍ، فتُنير كل ما في البيت، تُنير كل ما في الإنسان.
معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟
«ولا يُوقِدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيُضيء لجميع الذين في البيت» (مت 5: 15).
فما معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ معناه: إنه يُضيء كل ما في الإنسان! عندما تكون العين الروحية بسيطة، حينئذٍ تُنير الفكر، القلب، الضمير، العواطف، المشاعر؛ وهي الأعضاء الداخلية غير المنظورة للإنسان. فيبتدئ نور المسيح بالحق، يُنير ما بداخل الإنسان، وذلك بدخول كلمة الإنجيل إلى القلب، بالقراءة الواعية، بالفهم الروحي. وحينئذٍ يستنير كل البيت، بمفهوم أنَّ «جسدك كلُّه يكون نَيِّراً».
وهنا نبتدئ بشرح معنى العين الجسدية. العين الجسدية أي من الجسد؛ ولكن العين الروحية ليست من الجسد. فإذا كانت العين الروحية سليمة؛ فـإنَّ نور الله، أو نور المسيح، أو المسيح، سيدخل؛ فيُضيء كل أعضاء الإنسان المنظورة (الجسدية) وغير المنظورة (الروحية).
أولاً فإنَّ نـور المسيح يُنير الفكر والضمير والعواطف والمشاعر والقلب، ثم بعد ذلك بالضرورة يُنير الجسد كله، كما قال بولس الرسول: «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخُذُ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا!» (1كو 6: 15)، وأيضاً: «ولا تُقدِّموا أعضاءكم آلاتِ إثمٍ للخطية... بل قدِّموا... أعضاءكم آلاتِ برٍّ لله» (رو 6: 13).
لـذلك إذا دخـل النور الإلهي إلى داخـل الإنسان، فإنـه ليس فقط يُنير أعماق الإنسان، بـل وتَستنير بـه أعضاء الجسد أيضاً. فهذا النور الروحي، نور المسيح الفائق الفعالية، إذا دخل الإنسان، عـن صحةٍ؛ يستقرُّ في الجسد أيضاً، ويُنيره، ويُميت الخطية الكائنـة في الأعضاء. وكـذلك يُطهِّر الفكر والقلب والضمير مـن الأعمال الميتـة. هـذا هو مفهوم العين الروحية البسيطة.
التأمُّل في الله:
إذا كانت العين الروحية سليمة ليس بها أي مرض، فسيتطلَّع الإنسان إلى ما هو فوق. فطالما كانت العين الروحية صحيحة ومستقيمة وليس فيها تعتيم، فإن النور الإلهي يدخلها وينفذ فيها ويُنيرها، فيكون نظرها دائماً إلى ما هو فوق: «بنورك، يا رب، نُعاين النور» (مز 36: 9). فالنور الإلهي إذا دخل إلى أعماق الإنسان، سينعكس على كل ما هو ظاهر أو خارج، فيحدث ما يُسمِّيه المتصوِّفون: ”التحديق“، وما يُطلِق عليه الروحيون: ”التأمُّل“، أو ما يُطلَق عليه ”التحديق في النور الإلهي“. أي التحديق في ”الحق“، أي في ”طبيعة المسيح“. فالإنسان الذي دخله شعاع النور، من خلال العين الروحية، يستطيع أن ينفُذ هو أيضاً - من خلال العين الروحية السليمة - لينظر ويتأمَّل في الله.
وكلما تأمَّلنا في الله، كلما انسكب فينا النور بصورةٍ أقوى. فهنا التحديق في نور الله، في الحق الإلهي، في شخص يسوع المسيح؛ يُزيد العين جلاءً، ويُزيد أعماق الإنسان استنارةً.
الذين يتأمَّلون في الروحانيات، إذا كنتم قد جرَّبتم هذا، فإنه يحدث لهم في بداية الطريق صُراخ، لماذا؟ لأن بمجرَّد أن يتأمَّل الإنسان في الحقِّ أو في النور أو في المسيح؛ ترتد العين الروحية. فالتحديق أو التأمُّل في النور الإلهي، يستغرق ثوانٍ، ثم ترتد العين عن التحديق أو التأمُّل.
ولماذا يرتدُّ الإنسان، أو العين الروحية، عن الرؤيا أو التحديق؟ لأن العين ليست مستقيمة كما ينبغي، ولذلك فهي تحتاج إلى تطهير وتنقية. ولذلك مداومة الإنسان على النُّسك والعبادة وقراءة الكتاب المقدس والاطِّلاع على الكتب الروحية وأقوال الآباء؛ يجعل العين الروحية صافية نقية. وعندما يزداد تحديق العين الروحية في الحق الإلهي، وتزداد فترات التأمُّل في آية من الآيات، أو في صفة من صفات الله؛ عندئذ يتركَّز الذهن مع القلب مع المشاعر مع الفكر، في الحق الإلهي، فيما هو فوق. ويستمر هذا التحديق أو التأمُّل لفترةٍ من الفترات، يعود بعدها الإنسان بغنيمةٍ روحية، ولا يعود فارغاً أبداً.
فكلَّما تأمَّلنا أكثر، ودام تأمُّلنا في الحق الإلهي أكثر؛ كلما أَخَذَت العين الروحية قـوةً للتحديق في النور الإلهي، واقتنت صفاتٍ روحية جديدة.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين

عدد الزيارات 2064

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل