التواضع في الخدمة

07 يوليو 2021
Large image

المفروض في الخادم أنْ يتَّصف بصفات روحية ولعلَّ في مُقدمتها التواضع ومن أهمية هذه الصفة أنَّ السيد المسيح قال لتلاميذه"تعلَّموا منِّى لأَنِّي وديع ومتواضع القلب" (مت29:11).كان يمكن أنْ يُركِّز على فضائل كثيرة تتمثَّل في شخصه القدوس ولكنه ركَّز على التواضع والوداعة ذلك لأنَّ الذي يخدم كثيرًا ما يحارب بالكبرياء أو العظمة إذ يجد أنَّه قد انتقل من صفوف المخدومين إلى مصاف الخُدَّام.وأنَّه أصبح من الأشخاص المهمين في الكنيسة ومن الأشخاص الذين يؤخذ رأيهم في سيامة كاهن جديد للكنيسة بل ربما يكون هو أحد المُرشَّحين للكهنوت لذلك نريد أنْ نُقدم بعض ملاحظات في هذا الموضوع:
إنه خادم
حسنٌ هذا اللقب أنَّه خادم وليس سيدًا!
ولم نُعطه لقب كارز، أو مُعلِّم، أو مُدرِّس وظيفته أنْ يَخدم لا أنْ يُسيطر أو يتكبر فالكبرياء ليست من صفات الخادم والعجيب أنْ السيد المسيح نفسه لقَّب نفسه بلقب خادم. وعلى الرغم من أنَّه ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ16:19) إِلاَّ أنَّه انحنى وغسل أرجل التلاميذ لكي يُعطيهم مثالًا (يو15، 5:13) بل قال أيضًا "أَنَّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت28:20).ولقب خادم قد تُلقَّب به الملائكة أيضًا فقيل عنهم في رسالة العبرانيين "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أنْ يرثوا الخلاص" (عب14:1) وقيل في المزمور "الذي خلق ملائكته أرواحًا وخُدَّامه نارًا تلتهب" (مز4:104).وكما لَقَّبَ الملائكة بأنَّهم خُدَّام، كذلك الرسل أيضًا يقول القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبلوس "من هو بولس ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما" (1كو5:3) ويقول عن مساعده تِيخِيكُس "يُعرِّفكُم بكل شيء تِيخِيكُس الأخ الحبيب والخادم الأمين في الرب" (أف21:6) ويقول عن أَبَفْرَاسَ "الذي هو خادم أمين للمسيح لأجلكم" (كو7:1) وقال عن القديس مرقس الرسول "إنَّه نافع لي للخدمة" (2تى11:4).وقال بصفة عامة "كفايتنا من الله، الذي جعلنا كُفَاةً لأَنْ نكون خدَّام عهد جديد" (2كو6، 5:3). وقال أنَّ الله أعطانا خدمة المصالحة.. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو20، 18:5) والآباء الرسل عند اختيار الشمامسة السبعة، قالوا "أَمَّا نحن فنعكف على الصلاة وخدمة الكلمة" (أع4:6).آباؤنا الرسل كانت لهم خدمة الكلمة، وخدمة المصالحة.والآباء الكهنة عمومًا هم خدام المذبح وكلمة شماس معناها خادم.والكاهن الذي يستلم الذبيحة يُسمَّى في الطقس (الكاهن الخديم) حتى الأرملة التي كانت تخدم في الكنيسة اشترط فيها الرسول أن تكون "مشهودًا لها في أعمال صالحة.. أضافت الغرباء غسلت أرجل القديسين" (1تى10:5) والعناية بالفقراء نسميها الخدمة الاجتماعية.وحتى اجتماع مُدرِّسي التربية الكنسية نُسمِّيه اجتماع الخدام.فمادمت يا أخي خادمًا اسلك في اتضاع كخادم ولا يرتفع قلبك من الداخل. افهم الكلمة في جوهر معناها، ولا تجعلها تفقد حقيقتها ومدلولها وكان القديس أوغسطينوس يُصلِّى من أجل رعيته قائلًا "أَطلب إليك يا رب من أجل سادتي عبيدك..".إنْ كُنت خادمًا فيجب أنْ تتصف بالطاعة.طاعة لله وطاعة لرؤسائك في الخدمة ومديريك.بعض خدام التربية الكنسية يَتحَدُّون الأب الكاهن فلا يحترمونه ولا يُطيعونه ومع ذلك يقولون أنَّهم خُدَّام! ونفس الوضع نقوله عن الكاهن الذي لا يطيع أُسْقُفُه!! ونقوله عن أعضاء الكنيسة الذين ينفردون بالعمل دون مشورة رئاستهم الكنسية!!

لا تظن أنَّك أحد قادة العمل الرعوي أو التعليمي في الكنيسة.بل تذَكَّر باستمرار أنَّك خادم واسلك كما يليق بخادم واحذر أنْ تفقد تواضعك لأنَّه كما يقول الكتاب "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم18:16).
2- من الأمور الأخرى التي تجلب التواضع في الخدمة: التلمذة.
التلمذة
يظن بعض الخُدَّام أنَّهم لمَّا أصبحوا خُدامًا انتهى بالنسبة إليهم عصر التلمذة وهذا فهم خاطئ.إنما لكي تحتفظ بتواضعك احتفظ باستمرار بتلمذتك.كل المسيحيين في العصر الرسولى كانوا يُدْعَون تلاميذًا والسيد الرب لمَّا أرسل الأحد عشر للكرازة قال لهم "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت19:28) وفي انتشار الكرازة قيل "وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا" (أع7:6).إذن اسْتَمِرْ تلميذًا للرب وتلميذًا للكنيسة ولا يكبر قلبك.وإن شعرت أنَّك صرت مُعَلِّمًا وأصبحت فوق مستوى التلمذة اعرف جيدًا أنَّك بدأت تسقط في الكبرياء.أَتَذَكَرْ أنَّنا حينما كنا خُدَّامًا في مدارس الأحد في كنيسة الأنبا أنطونيوس منذ حوالي 45 سنة كان كل خادم يجلس كمستمع أو كتلميذ في أربعة اجتماعات كل أسبوع، في اجتماع الأسرة وفى اجتماع الخُدَّام واجتماع الشبان وفي الفصل الكبير الذي كان يبدأ في السابعة والربع مساء، بعد انتهاء التدريس في باقي الفصول.وباستمرار كان الخُدَّام يتعلمون من غيرهم فيستمرون في تواضعهم.قل لنفسك أنا باستمرار مازلت أتعلم ومحتاج أنْ أعرف.
وإنْ عشت في حياة التلمذة ستتخلص من مشاكل كثيرة ستتخلص أولًا من روح الجدل وكثرة المناقشات (المقاوحة) وتكون مستعدًا أنْ تتقبل الرأي الآخر بروح طيبة.لأنَّ الذين يدخل فيهم روح الجدل يُسْلِمَهم إلى روح العناد وتصلب الرأي ويظنون أنَّهم يفهمون أكثر من الكبار. بل وقد يظنون أنَّهم هم الكبار.احتفظ إذن بطفولتك الروحية حسب قول الرب:"إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت3:18).وما أكثر الأمثلة لقديسين عاشوا تلاميذ يشوع ظلَّ تلميذًا لموسى طول حياته إلى أنْ رقد موسى في الرب وأليشع ظلَّ تلميذًا لإيليا إلى أنْ صعد إلى السماء، فوَدَّعَهُ بعبارة يا أبى يا أبى يا مركبة إسرائيل وفرسانها (2مل12:2) والقديس أثناسيوس الرسولي مع أنَّه كان بابا الإسكندرية احتفظ بتلمذته للقديس أنطونيوس الكبير ولما كتب سيرته قال "وأنا نفسي صببت ماء على يديه" أي كان يخدمه.كان التلاميذ قديمًا يجلسون عند أقدام مُعَلِّميهم.فلا يجلسون إلى جوارهم وأمامهم بل كان المُعَلِّم يجلس على كرسي وتلاميذه جلوس على الأرض عند قدميه وعن هذا قال القديس بولس الرسول "وُلِدْتُ في طَرْسُوسَ كيليكيَّة ولكن رَبَيْتُ في هذه المدينة مُؤَدَّبًا عند رِجْلَيّ غَمَالائيل" (أع3:22) هذا هو اتضاع التلميذ أمام مُعَلِّمُه ويَعتبر أيضًا أنَّه ليس فقط يُعلِّمُه بل يُربيه أيضًا ويؤدبه.ما أصعب أنَّ خادمًا يقرأ كتابًا أو كتابيْن فيتكبر على مُعلِّميه.ويتكبر أيضًا على آبائه الكهنة ويفرض مشيئته على أب اعترافه فإما أنْ يوافق الأب على رأيه أو يعصاه!! وهكذا يصير حكيمًا في عينيّ نفسه الأمر الذي نهانا عنه الكتاب فقال "لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك وعلى فهمك لا تعتمد" (أم7، 5:3) عش إذن تلميذًا متواضعًا.والْتَمِسْ المعرفة من كل مصادرها تتلمذ على أب اعترافك وعلى آباء الكنيسة وعلى الاجتماعات الروحية وتتلمذ على الطبيعة على زنابق الحقل وطيور السماء وتتلمذ على الكتب الموثوق بها ولا تظن مهما كبرت أنَّك قد ارتفعت عن مستوى التعليم.

إنَّ تاريخ الكنيسة يُسجل لنا قصصًا عجيبة عن اتضاع القديسين في التلمذة.تصوروا واحدًا من الآباء الكبار مثل القديس موسى الأسود يطلب كلمة منفعة من الصبي زكريا فلما يستحى الفتى منه قائلًا: "أنت عمود البرية وتطلب منِّى كلمة؟!" يجيبه القديس "صدقني يا ابني لقد عرفت من الروح الذي عليك أنَّ عندك كلمة أنا محتاج أنْ أعرفها"..!
والقديس مكاريوس الكبير أخذ كلمة منفعة من راعى بقر.. وكان الآباء يلتمسون كلمة منفعة بينما كانت لهم سيرة ملائكية يشتهى الكثيرون أنْ يتعلموا منها.
التواضع في التعليم
صدقوني أكثر ما يتعب كنيستنا حاليًا هو عدم التواضع في التعليم.كل خادم يأتي له فكر جديد في تأملاته أو من قراءاته يحاول يجعله عقيدة ويُدَرِسَه للناس، وهناك نوع من الكُتّاب، ويروق لهم إلغاء المفهوم السائد ليُقَدِّموا بدلًا منه مفهومًا جديدًا وكأنَّ الواحد منهم قد اكتشف ما لا تعرفه الكنيسة كلها والناس جميعًا وكأنَّه يعلم ما لا يعلمون.المشكلة هي تقديم المفاهيم الشخصية وليس تعليم الكنيسة وعقيدتها.ومحاولة للجدل وللإثبات ولإقناع الناس بخطأ المفهوم السائد والبعض قد ينتقد الكنيسة. والبعض يُغَيّر ألفاظ القداس والبعض يُصَرِّحْ بزيجات بعكس قوانين الكنيسة والبعض يُصَلِّى بقداسات غير مألوفة في كنيستنا.وكل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه مصدرًا للتعليم.وكأنَّه جبهة مستقلة في تعليمه أو جزيرة قائمة بمفردها في المحيط وإنْ تدخلت الكنيسة لإصلاح الوضع، يقيم الدنيا ويقعدها، ويُحيط نفسه بمجموعة خاصة من تلاميذه لتسانده، ويقف ضد الكنيسة وينادى بأنَّ تعليمه هو السَّليم والكل مخطئ!
وقد تجد لكل فرع من التربية الكنسية منهجًا خاصًا.أمين الفرع لا يعجبه المنهج العام، فيُعَدِّل فيه ويُبَدِّل، أو يضع منهجًا خاصًا يرى أنه الأفضل والأصوب.وإن شاء الله سنضع منهجًا موحدًا ونأخذ فيه رأى الآباء وقادة الخدمة فنرجو بعد وضعه أنْ يتواضع الخدام ويعملوا به.. ولا يقف لنا أحد ليقول من حقي أنْ أعترض.. ومن حقي أنْ أرفض، ومن حقي أنْ أسير حسب فكرى وإلاَّ فأين هي الديمقراطية في الكنيسة ولا يقول له أحد أين هو التواضع؟!
الكنيسة الأولى تميزت بالفكر الواحد.لأنَّها كانت كنيسة متضعة تخضع لفكر قادتها.أمَّا البروتستانتية التي نادت بالحرية في التفسير والتعليم، فقد تكونت فيه مواهب متعددة زادت فيها مذاهب على المائة، أمَّا الكنيسة المحافظة التقليدية فإنها تحفظ الإيمان سليمًا، ولا تسمح بالمفاهيم الفردية التي تتحول إلى عقائد بل تنصح أصحابها بالاتضاع.الخادم المتواضع أيضًا لا يستعرض معلوماته!!
إنَّما يقدم التعليم في أسلوب روحي هادئ. لا يحاول أن يفلسف المعلومات ولا يمسك ببعض الكلمات ويضع أمامها النص العبري أو اليوناني، أو بعض الترجمات الإنجليزية. وقد لا يكون الشعب على علم بشيء من كل هذا. وقد لا يكون كل هذا لازمًا لإثبات الفكرة التي يُقَدِّمْها. وقد لا تكون المراجع التي يستخدمها سليمة وقد يتبع في ذلك بعض المذاهب التي تسير بالمنهج العقلاني لا بالمنهج الروحي.الخادم المتواضع ينزل إلى مستوى الخدومين ولا يبهرهم بمعلومات فوق مستواهم لا تفيدهم بشيء.إنَّه لا يُفكر في ذاته والمستوى الذي يريد أنْ يأخذه الناس عنه. إنَّما ينشغل بفائدة الناس الروحية، بينما تختفي ذاته تمامًا.لذلك هو يُحَضِّر درسه أو عظته أو محاضرته ولا مانع عنده أنْ تكون ورقة تحضيره ظاهرة فهو لا يُضَيِّع فائدة السامعين من أجل أنْ يأخذوا عنه فكرة أنَّه يتكلم من الذاكرة الخادم المتواضع يهتم بتحضير درسه.ولا يعتمد على معلوماته السابقة ولا على ذاكرته، كما يفعل بعض الخدام الكبار، ولا يُحَضِّرون ما يقولون فتبدو كلماتهم أحيانًا ضعيفة لأنَّهم لم يتواضعوا بل وثقوا بأنفسهم وبقدراتهم أزيد مما يجب.الخادم المتواضع يحترم عقليات السامعين مهما صغروا.ويبذل كل جهده لكي يقدم لهم كلامًا دسمًا يشبعهم.
التواضع والذات
الخادم المتواضع ينكر ذاته. يختفي لكي يظهر الرب، كما قال القديس المعمدان "ينبغي أنَّ ذلك يزيد وأنِّى أنا أنقص" (يو30:3).أمَّا غير المتواضع فيتخذ الخدمة ليبنى بها ذاته بطريقة خاطئة فهو يفكر كيف يرتقى في الخدمة، وليس كيف يرتقى بالخدمة، ويفكر في مستوى المجالات التي يتكلم فيها، وربما يسعى إلى المناصب وقد يصطدم بقيادات الكنيسة. ويتعوَّد كيف يأمر وينهى وينتقد وربما يفتخر بخدمته ومدتها ومستواها.يقول أنا لي 20 سنة في الخدمة. أنا خرَّجت أجيالًا.. ويكبر في عينيّ نفسه ويريد أنْ يُطاع، لا أنْ يطيع ويصطدم بالأنظمة الموضوعة. ويحكى قصصًا عن ماضيه ويدخله روح العظمة.
الخادم المتواضع يكون كالنسيم الهادئ.في دخوله وخروجه لا يشعر به أحد، يكون رقيقًا دمثًا وديعًا، لطيفًا في معاملاته، لا يخدش شعور أحد، لا يجرح إنسانًا، لا يهتم بتولي مناصب في الخدمة، يطيع في كل ما يوكل إليه، "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت19:12) "ولا يرتئي فوق ما ينبغي" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 3).
احذر أنْ تُفقدك الخدمة تواضعك.لأنَّ كثيرين كانوا متواضعين قبل الخدمة ثم تغيروا. أمَّا أنت فلا تكن كذلك لأنَّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! (مت26:16).
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي

عدد الزيارات 970

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل