عن الحياة ببساطة

17 يوليو 2021
Large image

يتخيل الإنسان الغني عادة أنه لا يرتكب أية خطية مادام لا يسلب الفقير ماديًا. لكن تكمن خطية الغني في عدم مشاركته ثروته مع الفقير. في الواقع احتفاظ الغني بكل ثروته يعني ارتكاب نوعٍ من السرقة. والسبب أنه بالحقيقة كل الغنى هو من الله، فهو ملك الجميع بالتساوي... والدليل على ذلك يحيط بنا في كل مكان. أنظر إلى الفاكهة النضرة التي تنتجها الأشجار والأدغال. أنظر إلى التربة الخصبة التي تعطي كل عام حصادًا وفيرًا هكذا. أنظر إلى العنب الحلو على العناقيد الذي يمنحنا الخمر لنشربه ربما يدعي الأغنياء أنهم يمتلكون الكثير من الأراضي حيث تنمو الثمار والحبوب، لكن الله هو الذي يجعل البذرة تنبت وتنضج. فواجب الأغنياء أن يشاركوا كل حصاد أرضهم مع كل من يعمل فيها، ومع كل من له احتياج.
إننا لسنا في حاجة لشراء الهواء، والماء، والنار، وضوء الشمس وما شابه ذلك. فقد أعطى الله لكل إنسانٍ كفاية من كل هذه البركات لينعم بها مجانًا. تشرق الشمس بالتساوي على الفقير والغني، وكلاهما يستنشق نفس الهواء. إذن لماذا خلق الله هذه الضروريات التي هي عماد الحياة للاستخدام العام، بينما المال ليس عامًا؟ السبب في ذلك له شقان: لحفظ الحياة ولفتح الطريق للفضيلة.
من جانب، لو كانت ضروريات الحياة غير عامة، لانتزعها الغني من الفقير بطمعه المعتاد. ففي الواقع حيث أن الأغنياء يحتفظون بكل المال لأنفسهم، فمن المؤكد كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للضروريات أيضًا.
ومن الجانب الآخر، لو كان المال عامًا ومُتاحًا للجميع، إذن لما كانت هناك فرصة للكرم من جانب الأغنياء، وتقديم الشكر من جانب الفقير.
عندما تفتقر أسرة ما، تصير مدفوعة للاستدانة من أجل البقاء. لكن إن طالب الدائن بفوائد على الدين، حينئذ تسقط هذه الأسرة بالأكثر في عمق الحفرة. فتلتزم ليس فقط برد الدين بل أيضًا الفائدة التي تتراكم عليه. ربما يدعي الدائن حتى أمام نفسه أنه يتصرف بكياسة، لكن فعليًا يتصرف بخبثٍ شديدٍ وراء مظهر العطاء متعمدًا الأذى لغيره.
إنه يتاجر على حساب مصائب الآخرين، ويستفيد من نكبتهم.
إنه يطلب الفوز بالماديات في قالب عمل الرحمة، وهكذا يحول العطاء إلى سرقة. يبدو أنه يرسي بالعائلة الفقيرة على ميناء الأمان، لكنه في الحقيقة يدفع السفينة نحو الصخور. ربما يتساءل الدائن: لماذا يجب عليّ أن اقرض الآخرين مالاً وهو مفيد لي، ولا أطلب مكافأة لذلك؟ والإجابة إنك سوف تنال مكافأة، في مقابل الذهب الذي أقرضته على الأرض، ستأخذ ذهبًا في السماء بنسبة أكبر كثيرًا في الفائدة فوق ما تستطيع أن تتصور.
تخيل نجارًا يعمل بأدوات بسيطة. يأخذه عدة أيام ليصنع منضدة بسيطة. وتُباع هذه المنضدة بثمن بخس لأنها ذو نوعية ضعيفة جدًا. له الخيار، إما أن ينفق كل ما يكسبه من مالٍ لشراء الطعام والشراب أو يضع جانبًا بعض المال حتى وإن كان هذا يعني له أن يجوع، حتى يتمكن من شراء أدوات أفضل. إن فعل الأمر الأخير، حينئذ سريعًا ما تستطيع صنع مناضد جيدة بأكثر سرعة وهكذا يرتفع مكسبه بالمثل. هذا الاختيار يشابه الاختيار الروحي الواجب على كلٍ منا. فإما نقوم بإنفاق كل ما نملكه من ثراء على ملذاتنا الخاصة أو نضع جانبًا جزءً من ثروتنا لنعطيه للآخرين. إن فعلنا الأخيرة حينئذ يمكننا أن نضحي بالقليل من الملذات الأرضية وقتيًا، أمام السرور الذي ندركه في السماء والذي فيفوق أكثر كثيرًا اللذة التي فقدناها على الأرض. كل عمل رحمة على الأرض هو استثمار في السماء.
نُدعى نحن تلاميذ المسيح أن كان هدفنا على الأرض هو أن نضع كنوزنا في السماء. ولكن أعمالنا تناقض كلماتنا. يبني الكثير من المسيحيين لأنفسهم منازل جميلة، ويعدون الحدائق الرائعة، ويشيدون حمامات السباحة ويشترون الأفدنة. فليس بالعجيب إذا رفض الكثير من الوثنيين تصديق ما نقول. يتساءلون إن كانت أعينهم متطلعة إلى منازل في السماء، فلماذا يبنون منازل على الأرض؟ إن كانوا يمارسون ما يقولون لتركوا ثرواتهم وعاشوا في أكواخ بسيطة. لذلك يستخلص هؤلاء الوثنيين أننا لا نؤمن بحق في الديانة التي نعترف بها، ولذلك يرفضون قبول هذه الديانة بجدية.
ربما تقول إن كلمات المسيح بصدد هذه الأمور يصعب جدًا تنفيذها، وأنه بينما تريد روحك هذا، جسدك يكون ضعيفًا. أجيبك أن حكم الوثنيين عليك هو أكثر دقة عن حكمك على نفسك. فعندما يتهمنا الوثنيون بالرياء يجب أن يجيب الكثير منا بأنه مذنب.
-11-
يرى البعض أن منازلهم التي يقيمون فيها هي مملكتهم، وبالرغم من علمهم أن الموت محتم وأنه يومًا ما سيجبرهم على تركها، ففي قلوبهم يشعرون أنهم يمكثون إلى الأبد. إنهم يفتخرون بحجم منازلهم، والمواد الممتازة التي صنعت منها. يجدون متعة في زخرفة منازلهم بألوان زاهية، وفي انتقاء الأثاث الأكثر صلابة والأفضل لملأ الغرف. يتخيلون أنهم باقتناء منزل معمر... سيجدون فيه سلامهم، أي كلما تأكدوا أن حوائطه وأسطحه سوف تظل متينة إلي أجيال كثيرة.
أما نحن فعلى النقيض، نعلم أننا مجرد ضيوف مؤقتين على الأرض. ندرك أن المنازل التي نقطنها هي بمثابة فنادق على الطريق إلى الأبدية. إننا لا ننشد سلامًا أو أمنًا من الحوائط المادية من حولنا أو الأَسقف فوق رؤوسنا. بل بالحري نريد أن نحيط أنفسنا بحوائط النعمة الإلهية. ونتطلع إلى السماء عاليًا كسقفٍ لنا. أما الأثاث في حياتنا فيجب أن يكون أعمال صالحة، نعملها بروح الحب.
-12-
عندما نعيش بحسب مبادئ إيماننا السلوكية سوف يأتي رد فعل من حولنا في ثلاثة احتمالات.
أولاً، ربما يتأثرون بالمثل الذي نقدمه بصلاحنا، وبالغيرة التي يشعرون بها للسرور الذي ننعم به، فيشتاقون أن ينضموا إلينا ويصيروا مثلنا. ورد الفعل هذا هو ما نبتغيه بالأكثر.
ثانيًا، ربما يكونون غير مكترثين بالأمر، بسبب ارتباطهم باهتماماتهم وأنانيتهم فيما يشغلهم من أمورٍ. وبالرغم من رؤيتهم لمنهج حياتنا، وقد أعمت قلوبهم، لذلك لا نستطيع أن نحثهم على اتخاذ هذا المسلك.
ثالثًا، ربما يصيرون ضدًا لنا، إذ يشعرون بالغضب من نحونا. إذ يشعرون أن مثلنا يهددهم، وقد يغضبون علينا. لذلك يلتصقون بالأكثر بممتلكاتهم المادية وطموحاتهم الأنانية، ويقذفوننا كلما سنحت الفرصة.
من الطبيعي إننا نخشى هذا النوع الثالث من رد الفعل، لأننا نريد أن نعيش في سلام مع جيراننا بغض النظر عن معتقداتهم وقيمهم ولكن إن لم يأتِ رد الفعل هذا علينا من أي شخص، علينا أن نعجب هل نحن حقًا ننفذ وصية المسيح.
-13-
هل تتضايق عندما يسقط طبق أو إناء على الأرض فينكسر إلى أجزاء رفيعة؟ هل تنزعج عندما تهب ريح قوية، وتسمع لألواح سقف بيتك أن تتخلع؟ هل تقلق من أجل محصولات حقلك عندما يزداد هطيل الأمطار لئلا تغرق الأرض؟ هل تشعر بالخوف ليلاً عند سماع طقطقة باب أو حين يصرف، خشية من اللصوص الذين ربما قد أتوا لسرقة مقتنياتك؟
هذه المشاعر طبيعية تمامًا. لكن التحدي في إيماننا أن نصير غير مكترثين بالمقتنيات المادية حتى أن أي شيء من هذا النوع لا يهمك من المؤكد انه مادمنا نعيش على هذه الأرض لابد آن يكون عندنا أطباق نأكل فيها، أسقف فوق رؤوسنا لتحمينا من الجو الخارجي، محاصيل في حقولنا لنقتات عليها وقطع أثاث أساسية في منازلنا. ولكن إن اجتهدنا بأقصى ما نستطيع، سوف نتيقن أن الله سوف يوفي احتياجاتنا. وإذا ما انكسر شيء، ضاع، أو سرق، سيدبر الله ويقرر إن كان ومتى يعوضنا عنه.
-14-
تظهر مهارة شخصً ما في طََرْقْ النحاس ليصنع أشكالاً رائعة، وينحت نماذج متقنة عليها. وآخر له مهارة في صنع الأثاث، يضع قطع الخشب جنبًا إلى جنب بثباتٍ حتى يكون متينًا لا ينفلق. وثالث يستطيع أن يغزل أفضل صوف بينما رابع ينسجه إلى ملابس. وخامس بناء يستطيع أن يضع حجر على آخر ليبني حائطًا، بينما سادس يصنع سقفًا على قمة الحائط ليصنع منزلاً. حقًا هناك حِرَف مختلفة، وكل منها يحتاج عدة سنوات لبلوغها، حتى يستحيل أن نفندها جميعًا.
والآن ما هي الحرفة التي يجب على الأغنياء أن يكتسبوها؟ إنهم لا يحتاجون أن يطرقوا النحاس، أو يشكلوا الخشب، أو يبنوا بيوتًا... بل بالحري عليهم أن يتعلموا كيف يستخدمون ثروتهم حسنًا، لخير الجميع ممن هم حولهم. قد يظن الحرفي العادي أن هذه حرفة يسهل أن يتعلمها. على العكس، إنها أصعب المهارات على الإطلاق. إنها تحتاج إلى حكمة عظيمة وقوة أخلاقية رفيعة. أنظر كم يحقق الكثير من الأغنياء في اكتسابها، وهم قليلون الذين يمارسونها بكمال.
-15-
عندما يحيك خياط رداء ويقوم ببيعه، تحدث خدمة واحدة وهي وضع ثوب على جسم إنسان. بالمثل عندما يصنع الإسكافي زوجًا من الأحذية ويبيعه، فالخدمة الوحيدة المقدمة هنا هي وضع حذاء في أرجل. ولكن عندما يقدم إنسان هدية لأخر، سواء من المال أو شيء ما، هنا الخدمة المقدمة مزدوجة. أولاً يخرج المتقبل الهدية بفائدة مادية منها. ثانيًا يخرج المعطي بفائدة روحية... لأن كرمه في العطاء يأتي إليه ببركة لروحه. ويمكن أن تكون هناك خدمة ثالثة: إن امتلأت نفس المتقبل الهدية بشكر متواضع فيكون بمثابة بركة لروحه. تخيل مجتمع لا يبيع فيه أحد شيء... بل يتقاسم كل واحد مجانًا مهاراته وثرواته مع الآخر. حينئذ يأتي كل عمل في مثل هذا المجتمع ليس بنفع مادي فحسب، بل وبنفع روحي أيضًا. مثل هذا المجتمع كائن بصورة مصغرة في العائلات الكبيرة، حيث تكون السماء قد نزلت إلى الأرض.
-16-
لا يُحكم على عطايانا بالكم الكبير من العطايا، بل بمدى اتساع قلب المعطي. إذا ما شاركت امرأة فقيرة أخرى فقيرة في وعاء طعامها الضئيل ينال هذا العمل مدحًا يفوق ما يناله الرجل الغني الذي يلقي بضع العملات الذهبية وسط مجموعة منها في الكنيسة. ولكن بالرغم من علم معظم المسيحيين بحقيقة ذلك تقوم كلماتهم وأعمالهم برسالة أخرى. عندما يقدم رجل غني هدية كبيرة للكنيسة، يُقدم له عظيم الشكر، بالرغم من أن هذا المبلغ لا يمثل الكثير بالنسبة له، فلن ينقصه شيء، يمدح على سخائه. وعندما يقدم رجل فقير هدية صغيرة، لا يقال شيء، وإن كانت هذه الهدية تسبب له الجوع... ولكن لا يمدحه أحد ولا يشكره. من الأفضل ألا نشكر أحدًا عن تخصيص مدحنا للغني. والأفضل من كل ذلك أن نهتم بالأكثر بملاحظة عمل الكرم الحقيقي سواء قدمه الغني أو الفقير قبل تقديم المديح. حقًا لنكن كرماء في مدحنا كما أن المعطي سخي بماله.
-17-
نحتاج بعضنا لبعض
انظر كيف تخرج سنبلة القمح. يشير معظمنا لجهد الزارع في تقليب التربة، وبذر البذور وحَصد الحبوب. لكن الأمر ليس بهذه السهولة.
يحتاج الزارع إلى الحداد ليصنع المجراف، وشفرة المحراث، والمنجل والفأس.
إنه يحتاج إلى النجار ليصنع بروازًا للمحراث ونيرًا للحصان.
يحتاج إلى صانع الجلود ومخزنًا للحبوب والتبن.
يحتاج إلى خباز ليصنع من الحبوب خبزًا وإلا يصير تعبه باطلاً.
ويحتاج إلى رجل الغابات ليمد النجار بالخشب لينشره، وخشب للخباز لإشعال الفرن.
وهكذا يحتاج إنتاج القمح إلى أناسٍ مختلفين.
إذًا إن كنا نحتاج بعضنا لبعضٍ من أجل البقاء نفسه، لماذا نستغل ونرعب بعضنا البعض أبدًا؟ ليس شيء أكثر حماقة وعدم تعقل من محاولتنا الفوز على الآخرين. من يرعب الآخرين ويستغلهم، إنما يرعب ويستغل نفسه.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
-18-
تقول لي أنك محتاج إلى المال. تقول إن المال هام ليمكنك من شراء احتياجاتك. إنني لست غير متفق معك، فأنا أيضًا أريد مالاً حتى أعيش.. لكنني أتمنى ألا أكون في حاجة إلى المال. أو بالحري أتمنى ألا يكون أحدًا منا في احتياج إلى المال. يطلب الله منا أن نثق فيه ليمنحنا كل ما نحتاجه. أرجو أن نكون قادرين على الثقة في آخرين أيضًا ليمدوننا باحتياجاتنا. في الحقيقة إنني كواعظ مضطر لذلك... إنني أنادى بالله الحق، واعتمد كلية على هبات من يسمعني - هدايا تأتيني في شكل نقود. يقدم ذلك آخرين فيما بينكم. إن أعطي كل منا لمن له احتياج مجانًا لصار المال غير ضروري. إن اهتم كل منكم بالنظر في احتياجات الآخرين، ثم نسد هذه الاحتياجات على قدر طاقتنا مجانًا، لما احتاج أحدنا إلى المال. ولما جاع أحد أو شعر بالبرد، فحينئذ يصير الكل في اكتفاء.
-19-
المهارة المطلوبة من الأغنياء لحسن استخدام ثرواتهم هي أعلى الفنون جميعًا. لا يبني معلمها على الأرض، بل في السماء، لأنه لابد للأغنياء من الاتصال المباشر مع الله لاكتساب هذا الفن وممارسته.
أدواتها غير مصنوعة من الحديد أو النحاس بل من الإرادة الحسنة، لأن الأغنياء لن يحسنوا استخدام ثرواتهم إلا إن أرادوا ذلك.
حقًا إن الإرادة الصالحة هي في ذاتها المهارة. إن أراد شخص غني بإخلاص أن يساعد الفقير، سرعان ما يريه الله أفضل السبل. وهكذا حينما وجب على الشخص الذي يتدرب ليصير نجارًا أن يتعلم كيف يتحكم في المطرقة والمنشار والإزميل، بالمثل وجب على الرجل الغني الذي يتدرب على خدمة الفقير أن يتعلم كيف يضبط عقله وقلبه وروحه.
عليه أن يتعلم باستمرار التفكير في أمور صالحة، ماحيًا كل أفكار الأنانية.
عليه أن يتعلم كيف يشعر بالحنو، ماحيًا كل خبثٍ وازدراءٍ.
عليه ألا يشعر سوى كيف يرغب في إطاعة الهً.
هذا ما يجعلني أقول إنها مهارة أن تكون تلميذًا غنيًا للمسيح، وهي أسمى كل الفنون، والشخص الذي يقتنيها فهو بالحق قديس.
القديس يوحنا الذهبي الفم

عدد الزيارات 747

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل