تتضمن محاكمة أدم والبشارة بالخلاص مرتبة على فصل إنجيل بشارة الملاك جبرائيل للسيدة العذراء ( لو ١ : ٢٦-٣٨ ) بميلاد المخلص لقد مرت السنون وكرت القرون والجنس البشرى يتألم متقلباً في المشقات والاحزان التي آلت اليه بطريق الميراث عن أبويه الأولين وفي تلك الأثناء كانت رحمة الله تنظر إلى خراب العالم مفكرة فى طريقة جديدة تكفر عن العصيان وتعيد العمران لأن الله قد وجه سهام سخطه إلى بنى الانسان نظير المخالفة والعصيان تارة بالطوفان وطوراً بالنار والكبريت واحياناً بافتتاح الارض فاهـــا وابتلاع المخالفين ثم بالحروب المتتابعة لبعضها وغير ذلك ، وبواسطة الرحمـــــة قد تقرر منذ الازل وصدرت المراسيم الالهية ، بأنه حيث أن الخراب قد حدث للعالم بواسطة ثلاثة هم : لوسيفورس وحواء وأدم فيجب أن يتجدد بواسطة ثلاثة آخرين هم : جبرائيل ومريم ويسوع وقد مضى ردح من الزمان والجنس البشرى ينتظر بفروغ صبر ذلك الوقت السعيد ، إلى أن جاء ملء الزمان وارسل جبرائيل الملاك من عند الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة ، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف ، واسم العذراء مريـــــم ، فدخــــل اليها الملاك وقال " سلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك " وقد صور بعضهم هيئة المحاكمة والمداولة التي جرت بين عدل الله تعالى ورحمته بديوان المحكمة الإلهية بشأن آدم الانسان الأول هكذا: الاتهام: أن آدم الانسان الأول قد خالف وصية الله ، بأكله من الشجرة المنهى عنها ، وعقابه على ذلك ينطبق على الفقرة الثالثة من المادة الأولى وهذا نصها : " من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً ، وأما شجرة معرفة الخير والشـــــر فـــلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل. منها موتا تموت " قال العدل الالهى : إن أدم يستحق عقوبة الهلاك لمخالفته القوانين ، قالت الرحمة : إنه مخلوق للسماء ويجب أن يعفى عنه قال العدل: ولوسيفوس الملاك أيضاً كان مخلوقا للسماء ، ولما خالف هلك قالت الرحمة : يوجد فرق بين آدم ولوسيفورس الملاك ، فهذا روح نورانى قوى وآدم من تراب ضعيف ، فالملاك كان في السماء وآدم على الارض قال العدل : نعم إنه ضعيف وعلى الأرض ، ولكن كانت له وسائط تقويه وهي النعمة الفعالة ، وخضوع الجسد للروح قالت الرحمة : والملاك أيضاً كان له وسائط تقويه وهى سمو معرفته وقوة ارادته وقربه من الله قال العدل كان الواجب على آدم أن يتخذ له عبرة من قصاص الملاك فلا يخالف مثله قالت الرحمة : ما كان للملاك شيطان يجر به . ولا حواء تغويه . ولا ثمرة يشتهيها . قال العدل: على أى حال يجب قصاصه . لأنه لم يعتبر ربه ولا الملكوت . ولا خاف من هول جهنم . والخطية ليست بالأمر الهين ، ولا شرها بالشئ القليل حتى تعتذرى عنه ، فالمذنب يجازى بذنبه ولا محاباة . والحكم ذاته الذي توقع على الملاك وأتباعه الطالحين يجب أن يتوقع عليه. قالت الرحمة ان ذلك الحكم لم يشمل كل الملائكة ، بل بقى منهم القسم الاكثر يمجد الله في السماء. بخلاف الحكم على آدم فقد شمل كل ذريته قال العدل: فليكن كذلك لكل ذريته فيتمجد عدل الله فيهم. قالت الرحمة : عدل الله قد تمجد في قصاص الملائكة. وأنا متى أظهر بمجده. ومع من استعمل شفقتي ؟ في جهنم لا دخل لي ، وفي السماء لا احتياج إلى الرحمة قال العدل: وأنا لا يهمني سوى وصول حقى تماما قالت الرحمة: إذا وصلك حقك تماماً بدون هلاك أدم ألا ترضى؟. قال العدل: أرضى قالت الرحمة أيكفى لذلك أن يطرد آدم من الفردوس إلى ارض الشقاء والهوان حيث يبكى ويحتمل الأمراض والأحزان على شرط أنه ينجو من الهلاك الأبدى. قال العدل: لا. هذا لا يكفى. قالت الرحمة أيكفي أن يموت ويرجع إلى التراب ويصير طعاماً للحيات بحيث تنجو نفسه من جهنم. قال العدل: كلا. لا يكفي. بل يجب أن يموت عنه بار. فتشوا هل يوجد في الأرض بار؟. لا يوجد. ليس ولا بار واحد بل جميعهم زاغوا وتلطخوا بخطية آدم نعم وجد أبرار كثيرون مثل نوح ويوسف وموسى ويشوع بن نون وغيرهم. ولكن تسميتهم ابرارا محمولة على برارتهم من الخطية الفعلية لا من الخطية الأصلية . لأن نوحاً خلص ذاته وسبعة أشخاص فقط من الطوفان ، لا من الهلاك . ويوسف أنقذ أهل مصر وما حولها من الجوع لا من جهنم . وموسى أنقذ الإسرائيليين من عبودية فرعون ، لا من عبودية الشيطان ، ويشوع قد أدخلهم أرض الميعاد أى أورشليم الأرضية ، لا السمائية . إذن لا يوجد من يوفى عن آدم أم رافائيل؟ سكت جميعهم وما قبلوا الموت عن آدم. فقال الأب: ومع ذلك إن موت البشر أجمع. وملاشاة الملائكة بأسرهم. وابادة كل العالم. كل هذا غير كاف لايفاء عدلى حقه. لان كل ما ذكر هو متناه. أما دين آدم فهو غير متناه . عند ذلك بـرز الاقنوم الثاني وقام في الوسط قائلا لابيه الازلى هأنذا يا أبت فارسلني لأتخذ جسداً وأحتمل الآلام والموت لخلاص آدم ايفاء للعدل وتعظيماً للرحمة. ولأن الانسان أخطأ لرغبته فى أن يصير شبيهاً بالله. فأريد أن أصير بحالة إذا تشبه بي يخلص فقال الآب: يا ابنى يلزمك أن تولد في مغارة بين الحيوانات. فقال: لا يهمني. هأنذا فارسلني. قال الآب : يلزم أن تهرب إلى مصر وتكون مضطهدا مهانا ثم تموت
عريانا فقال: لا يهمني. ارسلني. لأن ماذا لى هنا وشعبى قد سبى مجاناً ؟ فقال المبشر لآدم: بشراك افرح. فقال آدم كيف أفرح وأنا جالس في الظلمة . قال المبشر : افرح. لأنه قد تقرر اليوم خلاصك إذا ارتضـــــي ابـــن الله أن يتجسد من بتول لأجلك فترج وتب.فبقی آدم ونسله من بعده ينتظرون تلك البتول المنتخبة ليتجسد منها ابن الله.فقد مرت سارة ولها عظمة الخلافة ولم تكن هي المختارة لأنها ولدت أسحق الذي هو رسم لمخلص العالم ومرت راحيل ولم تكن هي المنتخبة لأنها ولدت يوسف لا يسوع. ومرت بتشبع ولم تكن هي المنتظرة لأنها ولدت سليمان الحكيم لا حكمة الله ومرت دابورة بوظيفة قائدة للشعب ولم تكن هي المنتظرة. ومرت يهوديت مخلصة مدينة الرب وبيدها رأس أليفانا ولم تكن هـــي المنتظرة وهكذا استمر العالم سالكاً في الظلمة مدة أجيال عديدة وبينما كان الناس على هذا الحال إذ ظهرت نجمة الصبح السيدة المختارة مريم البتول التي هي وحدها انتظار العالم ورجاء الشعوب الموقوف عليها اجراء عمل الخلاص وعند بلوغها السنة الثالثة عشرة إذ كانت تصلى ملتمسة من الله أن يرسل سريعاً إلى العالم المخلص المنتظر وإذا بجبرائيل الملاك وقد وقف أمامها وقال لها :" سلام لك أيتها الممتلئة نعمة !! الرب معك " فلما سمعت كلامه اضطربت عجباً !!! إن مريم المختارة تخاف من ملاك سماوى !! وحواء لم تخف من شیطان جهنمی !! ولما قال الملاك للسيدة مريم : " ها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى قالت له وكيف يكون هذا .؟ أما حواء فلما قال لها الشيطان : " يوم تأكلان من الثمر تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر لم تقل " كيف يكون هذا " فما أكثر الذين يسمعون وساوس الشيطان غير خائفين ولا يتوقفون قائلين : "كيف يكون هذا". وما أحسن وأحكم جواب الملاك لسيدتنا مريم. إذ ترددت اتضاعا وتهيبا من تجسد مخلصنا في حشائها الطاهر قائلة: " كيف يكون هذا فأجابها الملاك. "ليس شئ غير ممكن لدى الله" فأطمأن قلبها بهذا الجواب وأذعنت قائلة: " " هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي قولك وعند جوابها هذا حل الإله في حشائها وصار جسدا الإله صار انسانا وحل فينا والنور الذي كان قد حجب بظلمة الخطية ابتدأ يشرق على السالكين في الظلمة والجالسين في كورة الموت وظلاله تجسد الابن وعاش بيننا كأنسان نحو ثلاث وثلاثين سنة مسكيناً فقيراً تعباً أخذاً أمراضنا وحاملا أوجاعنا وفي آخر سنى حياته كان منذراً او معلماً ومخرجاً للشياطين ومفتحاً للعميان ومشفياً للمجانين وقد أنهى حياته الأرضية معلقا على صليب الآلام والإهانات بإرادته فسحق بذلك رأس الشيطان الحية القديمة إتماما للوعد بخلاص أدم وذريته فيا لمحبة الله غير المتناهية ويالعظمة رأفته بنا ! فإنه لم يكتف بخلقنا
وحفظنا وعنايته بنا كل ايام حياتنا وتسخيره لخدمتنا كل ما في السماء وما على الأرض بل ارسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا برنـــــا مجانا بنعمته بالفداء ليس عن استحقاق لنا وإنما حباً منه ورأفة بنا فهل من حب أعظم من هذا؟ يقول البشير : " ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع الانسان نفسه لاجل أحبائه " ولكن حب مخلصنا أعظم بكثير لأنه لم يضع نفسه عن أحبائه بل عن أعدائه بالخطية والفرق بين النوعين ظاهر كالفرق بين الصداقة والعداوة.
إن الله أحبنا حتى بذل ابنه الوحيد فهل أحببناه نحن لانه أحبنـــا اولا تأملوا هذه المسالة وأسمحوا لي أن أقول الحق بإخلاص وبدون مراعاة ولا محاباة إن الله أحبنا أولا فليتذكر كل منا خطاياه ويعلم أنه كافأ الله عن محبته له ولير سوء تصرفه وقبح نكرانه احسان من صلب ومات عنه وليخف ممن ليس من صفاته الرحمة والرأفة فقط بل العدل والانصاف أيضا ان الله أحبنا أولا فهل أحببناه؟. أن أعمالنا تدل على اننا لم نحبه لأن شرط محبة الله الحفظ والعمل بوصاياه فهل حفظنا الوصايا ؟ أظن لا لأننا نرى الكثيرين يضعون الإساءة بوضع الاحسان ويقابلون النعمة بالنكران ويؤثرون أقـــل الذى اسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا منفعة على محبة الله ولعل البعض يقول : أنى أحب الله واحب قريبي حسنا تقول ولكن ما فائدة القول إذا كان العمل يدل على أنك لا تحب الله ولا تحب أخاك وقريبك ؟ أو لم تسمع قول الرسول: " أن قال أحد أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره " فأن كنت يا هذا تحب الله وتحب قريبك فلماذا تبخل على الفقير الذي يسالك حاجة وتمنع عنه الخير ثم تهينه وتعيره بالبطالة والكسل؟ ولماذا تسعى في الانتقام من أخيك حينما يغيظك وتقول انك تريد تأديبه فقط؟ أو لم يسمع قوله تعالى: "لـــى الانتقام أنا أجازى يقول الرب إذا كنت تحب الله فلماذا لا تواظب على الكنيسة في أيام الأحد وفي الاعياد على الأقل؟ ولماذا لا تقف بأدب وخشوع فى بيت الله حتى لا تشوش على المصلين ؟ ولماذا لا تؤدى الواجبات الدينية المفروضة كالتوبة والندامة والاعتراف ثم التناول من جسد الرب ودمه الاقدسين ؟ هذا ويعوزني الوقت لو اردت زيادة البيان وانما اقول بالأجمال ما أشد جحود الانسان وما أقرب أنكاره للمعروف والاحسان فسبيلنا أيها الأحباء أن نوبخ نفوسنا على ما فعلناه ضد شرف طبيعتنا. وما جنيناه ضد بارينا وفادينا ولنؤد لعظمته تعالى واجب الطاعة والشكر كل حين ذاكرين أحساناته الكثيرة وكل ما يدل على شدة محبتنا لجلاله السامي مزاولين كلى ما يقر بنا إليه لنكون أهلا لتلك المنزلة الرفيعة التي رفعنا إليها له المجد إلى الأبد امین.
القديس يوحنا ذهبي الفم
عن كتاب العظات الذهبية
المزيد