الدينونة العامة للبشر "وسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات" (قانون الإيمان)

31 أغسطس 2021
Large image

هذا هو الحدث الذي به ينتهي التاريخ. وما يحدث "بعد" الدينونة النهائية ليس مُعتَبَراً من التاريخ، بل هو الأبدية الفائقة على والخارجة عن التاريخ. كما أنه بحلول هذا الحدث يكون تدبير الخلاص الشفائي للبشرية قد اكتمل. وهكذا يأتي التاريخ البشري إلى نهايته، حيث لم يَعُدْ زمان للعمل بعد؛ بل فقط نتيجة الإيمان والعمل في هذه الحياة الحاضرة.
الدينونة الأخيرة:
التعاليم المختصة بالتعليم عن الدينونة الأخيرة يُردِّدها الذين يتلون قانون الإيمان، وكانوا قديماً يردِّدونه باللحن والترتيل، ولم يبقَ إلاَّ الترتيل للبند السابق على بند "الدينونة" وهو: "وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، آمين"؛ وكذلك للذين يُصلُّون والذين يستمعون لصلوات القدَّاس الإلهي للبند المختص بالدينونة: "ورسم يوماً للمجازاة، هذا الذي يظهر فيه ليدين المسكونة بالعدل، ويُعطي كل واحد حسب أعماله" (قداس القديس باسيليوس)؛ وكذلك للذين يُداومون على قراءة أو الاستماع للإنجيل المقدس.
ومن بين ما تتضمَّنه الدينونة، الفرز والفصل والتمييز بين الأبرار وغير الأبرار، كما سيرد في بقية المقال، كما سيقف "كل واحد" في وضع الدينونة.
وفي قانون الإيمان المُبكِّر المُسمَّى "قانون الرسل"، يعترف بأنَّ المسيح "سوف يأتي ليدين الأحياء والأموات". ثم أتى التأكيد على ذلك في قانون الإيمان الصادر عـن مجمع نيقية المسكوني عام 325م، الذي أُضيف عليه هذا البند في مجمع القسطنطينية المسكوني عام 381: "وسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات"، مُضيفاً: "الذي ليس لمْلْكه انقضاء".
الدينونة الأخيرة هي فرز المختارين من غير المختارين، ليقضي كل فريق أبديته: إما للحياة في حضرة الله، أو بعيداً عن حضرة الله.
والدينونة لن تكون فقط للأفراد "كل واحد"، بل وأيضاً هناك دينونة وقضاء للشعوب: «لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل، والشعوب بأمانته» (مز 96: 13).
والدينونة الأخيرة هي قمة العمل القضائي الذي بدأ في التاريخ للأفراد والشعوب والأُمم. أما المسيح فسيكون هو الديَّان الأخير لكل أعمال البشر والشعوب الذين سيقفون أمام كرسي الدينونة، كما أوضح القديس يوحنا ذهبي الفم(1).
كلمات أحداث الدينونة:
يأتي، يجلس، يُميِّز:
ثلاثة أفعال تصف عمل الدينونة التي يُجريها ابن الله كما صوَّره مَثَل الدينونة الأخيرة:
«ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القدِّيسون معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيُميِّز بعضهم من بعض، كما يُميِّز الراعي الخراف من الجِدَاء (جمع "جَدْي")» (مت 25: 32،31).
وأما الحَدَث الأساسي في الدينونة الأخيرة، فهو الفصل والتمييز بين مَن سيكونون مع الله إلى الأبد، وبين مَن سيكونون بعيداً عن حضرة الله، كما يقول القديس إيرينيئوس(2).
وكما كان في ميلاد الابن الكلمة، وتجربته، وآلامه، وقيامته، وصعوده؛ هكذا سيكون في الدينونة الأخيرة، حيث سيكون للملائكة القديسين حضور فعَّال في هذا الحَدَث:
(مَثَل القمح والزوان): «والحصَّادون هم الملائكة... يُرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم» (مت 13: 41،39).
(مَثَل الشبكة): «يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار» (مت 13: 48).
«فيُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السموات إلى أقصائها» (مت 24: 31)، (مت 25: 31 - النص أعلى).
«لأن الرب نفسه بهُتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعاً معهم في السُّحُب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 17،16).
آيات مُعزِّية في أيام الضيقات
التي تمر بالأقباط في هذه الأيام:
«حتى إننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله، من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها، بَيِّنة على قضاء الله العادل، أنكم تؤهَّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً. إذ هو عادلٌ عند الله أنَّ الذين يُضايقونكم يُجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا، عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته» (2تس 1: 4-7).
«أمواج بحر هائجة مُزبِدَةٌ بخزيهم. نجوم تائهة محفوظٌ لها قتام الظلام إلى الأبد. وتنبَّأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونةً على الجميع، ويُعاقب جميع فُجَّارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها"» (رسالة يهوذا: 13-15).
توقيت الدينونة:
بعد قيامة الأموات تأتي الدينونة. فالأموات يقومون لكي يُدانوا:
«إذاً لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سيُنير خفايا الظلام ويُظْهِر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله» (1كو 4: 5).والإنجيل يضع التأكيد على أن الدينونة الأخيرة ستكون عند «انقضاء العالم» (مت 13: 39).
الدينونة الحاضرة
وعلاقتها بالدينونة الأخيرة:
ولكن يؤكِّد إنجيل يوحنا على كلام المسيح عن الدينونة الحاضرة. فالدينونة الأخيرة النهائية ستكون في الواقع تسجيلاً لِمَا يُحقِّقه بعض الناس من دينونة حكموا بها على أنفسهم منذ الآن من جهة علاقتهم الحاضرة بالمسيح: «الذي لا يؤمن به قد دِينَ (أي حَكَم على نفسه) لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد» (يو 3: 18).
والضمير الحسَّاس يُسابق الزمن في دينونة نفسه: «خطايا بعض الناس واضحة (أمام ضمائرهم) تتقدَّم إلى القضاء (الدينونة)، وأما البعض فتتبعهم» (1تي 5: 24).
الدينونة ليست فكرة عقلية،
بل "يوم" لابد قادم وننتظره:
والدينونة ليست فكرة عقلية، بل هي حَدَث لابد قادم وننتظره كيوم مُحدَّد يُسمَّى في الإنجيل: «قيامة الدينونة» (يو 5: 29)، و«يوم الدين» (2بط 3: 7)، و«ذلك اليوم» (مت 7: 22؛ 2تي 4: 8)، و«يوم الغضب (الإلهي) واستعلان دينونة الله العادلة» (رو 2: 5)، «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجل قد عيَّنه» (أع 17: 31).
وليس المهم هو التحديد الزمني ليوم ومكان الدينونة، بل المهم أن يكون لدينا اليقين بحَدَث الدينونة المزمع أن يأتي: «لأن الله يُحضر كل عملٍ إلى الدينونة، على كل عمل خفيٍّ، إنْ كان خيراً أو شراً» (سفر الجامعة 12: 14)، «يأتي إلهنا ولا يصمت. نارٌ قُدَّامه تأكل، وحوله عاصفٌ جداً، يدعو السموات من فوق، والأرض، إلى مُداينة (دينونة) شعبه» (مز 50: 4،3).
الدينونة عَهَدَ الله بها إلى مَن سبق
وأُدين من البشر:
أسماء الديَّان في العهد الجديد متنوعة، وأول اسم هو: «الله ديَّان الجميع» (عب 12: 23؛ رو 2: 5،3).
1. ويُنسب أحياناً إلى الآب: «أنا لستُ أطلب مجدي، يوجد مَن يطلب ويدين» (يو 8: 50)، «لأنه أقام يوماً هو فيه مُزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عيَّنه مُقدِّماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات» (أع 17: 31)، «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يشتم عِوَضاً. وإذ تألَّم لم يكن يُهدِّد، بل كان يُسلِّم لمَن يقضي بعدل» (1بط 2: 23)
2. أو يُنسب إلى الروح القدس: «ومتى جاء ذاك (الروح القدس) يُبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة» (يو 16: 8).
3. ولكن كثيراً ما يُستعلن شخصياً أنَّ الدينونة ستقوم بواسطة ابن الله المتجسِّد، أي المسيح نفسه: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده...» (مت 25: 31)، «وأوصانا (المسيح) أن نكرز للشعب ونشهد بأنَّ هذا هو المُعيَّن من الله ديَّاناً للأحياء والأموات» (أع 10: 42)، «لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض» (في 2: 10)؛ وذلك لأنه يعرف وقد اختبر ضعفاتنا: «لأنه في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يُعين المجرَّبين» (عب 2: 18)، فهو القادر أن يدين الأحياء والأموات كواحد كان منهم.
الآب أعطى كل الدينونة للابن: «لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 5: 22).
لأنه من منطلق الرحمة، فإنه بإنسانٍ حقيقي، أي ابن الإنسان الذي شارك البشر في أحوالهم، وتجرَّب بكل نوع من التجارب؛ بهذا الإنسان يجب أن تكون دينونة البشر. فهذا الشفيع الإله والإنسان في وقت واحد هو الذي «أعطاه (الله) سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان» (يو 5: 27). وسبب تكليف الابن بالقيام بالدينونة هو «لأنه ابن الإنسان».
العلاقة بين تألُّم الابن والحُكْم عليه بالموت في عهد "بيلاطس البنطي"، وبين تكليفه بدينونة البشر: فهذا الديَّان يحمل في جسده جروح آلامه وموته من أجل الذين حكموا عليه بالموت. الديَّان هو الرجل الذي عُلِّق على الصليب مُداناً من أجل خطايا العالم. إنه لائق جداً أنَّ ابن الله المتجسِّد الذي جاء ليُخلِّص البشرية من خطاياها هو هو نفسه الذي يكون ديَّان الخطية في نهاية الزمن. إنَّ عمل الفداء لابد أن ينتهي بنفس الشخص الذي بدأه.
سرُّ العدالة والرحمة الإلهيتين: يظن الكثيرون أنَّ العدالة الإلهية هي مثل العدالة البشرية. وهذا محض وهم وبُعد عن الحقيقة. فكما عَلَت السموات عن الأرض، هكذا تعلو مفاهيم العدالة الإلهية عن العدالة البشرية.فالعدالة البشرية قاطعة وحاسمة وبتَّارة، لأنها خاضعة لشريعة "الحرف" القاتل أي نصوص قانون العقوبات. أما سر العدالة الإلهية فهو أنها مغموسة بدم الرحمة الإلهية، وهذا مفقودٌ في العدالة البشرية!
العالم كله مُدان أمام الله، لكي يرحم الجميع:
وتظهر هذه التضادة الرهيبة بوضوح في رسالة القديس بولس الرسول إلى مسيحيي روما، فهو يُصوِّر البشرية كلها - يهوداً وغير يهود، وهو التقسيم الطائفي الذي كان سائداً في أيام القديس بولس - بأنها كلها مُدانة ومحكوم عليها بالموت بقوله: «لأن الله أغلق على الجميع -يهوداً مفتخرين بيهوديتهم، وغير يهود عائشين في ضلال الوثنية - معاً في العصيان (أي وضع الجميع معاً في سجن الاستعداد لحُكْم الموت بسبب العصيان)»، ولكنه أسرع واستدرك في الحال وقـال: «لكـي يـرحم الجميع» (رو 11: 32)؛ أي المفتخرين بديانتهم والذين غرقوا في شهوات الوثنية معاً، يرحمهم الله معاً كما حَكَمَ عليهم أولاً بالموت معاً!
هذا ليس موجوداً في قانون العدالة البشرية! وهو ما سيُميِّز عدالة الله في الدينونة الأخيرة، ولكن كيف؟ هذا لا يقدر أحد أن يشرحه أو يستخرج منه أي تعليق؛ بل فقط أن يطلب الجميع الرحمة الإلهية أمام العدالة الإلهية. وهذا ما تصرخ به الحناجر البشرية في كل قدَّاس، بعد ذِكْر يوم الدينونة: "ورَسَمَ يوماً للمجازاة، هذا الذي يظهر فيه ليدين المسكونة بالعدل" (القداس الإلهي)؛ فيكون المردُّ هو التوسُّل ردّاً على هذه المقولة: "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا".
سرُّ العدالة الإلهية:
القاضي والمحامي هما شخص المسيح:
ويكمن الفارق الرهيب بين العدالة البشرية المحكومة بقانون "الحرف" القاتل وبين العدالة الإلهية المغموسة في دم حَمَل الله الحامل خطايا العالم؛ أنه في العدالة الإلهية يجلس القاضي لكي يحكم في شكاية الشيطان ضد الإنسان، وإذا بالقاضي ينزل إلى منصة الدفاع ليكون هو "المحامي" و "الشفيع" عن الإنسان ضد شكايات الشيطان ضده.
وهذا ما يُصوِّره بولس الرسول:
«مَنْ سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يُبرِّر! مَن هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا!» (رو 8: 34،33)
أما نصيب هذا المُشتكي ضد المختارين فقد رآه القديس يوحنا الرائي هكذا:
«الآن صار خلاص إلهنا وقدرته ومُلْكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرح المُشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً» (رؤ 12: 10).من هذا نفهم أنَّ الرحمة الإلهية في الدينونة الأخيرة هي في مجملها عدل، وعدل الديَّان هو رحمة بما لا يُقاس. ونقص الرحمة الإلهية اللامحدودة أو نقص العدل الإلهي اللامحدود، لا يمكن أن يكون هو دينونة الله.
وهاتان الصفتان: العدل والرحمة، ليستا متناقضتين، بل مُكمِّلتان بعضهما للبعض. وقد ظهرتا هكذا على الصليب في كمال مشترك بصورة باهرة لا يمكن إدراكهما بالعقل المجرَّد. إنهما متَّحدتان في اليوم الأخير بطريقة متكاملة وبحكمة لا يمكن فحصها.وهكذا فإنَّ محبة الله لا يمكن تحقيقها بعدل غير رحيم، ولا برحمة غير عادلة. ذلك لأن هذا الديَّان هو "فاحص القلوب" (مز 7: 9)، الذي «بيده نسْمتُك، وله كل طُرُقك» كما قال الرب لبيلشاصَّر الملك الذي حاكم دانيال النبي (دا 5: 23)، إنه «العارف قلوب الجميع» (أع 1: 24).
الراحة والرهبة في حضرة الديَّان: المؤمن لا يرهب أو يخاف من الدينونة الأخيرة، لأنه لا يقف أمام قاضٍ آخر غير شفيعنا والذي قضيتنا بين يديه. والقديس بولس كان واثقاً أنه محفوظٌ بيد "الرب الديَّان العادل" وله عنده: «إكليل البـر الذي يَهَبه لي في ذلك اليوم» (2تي 4: 8).

عدد الزيارات 512

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل