أُدَرِّبُ نَفْسِي

25 سبتمبر 2021
Large image

يقول القديس يعقوب الرسول في رسالته: «إنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ» (3: 7) وذلك عندما تكلّم عن اللسان وكيف أنّه لا يقدر «أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ».
فإن كان الأمر كذلك مع طباع الخلائق غير الناطقة فكيف يستقيم الأمر مع الإنسان الذي يفوق ويتفوق على الخليقة؟ والمتأمِّل يرى فعلاً أنّ الإنسان صاحب السلطان على الخليقة، قد أَخضَعَ ودرّب وذلّل طباع الوحوش والطيور وخلافه.. وبالتدريب والتمرين طوّع الطباع المتوحشة وصيّرها تخضع وتطيع.
والذي نراه في هذا المجال في العالم كلّه يفوق حدّ التصوُّر، ويصل بالإنسان إلى العجب والدهشة كيف يكون هذا؟! فأنت ترى في السيرك كيف تدرّبت الأسود والنمور والأفيال وهي تقوم بالعروض المُذهِلة التي تخالف طباعها الشرسة والمفترسة.. كيف صارت مُستأنسة هكذا؟ وأيضًا في عالم البحار والكائنات البحريّة كيف طوّع الإنسان هذه الكائنات وأصبحت تقدِّم عروضًا وألعابًا غايّة في الإعجاز.
هذا ما كتبه القديس يعقوب، وهذا ما نراه ونسمعه حولنا كلّ يوم وفي كلّ مكان.
+ نعود إذن إلى الطّبع البشري، وما هو مزروع فينا من غرائز في جسم بشريتنا، وما تربّى فينا من عادات وطباع، منها ما هو موروث، وما هو مكتَسَب من التعليم في المدارس، ومن أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده. ونقول إنّ كثيرًا من هذه الطباع يخصّ الطبيعة البشرية والساقطة، والذي نُعَبِّر عنه بإنساننا العتيق. فطباع مثل: الطمع والعنف والغضب والمراوغة والخبث وحُبّ الذات والشراسة وعدم النزاهة وحُبّ الانتقام والتَشَفِّي. وباقى الطباع الرديّة التي يصعب حصرها.
والسؤال: هل هذه الطباع ممكن أن تتغيّر، وهل ممكن أن تُذلَّل. وهل من وسيلة لتدريبها؟
+ والحقيقة الإيمانية أنّنا حصلنا بالنعمة على الخليقة الجديدة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2كو5: 17).. وهذه الخليقة والإنسان الجديد ليست فكرًا ولكن فعل ولادة «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23) والإنسان الجديد المولود من الله، قال عنه القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ (زرع الله) يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ» (1يو3: 9).
وهذه الطبيعة الجديدة والميلاد الثاني والخليقة الجديدة لإنساننا الداخلي، بها صرنا أولاد الله. فالآن نُدرِك أنّنا بإنساننا الجديد، وخِلقتنا التي نلناها بالنعمة، وتجديد الروح القدس بولادتنا من الماء والروح، صرنا مخلوقين ثانية على شبه المسيح ومثاله كرأس الخليقة الجديدة. وأنّنا بحسب الجسد ورثنا الطبيعة البشرية بكلّ قصورها وعيوبها. وأصبح الأمر بالنسبة لنا واضحًا غاية الوضوح.. وهو إمّا أن يسلك الإنسان بروحه ووعيه المسيحي ويعيش بحسب الروح ويثمر لله ثمر الروح، أو أن يسلك بحسب طبيعته البشرية، ويحيا بالجسد وللجسد وبحسب مفاهيم العالم «إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13)، «مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غل6: 8). «وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ... » (غل5: 19–21)، «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غل5 :21، 22).
والصراع إذن قائم بين كياننا وإنساننا الجديد وطبيعة جسدنا العتيقة. والإنسان الروحي مدعو أن يعيش بالروح ويسلك بالروح.. وعليه إذن أن يدرّب نفسه ويُخضِع جسده بتداريب روحية. وكما قلنا سابقًا إن كانت طباع الوحوش تُذلَّل فبالأولى يستطيع الإنسان بالنعمة أن يُدرِّب نفسه ويُقمِع شهواته ويضبط غرائزه، بل يستأسرها لعمل الخير والفضيلة والبذل والحبّ، ويستعمل جسده كآلات بر وصلاح.
على أنّنا نرى هذه الوحوش الكاسرة قد أُخضعت بالتدريب المتواصل والمستمرّ وبدون هوادة أو مهادنة.. وإلاّ إذا ما غُفِل عن تدريبها عادت إلى طبعها الأول. فالحال إذن أنّ الطباع التي للوحوش لم تمُتْ ولكنها تدرّبت لتكون على شكل أفضل، وقد اختفى منها ما هو وحشي ومخيف.
قال أحد الآباء في هذا المجال -وهو يحيا حياة النسك الكثير والصوم المتواصل- : «نحن غير قاتلين أجسادنا بل قاتلون شهواتنا». فالأمر إذن يكمن في المواظبة بدون اهمال لتدريب النفس وتهذيبها لتخضع للروح، وتتعلّم الخضوع والطاعة فيما تتدرّب عليه. وأي غفلة أو اهمال في التدريب سرعان ما تُظهِر قُبح الطبائع القديمة، حتى لو كانت قد أُخضِعَت لسنين. «الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ» (غل5: 7).
+ الإنسان الطبيعي بدون المسيح خاضع عنوة لناموس الجسد ومستعبد، حتى إذا أراد أن يفعل الخير يجد الشرّ ماثلاً أمامه، ويجد نفسه مغلوبًا على أمره ويقول: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟» (رو7: 24).
أمّا في المسيح، فقد خُلِقَ فينا ناموس روح الحياة في المسيح، وصار فينا روح الله يرشدنا ويهدينا إلى جميع الحق «وهُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 13). هذا الناموس الإلهي يُثمر فينا ثمر الحياة الأبدية. فعمل النعمة يغلب كلّ عوار الطبيعة، ويداوي جراحاتها، ويجعل الإنسان يحيا حياة القيامة والنصرة والشكر للذي أعطانا الغلبة.
+ أمّا من جهة التدريب، فهو يلذّ لأولاد الله أن يُميتوا أعضائهم التي على الأرض ويقولوا مع الرسول: «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27) وأُدرب نفسي كلّ يوم لكي يكون لي ضمير صالح. وقد أتقن الآباء القديسون في كلّ عصور الكنيسة فنون التأديب، عندما كبرت أرواحهم المؤازَرة بنعمة الروح القدس، وسيطرت على الحياة برمّتها في الكلام والصمت معًا، والتصرُّف والسلوك في المعاملات مع الناس، في أعمال المحبّة والاتضاع، وكلّ الفضائل المسيحية.
وبالصلاة المستديمة، وتهذيب النفس بالصوم، وأعمال التوبة في الحزن على الخطايا وتبكيت النفس حتى على الهفوات، والتدريب على ضبط النفس وضبط العين واللسان وجميع الحواس.
وكان إذ اتقنوا التدريب، وواظبوا على السهر على خلاص النفس، أنْ تحلّتْ حياتهم بأجمل الفضائل، وظهروا كأنّهم أناس سماويّون، أو كأنّ طبيعتهم مختلفة وأخلاقهم وسلوكهم ليس من هذا العالم. والواقع أنّهم كانوا كسائر البشر ولكنهم اختلفوا جدًّا عندما أَخضعوا إنسانهم الخارجي لأرواحهم، فصاروا بالتداريب وعمل النعمة فعلاً مختلفين.
والحياة الروحية ليست قَصرًا على مَن سكنوا الجبال والبراري. ولا التداريب الروحية صارت وقفًا على النُسّاك، بل هي حياة المسيحي أينما وُجد، وفي أي ظروف يعيش. وكلّ واحدٍ على قدر طاقته.
وفي النهاية إذ يكون الإنسان قد تدرّب «أَنْ يكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا فِيهِ.. يعْرِفُ أَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ، فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّب أَنْ يشْبَعَ وَأَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ وَأَنْ ينْقُصَ» (في4: 11، 12)، يقدر بالنعمة أن يصرخ بصوت الغلبة: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).
أحتمي فيك واستتر بسترك.. اِجعل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيت إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين.
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 341

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل