كلمات روحيّة للحياة

01 أكتوبر 2021
Large image

شفاعة السيدة العذراء والقديسين
سألني أحدهم كيف نطلب شفاعة العذراء من أجل غفران الخطايا؟ إنّ الغفران فقط بدم يسوع لأنّ دم يسوع يُطهِّر من كلّ خطيّة، وأنّه ليس لنا شفيع عند الآب إلاّ يسوع الذي هو كفَّارة لخطايانا، وليس خطايانا فقط بل خطايا كلّ العالم. وأنّه ليس بأحد غيره الخلاص.
قلت لصديقي هذا.. كلّ ما تقوله حقّ.. ولكن دعني أراجع معك واقعة مشوّقة جدًّا، دوَّنها الوحي الإلهي في أيام داود النبي الملك في الأصحاح 14 في سفر صموئيل الثاني. وما حدث عندما قتل أبشالوم ابن داود أمنون أخاه انتقامًا لِمَا فَعَلَه مع أخته من قباحة. وبعدما قتل أبشالوم أمنون هرب من وجه داود وهرب من الناموس الذي كان يحكُم بأنّ القاتل يُقتل. وظلّ أبشالوم هاربًا إلى أن جاء يوآب بامرأة حكيمة من تقوع، ولبست ثياب الترمُّل وجاءت إلى الملك داود كَمَن لها شكوى وهي تصرخ من الظلم وتتوجّع وتقول: "أَعِنْ أَيُّهَا الْمَلِكُ". فلما استفسر داود منها حكت له وضعًا مؤلمًا.. إذ أنّها أرملة، مات زوجها ولها ولدان، تشاجرا في الحقل وقام أحدهما وقتل الآخر. وها كلّ العشيرة حولها تطلب أن تنفِّذ الناموس وهو قتل القاتل. فقالت المرأة.. إنّها والحال كذلك ستعدِم كلا الاثنين. فهي أرملة مسكينة وما الفائدة من تنفيذ الناموس في هذه الحالة.. إنّها تريد رحمة.
فقال لها الملك: اذهبي وأنا سأدرس الأمر. فقالت: لا. وتوسّلت إليه. فقال: سأوصي بكِ. فأصرَّت وصارت تستعطف. إلى أن قال لها الملك، وهو صاحب الأمر، لن يموت ابنك.
فقد جعلت المرأة القضيّة بين يديّ الملك، وبالتوسُّل والاستعطاف استخلصت للقاتل حكم براءة، وكلمة من فم الملك أنّ الولد لن يموت.
قلت لصديقى هذا.. ما رأيك؟! نعم الناموس حقّ وأحكامه حقّ وواجبة النفاذ. ولكن ما رأيك في واضع الناموس وهو صاحب الحقّ كلّ الحقّ في كلّ أحكامه. فإنْ كانت هذه المرأة استطاعتْ بالتوسُّل والاستعطاف أن تصنع هذه الشفاعة، فكم بالحري أمّنا العذراء..؟!
هي تقف أمام الملك الديَّان لتشفع في الخطاة، وتستعطِف قلبه نحو بنيها.. هي أمّ القاضي والملك الديَّان.. وهي أمّ الخاطئ المُدان.
وبكلّ تأكيد كثيرة هي شفاعتها، قويّة ومقبولة لدى مخلّصنا.. هي تقف كأمّ حنون، قلبها نحو كلّ ضعيف. وهل تؤثِّر خطايا الأولاد وإخفاقاتهم على عاطفة الأمومة؟! وهل يُعقَل أنّ الأمّ تبغض أبناءها بسبب جحودهم أو أخطائهم؟ وهل تنسى الأمّ رضيعها؟!
إنّ طبيعة الأمّ الجسديّة وحبّها وعاطفتها في صميم الخليقة شيء مهول، لا يمكن التعبير عنه. فكم بالحري التي صارت أم المسيح، أم الرحمة المتجسّدة. مَن يقدر أن يصف عاطفتها وحبّها نحو أولادها الخطاة أو المرضى أو المتغرّبين عن المسيح؟!
شفاعة القديسين:
أمّا مِن جِهة أنّ القدّيسين يشفعون ويقفون أمام الله من أجل الشعب، فهذا أمر يخصّنا بالدرجة الأولى إذ نشعر أنّنا فِعلاً في حاجة شديدة لمِثل هذا الأمر. ألَم يقِف إبراهيم أمام الله يطلُب من أجل أشرّ الناس في جيله. وقال وقفتُ أمام المَولَى وأنا تراب. واستعطَفَ الربّ من أجل سدوم.. وهل يوجد أعظم من هذا؟! بل وزاد على ذلك أنّه تجرّأ بحسب الدالة التي له مع القدير، إذ دُعِيَ خليل الله، أنْ يطلُب أن يرحم الرب سدوم بسبب وجود قديسين وأبرار بها. فقال: لا تُهلِك البارّ مع الأثيم. وكان إبراهيم يفتكِر بحسب قلبه الطيّب أنّه لا يمكن أن تخلو مدينة بأكملها مثل سدوم، على الأقل، من خمسين بارًا. ولكن كشفَ له القدير أنّه لو وُجد خمسون بارًا لا يُهلِك المدينة. وظلّ إبراهيم يستعطِف ويطلب، ويتواضع أمام الله، إلى آخِر مَرّة، حتّى قال إبراهيم: اسمعني هذه المرّة فقط، ألا يوجد عشرة أبرار؟ وإذ كان الجواب مِن الله بالنفي، صَمَتَ إبراهيم عن شفاعته في سدُوم. ونالَت ما نالَت من عقاب استوجبته خطايا الشذوذ والنجاسات.
ولذلك نقول إنّ حاجَتنا إلى شفاعة القدّيسين شديدة ومُلِحّة للغاية. فقد استخلص أبو الآباء بفعلِهِ هذا أنّ وجود الأبرار في مدينةٍ، يُنقذها من مُكابدة العقاب والغضب. وهكذا يكون في البيت والمدرسة والمصنع والجامعة والكنيسة والمدينة والقرية. إن خَلَتْ من الأبرار أدركها الفناء.
+ وهذا هو موسى الذي حمَل شعبه على عنقه، بحُلمِه وصبرِه وطول أناته، التي وصفها الكتاب، أنّ الرّجل موسى كان حليمًا جدًّا أكثر من جميع الرجال الذين على وجه الأرض. لما اشتدّ غضب الرب على الشعب العاصي الجاحد للنعمة، والراجع بقلبه إلى مصر مُرتّدًّا عن الذي فداه. وقف موسى أمام الله من أجل هذا الشعب الصلب الرقبة، وقال الرب لموسى: دَعني أفنيهم وأجعلك لأمّةٍ أعظم. فتشفّع موسى في الشعب، وحَجَبَ الغضب الإلهي. وبما له من دالّة تَكَلّم مع الله. قال للربّ: إنْ تفعل هذا امحُ اسمي مِن كتابك الذي كتبتَ. وأرجَعَ الربّ عن حموّ غضبِهِ.
ما أحوجنا نحن الخُطاة إلى مَن يقف لأجلنا أمام الله.
+ قال الرب لإرميا النبي: لا تطلُب من أجل هذا الشعب. ولا ترفع صلاة لأجلهم. وقال «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هذَا الشَّعْبِ». أرأيت هذا الاقتدار لطلبات الأبرار. ألم يقُل يعقوب الرسول إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فِعلِها.
+ إنّنا لا ننسى أنّ الآية الأولى التي صنعها ربنا يسوع في عُرس قانا الجليل كانت بتوسّلات وشفاعة أمّنا العذراء القديسة. فهي كما يبدو من المكتوب أنّها رأَت أهل العرس وقد صاروا في ورطة بسبب نفاذ الخمر، ربما لكثرة المدعوّين أو رِقّة حالهم كفقراء، وقد يتعكّر صفو الجميع وينقلب الفرح إلى غمّ، ويُلام منهم من يُلام، ويقع في الإحراج ذات العريس وعائلته.. وقد يترتّب على ذلك ما لا تُحمَد عُقباه. رأت الأم كلّ ذلك، وبروحها النقيّة أدركَتْ الأمر قبل أن يدركه أحد، وبحنانها الفائق تقدّمت دون أن يسألها أحد، إذ هي الأم للعريس الحقيقي مَصدَر الفرح. ذهبَت إليه وقالت: ليس لهم خمر. ثلاث كلمات لا غير.. فهي في الإنجيل كلّه صاحبة الكلمات القليلة، ولكنّها صاحبة الدالّة التي تفوق دالّة الملائكة والأنبياء ورؤساء الآباء. طرحت طلبتها وسؤالها من أجل الذين ليس لهم، أمام ابنها الذي له الكلّ في الكلّ. ابنها افتقر وهو الغني بل هو الغِنَى ذاته. ولا أحد يعرِف سرّ إخلائه إلاّ هي. لذلك اتّجهت إليه ليخلّص الذين كانوا في ورطة العوَز والفقر. فهي كانت ومازالت تشفع في المُعوَزين والمعدومين. فإنْ قالت ليس لهم خمر، فهي قائمة دائمًا مازالت تطلُب إليه من جهة كلّ من ليس لهم. فها أناس مِنّا ليس لهم حبّ، بل افتقروا جدًّا في الجحود والعداء. وآخرون ليس لهم فرح بل لهم النَكَد والحزن. وآخرون ليس لهم قداسة بل طُرِحوا أسرى الخطايا. وافتقروا جدًا. وغيرهم ليس لهم اتضاع بل عدِموه بحياة الاعتداد بالذّات وفقر الكبرياء. وغيرهم ليس لهم سلام. وما أكثر مَن أعوزهم مجد الرب.
وها هي واقفة أمام ابنها، تَطلُب فتُجاب، وتسأل ولا يَرُد طلبتها. ورغم أنّ استعلان صليبه لم يكن قد حان بعد بحسب كلامه لها، إلاّ أنّه صنع الآية وأظهر مجده. ويا للعجب.. قد كان من الممكن أن يعطيهم ما يكفي، وما نقُص عنهم. ولكن قال: املأوا الأجران.. فملأوها إلى ما فوق.. إلى أقصى اتساعها بدون نقص، 36 صفيحة ماء.. ما هذا الفيض؟!
ألا نَذكُر ما قاله فيلبس من جهة الخمسة الآلاف إنّه لا يكفيهم بمئتيّ دينار خبز لكي يأخذ كلّ واحد منهم شيئًا يسيرًا. غِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى يتعارض تمامًا مع الشُّحّ والقِلّة، فهو حين يُعطي بسخائه الإلهي.. «فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً» (لو9: 17). لذلك فاض سخاؤه الإلهيّ للارتواء والشبع وسدّ الإعواز للغنى والفيض. وبالطبع الأمر الجوهري لا يخصّ الخيرات الزمنية ولكن غِنى المسيح أبديّ يخُصّ بالدرجة الأولى الحياة الأبدية.
+ ألم يُصلِّ أيوب لأجل أصحابه لكي يرفع الربّ عنهم غضبه. لأنّ الرب قال: «قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ» (أي42: 7). فهم إن كانوا يظنون أنهم يدافعون عن الله وأحكامه وعدله، لكنّهم لم ينالوا الرضى لأنّ حياتهم لم تكن على مستوى التقوى والعشرة الحقيقيّة، بل كلام في كلام. فأمرهم أن يأخذوا «سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَاذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ".
هذه هي معاملات الله نحو قدّيسيه.. ومختاريه في كلّ الأجيال. لقد بدا أنّ أيّوب يجترئ في الكلام، وظنّوه يتجاوز الحدود في الحديث. ولكنّ تَقواه وصِلته العميقة مع الله كانت تشفع له، فلم يحسِب الرب عليه ما تفوّه به، بل عاتبه وكشف له المستُورات، ورَدّه إلى اتضاعه. وقال للرب: «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أي42: 5، 6).
هذه الدالة التي للقدّيسين قد ظهرت بأجلى بيان في نهاية سفر أيّوب. ولولا صلاة أيّوب من أجل أصحابه لنزل بهم غضب الله. فِعلاً طلبة البار تقتدر كثيرًا في فِعلها.
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 351

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل