شخصيات الكتاب المقدس حبقوق

07 أكتوبر 2021
Large image

حبقوق
والبار بإيمانه يحيا "" حب 2: 4 "
مقدمة
كان دانيال وبستر، يتحدث فى أحد الأيام إلى عدد من الفنانين المشهورين حول بعض المناظر والرسوم المسرحية، قال لهم: إنه يدهشنى أن واحداً من الفنانين لم يحاول أن يرسم منظراً لقطعة لا نظير لها فى أجمل قطع الآداب الإنسانية، فسألوه: وما هى؟ فأجاب: صورة حبقوق النبى وهو جالس فى وسط الخراب يغنى رغم كل شئ أغنية الإيمان المبتهج الفرح.ومن الواضح أن حبقوق ارتفع إلى ذروة الإيمان، بعد المناقشة المحاجية والمجادلة والصلاة، والوقوف على المرصد، والانتصاب على الحصن،.. أو فى عبارة أخرى أن إيمانه لم يكن اعتباطاً، أو اندفاعاً بدون تأمل أو عقل، بل كان على العكس بعد التفكير العميق والتأمل النفاذ، فهو إيمان فيلسوف طرح القضية بعمق ليخرج بالنتيجة الرائعة، أن الإيمان ليس مضاداً للعقل أو رافضاً لنشاطه وقوته، بل هو الإيمان الذى يأخذ العقل معه، ويحلق به فى جو الحياة، وسماء الوجود، مرتفعاً على أجنحة الإيمان،... وهو الذى علم فى عبارة من أعظم عبارات الكتاب المقدس، كيف يمكن للإنسان أن يعيش أسمى حياة، وأروع حياة وأعظم حياة، وذلك بالإيمان وحده،... فالبار بإيمانه يحيا، من هو هذا الرجل الفيلسوف، والذى رفض أن يحكمه العقل وحده أو يتحكم فيه، فسار حاملاً عقله فى درب الإيمان العظيم!.. إن هذا ما نريد أن نضعه أمامنا،... نحن ندرس هذا الرجل بين الشخصيات المختلفة المتعددة فى الكتاب المقدس، ولعلنا نراه بعد ذلك فيما يلى:
حبقوق ومن هو!!؟
لا نكاد نعرف عن حبقوق شيئاً خارج السفر الذى يحمل اسمه، كما لا نعلم - على وجه التحقيق - هل اسمه اسم علم غير مشتق أم مجرد كناية ورمز؟، يقول البعض إن اسمه مأخوذ من أصل أشورى: « حمبقاقى » وهى فصيلة من نبات الحدائق، ويعتقد آخرون أنه من « حبق » العبرية التى تعنى « يشبك اليدين » أو « يحتضن » وكاسم علم إما تدل على إنسان يحتضن آخر أو يحتضنه آخر، وقبل لوثر المعنى الأول فقال: « إن حبقوق يعنى المحتضن، أو الإنسان الذى يحتضن آخر، أو يضمه بين ذراعيه.. وقد سار فى تفسيره على هذا القياس فقال: « إن حبقوق يحتضن شعبه ويضمه بين ذراعيه... فهو يعزيهم وينهضهم كإنسان يحتضن شخصاً أو طفلا باكياً مؤكداً له أن الأمور، بإذن اللّه، ستصير إلى أحسن.. » أما عن مولده وتاريخه، فلا نكاد نعلم شيئاً، ظن البعض نسبة إلى ما جاء فى ختام الأصحاح لرئيس المغنين على آلاتى ذوات الأوتار،... أن عمله كان فى فرق المغنين فى الهيكل، وبذا يكون من سبط لاوى، وإذا فمثله مثل إرميا وحزقيال اللذين وصلا إلى مصاف الأنبياء من بين اللاويين، وقد وجد فى قصة قديمة فى إحدى المخطوطات تأييد لذلك، بينما ظن آخرون أنه من سبط يهوذا، وقال غيرهم إن هناك تقليداً يرجع بنسبه إلى سبط شمعون، وأنه ولد فى بيت زوخار، وهى قرية صغيرة شمال لدة، وأنه حين أتى نبوخذ نصر إلى أورشليم ترك بلاده إلى استراقين غرب العريش بستة وعشرين ميلاً، وأنه رجع إلى بلاده بعد السبى بعامين، وأنه دفن قرب جبعة،، وعرف قبره فى زمن يوسابيوس وجيروم، ولا يفوتنا أن نذكر أن هناك تقليداً غريباً ينسب إلى بعض الربيين أنه ابن المرأة الشونمية الذى أعطى لها بمعجزة وأقامه أليشع.. ولكن الحقائق الثابتة المعروفة ضد ذلك تماماً،... وقد كان حبقوق كاتباً أخاذ الأسلوب رائع التعبير، وقد قال عنه أحدهم: أنه يشابه إشعياء فى سموه، وإرميا فى عواطفه، وداود فى طاعته، وبولس فى ثقته، كما أن وصفه لعظمة اللّه فى الأصحاح الثالث من سفره ربما لا يوجد له مثيل فى الكتاب المقدس!! وأغلب الظن أنه كتب نبوته عام 603 ق. م. بعد قيام الكلدانيين بغزواتهم الواسعة وهزيمتهم لآشور عام 612 ق.م. ولفرعون نخو ملك مصر عام 605 ق.م. فى موقعة كركميش المشهورة!!..
حبقوق المشتكى
وصف أحد الشراح حبقوق بالقول: « إنه المفكر الفيلسوف الذى يعد من أعظم أحرار الفكر فى التاريخ، ذو الحزم والسريرة الصافية الذى يملك قوة وابتداعاً خارقين، وهو العطوف بين الأنبياء وواعظ البشائر الإلهية!!.. ووصفه آخر أنه توما العهد القديم، إذ أنه الرجل الذى لا يؤمن قبل أن يضع كل شئ فى موضع البحث والنقاش والدراسة والاختبار... وهو أكثر الأنبياء استعمالا لعقله ومنطقة فى المحاججة والمناقشة مع اللّه،... وهذا واضح من مطلع سفره. « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص. لم ترينى إثماً وتبصر جوراً. وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟! لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً »... "حب 1: 2 - 4 ".لقد طرح حبقوق سؤالا ما يزال يطرحه إلى اليوم ملايين الناس من أبناء اللّه، وهم يصرخون إلى اللّه ليلا ونهاراً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع؟ أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟ »... كانت المشكلة أمام حبقوق، ذلك الفساد الذى استشرى فى داخل البلاد، والذى حاول بعض ملوك يهوذا، عبثاً، مقاومته، وكان آخرهم الملك الرقيق القلب يوشيا الذى مات فى معركة مجدو، والذى تنبأ حبقوق فى أيامه،... والسؤال مع ما فيه من شجاعة خارقة تبلغ بها الجرأة إلى حد أن تقول للّه: « لا تسمع » و« لا تخلص »... إلا أنه سيبقى سؤال العقل المشتكى أمام اللّه مما يحس به المؤمنون من الواقع الأليم،... واللّه لم يغضب من هذا السؤال، ولا يمكن أن يغضب من أى سؤال يمليه العقل المخلص لواحد من أبنائه!!.. كان السؤال فى الواقع هو الصراع الذهنى بين الواقع الذى يعيشه المؤمن فى العالم، وبين الانتظار للّه فى حل المشاكل والمتاعب!!.. ماذا حدث أمام حبقوق، وفى عصره؟؟ كانت هناك فى البلاد أغلبية شريرة فاسدة، تفعل كل ما يفعله الأشرار الفاسدون الفاسقون، وقد أحاطت هذه الأغلبية بالأقلية التقية، وسحقتها تحت أقدام الظلم والاغتصاب والتعسف، فشت الرشوة، حتى أصبح الالتجاء إلى القضاء عبثاً، إذ عوجت الأحكام برشوة القضاء،.. وعندما يفسد القضاء فى أمة، فقل على الأمة السلام، لأن القضاء هو الملاذ الأخير للبؤساء والمتضايقين والمنكوبين والمعتدى عليهم،.. ومقياس تقدم الأمم أو تأخرها يقاس فى العادة بمقياس نزاهة القضاة أو فسادهم.. وقد رأى حبقوق كيف جمدت الشريعة بأحكام القضاة الفاسدين المرتشين!!.صلى حبقوق اللّه وصرخ وهو يتألم لآلام التعساء المنكوبين، دون أن يجد نتيجة ظاهرة، فوضع السؤال الذى يتكرر فى كل الأجيال والعصور: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع. أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص »؟؟.. نحن لا ننكر أن هذا السؤال من أهم الأسئلة التى يطرحها العقل البشرى!! لماذا لا يسمع اللّه؟ أو بتعبير أدق: لماذا يبدو كما لو أن اللّه لا يخلص شعبه من الظلم الصارخ البين الملحوظ من الجميع؟
من الواضح أن حبقوق، وهو يشتكى لم يظهر فى شكواه أن اللّه لا يسمع أو لا يخلص، لأن الأقلية التى يشتكى باسمها، ارتكبت شراً أو خطأ،.. ومرات كثيرة ما لا يسمع اللّه، أو لا يخلص، لأن المصلى أو الصارخ لم يتخلص بعد من شره أو خطيته وهكذا يأخذ الجزاء نتيجة خطية معينة، أو إثم واضح لديه،.. لقد أخطأ شمشون فقلعت عيناه، وأخطأ داود فأخذت ثمرة الخطية من الأرض، رغم أنه صلى لبقاء الولد،... وصاح إرميا فى مراثيه: « لماذا يشتكى الإنسان الحى الرجل من قصاص خطاياه؟ لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب. لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى اللّه فى السموات. نحن أذنبنا وعصينا. أنت لم تغفر إلتحقت بالغضب وطردتنا. قتلت ولم تشفق. إلتحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلاة ».. " مراثى 3: 39 - 42 " لكن شكوى حبقوق لا يبدو فيها أن هناك خطية معينة عند الأقلية التقية، واللّه يريدهم أن يتحرروا منها قبل أن يمد لهم يد المعونة والمساعدة!!.وكانت الأيام التى عاشها حبقوق أشبه بأيامنا هذه التى يحيط فيها الفزع بالكثيرين من أبناء اللّه محلياً أو فى العالم كله، عندما يحاول الشرير أن يسحق المؤمن، ويرفع المؤمن صلاته إلى اللّه،... ولكن اللّه يأتى إليه فى الهزيع الرابع،... ولعل حزقيا وهو يدعو إشعياء للصلاة قائلا: « لأن الأجنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة » " إش 37: 3 " كان فى خياله أو فى تفكيره، وهو يتعجب: لماذا يترك اللّه أبناءه حتى يصبح الواحد منهم كالمرأة الماخض التى تتلوى من الألم قبل أن تأتيها نجدة السماء ومعونتها!!.. إن هذه السياسة الإلهية مرات كثيرة ما تكون ضرورية لإنسان سريع النسيان يلزمه أن يصل إلى الاختبار: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب »... " يونان 2: 7 " وهى التى تعلن مجد اللّه الواضح الكامل العظيم!!... قال أحدهم: جاءتنى برقية أن أختى التى تقيم على بعد 500 ميل ستجرى لها عملية جراحية خطيرة، وأن الأمل فى نجاح العملية واحد فى المائة، وصليت من أجلها ثلاث ساعات متوالية، وقمت وكلى يقين أنها ستحيا، وفى اليوم التالى دعيت إلى محادثة تليفونية،... وقال العامل: إنها إخطار بوفاة... ورفضت أن أصدق،... على أنها كانوا يطلبون منى أن أحضر فى القطار التالى فقد تحسنت الحالة، وأختى تطلب أن ترانى.... وكتبت أمى إلى كتاباً تقول: إنه فى الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم الذى صليت فيه فتحت أختى عينيها وقالت: أماه لقد صلى أخى من أجلى، واللّه أخبره أنى سأشفى!!..فى الحقيقة كثيراً ما تكون تأجيلات اللّه لإظهار مجده الأعظم!!... عندما سمع المسيح خبر مرض لعازر، لم يذهب بسرعة، وفعل عكس ما كان ينتظر، إذ بقى فى مكانه يومين، لا لأنه لا يسمع أو لا يجيب، بل لأنه يرغب أن يكون مجد اللّه أعلى وأعظم وأجل!!.على أية حال... عندما رفع حبقوق شكواه إلى اللّه بهذه الصورة، تركه لينفس عن نفسه وعن المظلومين والأبرار معه واللّه على استعداد أن يستمع إلى النفس المريرة التى تأتى إليه لتسكب عصارة أحزانها وسر شكواها وأنه سيقبل من يجاهد معه ويصارعه، ولو استعمل ألفاظاً جريئة كموسى عندما قال: « ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب، لماذا أرسلتنى فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص »... " خر 5: 22 و23 " أو كإيليا عندما صرخ إلى الرب وقال: « أيها الرب إلهى أ أيضاً إلى الأرملة التى أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها » " امل 17: 20 "... إنه يعرف أن هذه الألفاظ لا تخرج إلا من قلوب معاتبة عامرة باليقين والاتكال عليه!! إطرح كل شكواك أمام الرب وتحدث بمخاوفك وآلامك وعبر عنها كما تشاء نفسك الإنسانية، مادمت قد اختبرت اليقين المبارك أنك بن اللّه!!..
حبقوق الحائر
أجاب اللّه على شكوى حبقوق، فبين له أنه يجهز عقاباً رهيباً للاشرار والأثمة، وأن هذا العقاب لن يكون بعد زمن طويل، بل أنه قريب، وفى أيامهم، وهو رهيب إلى درجة لا تكاد تصدق، إذ أنه سيقيم « الكلدانيين، الأمة المرة القاحمة السالكة فى رحاب الأرض، والتى ستدمر الممالك، وتستولى على المساكن، وهى تندفع بصورة هائلة ومخيفة: « وخيلها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل. يأتون كلهم للظلم. منظر وجوههم إلى قدام ويجمعون سبباً كالرمل. وهى تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لها، وتضحك على كل حصن وتكوم التراب وتأخذه »،. "حب 1: 6 - 10 ".وإذا يسمع حبقوق هذا يرتعب ويصعق،... إنه كان ينتظر عقاباً وتأديباً، ولكنه لم يخطر بباله أن يتحول العقاب تدميراً رهيباً على هذه الصورة،.. ومما ضاعف الرعب عنده، أن الكلدانيين لن يتصوروا، (وقد نجحوا هذا النجاح وجمعوا المسبيين كما يصطاد السمك بالشص والشبكة) أن هذا من فضل اللّه عليها بل أنها ستراه من فضل آلهتها الوثنية التى تتعبد لها، الأمر الذى جسمه نبوخذ نصر فى تمثاله العظيم، وطلب إلى كل الشعوب أن تنحنى أمام هذا التمثال، إقراراً بفضل آلهته عليه فى انتصاراته وغزاوته الواسعة العظيمة!!.. وقارن حبقوق بين الشر الذى يرغب فى دفعه، والشر الذى سيسمح به اللّه على شعبه، فوجد أن الشر الحاضر أهون بما لا يقاس من الشر الآتى، وفزع، إذ كيف يعالج اللّه شراً بشر أقسى وأرهب وأشد!! وكيف يحدث هذا واللّه القدوس موجود، وهتا تغير سؤال حبقوق، فهو لم يعد يسأل سؤاله الأول عن اللّه، الذى تصور أنه لا يسمع ولا يخلص من الشر، بل وجد سؤالا أهم وهو يقول للّه: « عيناك أطهر من أن تنظر الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع، الشرير من هو أبر منه » " حب 1: 13 ". لئن كانت الأغلبية حوله شريرة، إلا أنها فى قياس الشر هى أبر من الأمة الغازية،... فكيف يسمح اللّه، أن يبتلع شعبه مهما يكن فعلهم من الوثنية الطاغية التى لا تعرف اللّه، والتى تأثم وآخر الأمر تحمد آلهتها وتبخر لها؟!!..
حبقوق المنتظر
ألقى النبى سؤاله وصعد على المرصد ووقف، وعلى الحصن انتصب ليرى ماذا يقول له الرب، وماذا يمكنه هو أن يجيب على ما يقوله اللّه،.. وطبعا ليس من الضرورى أن يكون هناك مرصدا أو حصن مادى، ولكن المقصود هو ارتفاع النفس، والتطلع برجاء وانتظار وثقه نحو الرب، لتسمع كلمته وتناجيه وتحاجه.. وهنا يمكن أن نستمع إلى كلمات « ألكسندر هوايت » وهو يقول: « أصعد كل يوم إلى حصن حبقوق العالى وخذ معك صلاته ورجاءه: « ألست أنت منذ الأزل يارب إلهى قدوسى، لا نموت » " حب 1: 12 " وهذا هو الإيمان الذى أمكن أن يعيش به البار فى كل أجيال كنيسة اللّه، فلم يمت إنسان تحت يد العدو متروكاً من قوة اللّه ونعمته!!.. وقد جاء اللّه إلى النبى بالجواب: « فأجابنى الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكى يركض قارئها، لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتى إتياناً ولا تتأخر »!! " حب 2: 2 و3 ". عدد الرب مظالم الكدانيين، فويل، أول الأمر، للكسب الشرير، كسب أولئك الذين يغنمون بالظلم والفساد والإثم. ويبنون بيوتاً عالية يصرخ فيها الحجر والخشب ضد صاحبه، وضد المكسب الحرام الذى سيكون لخزى البيت ودماره وضياعه!!... وويل للقاسى العنيف، رجل الدماء الذى يطغى وهو يسحق تحت أقامه الضعفاء المساكين،... وويل للشهوانى الآثم الذى يسكر الضحية، ويكشف عورتها، ويفرق معها فى الدنس والإثم،... وويل لمن ينحنى للتمثال المنحوت، ويتعبد للوثن، وينسى أن الرب فى هيكل قدسه. ويلزم أن تسكت قدامه كل الأرض، فى روح الولاء والخشوع والتعبد!!..
حبقوق المنتصر
أدرك حبقوق، آخر الأمر، أن الكلدانيين ليسوا إلا عصا استخدمها اللّه ثم كسرها بعد ذلك تكسيراً،... وأدرك حبقوق أن اللّه الذى أخرج شعبه من مصر بقوة وذراع عظيمة، هو الذى يتمشى فى موكب العصور بقوته القادرة، وسلطانه الرهيب،... وسبيل المؤمن على الدوام مركز فى العبارة العظيمة الخالدة: « البار بإيمانه يحيا » أن أن المؤمن سيحيا فى وسط الأخطار والمخاوف والحروب بثقته فى اللّه، ويقينه فى حراسته وخلاصه، هذا هو المعنى الأول والمستفاد من الآية،... على أن المعنى البعيد العميق يشير إلى أن خلاص النفس البشرية من خراب الخطية وشرها يرجع دائماً إلى اليقين باللّه والإيمان به،... وعلى هذا بنى بولس العقيدة العظيمة عن التبرير بالإيمان، وامتلأ لوثر سلاماً واطمئناناً وهو يضع دعائم إصلاحه المجيد.كان الأصحاح الثالث من سفر حبقوق أغنية رائعة منتصرة خرج بها حبقوق من وسط الخراب والدمار بالفرح والترنم وختمها بالكلمات التى قال « أسبرجن » عنها إنها ينبغى أن تكتب بماء الدهب: « فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل فى الكروم، يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعاما، ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر فى المذاود، فإنى أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصى، الرب السيد قوتى ويجعل قدمى كالأيائل ويمشنى على مرتفعاتى »! "حب 3: 17- 19" هل يستطيع الإنسان أن يمسك قيثارته ويغنى، فى مثل الظروف التى يتحدث عنها حبقوق؟؟ هل يمكنه الغناء فى أرض الحاجة والمجاعة والتعب، يذهب إلى التينة فلا يجد حتى الزهور، وينتقل إلى الكرمة فلا يجد عنا قيد العنب، ويتحول إلى الزيتونة فيجدها وقد امتنعت عن الإثمار،.. يترك هذه إلى الحقول، فلا يجد حنطة أو طعاماً... يذهب إلى الحظيرة فلا يجد غنماً، وإلى المذاود فلا بقر هناك!!.. كان من المنتظر أن يبكى ويتذكر وينتحب،... ولكنه رغم كل هذا يغنى!!.. ما سر حبقوق؟؟،.. وما سر كل مؤمن مثيله ونظير للّه؟؟!!.. إن السر يرجع فى الحقيقة؟ إلى أن الخراب مهما حدث، ومهما أخذ، لا يمكن أن يأخذ منه ثروته وقوته الحقيقية التى هى شخص اللّه،... ترك بولس أرضه وبيت أبيه، ترك امتيازاته، وظروفه الحسنة، وسار فى أرض الخراب لا يملك شيئاً، ولكنه مع ذلك قال: « لكن ما كان لى ربحاً لهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إنى أحسب كل شئ أيضاً خسارة من من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى الذى من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكى أربح المسيح »... " فى 3: 7 و8 " ولم يكن بولس وحده فى هذا، بل ما أكثر القديسين والأبطال الذين غنوا فى أرض الخراب،... فقد « يوحنا بنيان » أمنه وهدوءه وقضى فى السجن اثنى عشر عاماً، وهناك كتب كتابه العظيم " سياحة المسيحى "... عاشت فرانسس هفرجال « حياتها » الصحية العليلة، ولكنها ارتقت فوق علتها، وغنت أعظم الأغانى والترانيم!!.. إن الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن وجود اللّه فى أرض الخراب، يحولها إلى جنة وارفة مكتملة الجمال والجلال والبهجة!!..على أن حبقوق كان يؤمن - إلى جانب هذا - بخلاص اللّه فى أرض الخراب، إذ أن معونة اللّه هناك أقوى وأظهر وألمع،... ألم يدخل يوسف السجن، ورأت نفسه أقسى ضروب الآلام والتعاسات؟ ولكن اللّه دخل معه هناك ليخرجه إلى الحرية والسيادة والمجد،... ألم يكن موسى ملقى فى السنط على حافة النيل فى أرض الخراب؟ ولكن اللّه مد له فى الحياة على الصورة العجيبة التى وصل إليها!!.. ألم يقف اللّه فى كل العصور والأجيال مع البؤساء والمعوزين والمتألمين، على النحو العجيب الذى جعلهم يتمشون على مرتفعات الحياة فى أقسى الأوقات وأدق الظروف!!.. بعد أن قامت الحرب العالمية بعامين، جاءت أوقات دقيقة على القديسة « لليان تراشر »، وقد انقطعت كل المعونات والمساعدات،... وبلغت الحالة أقصاها فى يوم من الأيام، فجمعت لليان أربعمائه وخمسين من البنات، وظللن يصلين يوماً بأكمله، وفى ثانى يوم دعيت هذه السيدة لمقابلة عاجلة مع السفير الأمريكى فى القاهرة، وقال لها السفير: إن سفينة للصليب الأحمر كانت معدة للذهاب إلى اليونان، وبها أطعمة وملابس، ولكن الأوامر صدرت لها وهى فى عرض البحر الأبيض أن تذهب إلى الإسكندرية، لأن اليونان قد اكتسحتها قوات المحور، وطلب السفير من « تراشر » أن تأخذ كل ما تحتاجه من السفينة المذكورة،... وغنت القديسة وفتياتها أغنية الفرح فى أرض الخراب!!.
لست أظن أن هناك ما يمكن أن نختم به قصة حبقوق، أفضل من ذلك القول الذى قاله أحدهم وهو يسمع عن العذاب الأحمر فى الصين أو فى روسيا أو فى شتى ألوان المتاعب والاضطهادات بين الناس متسائلا: ألا يجوز أن نقول ما قاله حبقوق قديماً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص!!؟.. وكان الجواب: « أكتب الرؤيا وانقشها على الألواح ليركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها تأتى إتياناً ولا تتأخر»..!!..

عدد الزيارات 1352

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل