شخصيات الكتاب المقدس حجى

14 أكتوبر 2021
Large image

حجى
" هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا فى بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب "" حج 1: 4 "
مقدمة
لست أعلم كم بكى حجى كلما وقعت عيناه على منظر بيت اللّه وهو أطلال دارسة!!؟.. ولست أعلم هل كان صغيراً عندما أخذ إلى السبى مع أبويه، وقضى هناك سبعين عاماً، ثم عاد ليرى صورة طوتها الأيام، صورة البيت القديم فى مجده الشامخ وصورته الآن بعد أن تحول أنقاضاً وخراباً!!؟.. إن هناك قلة من المفسرين تتجه إلى ذلك!!.. على أن البعض الآخر يصوره، على العكس، فى شرخ الشباب وقد استوى عوده، وهو يذهب ويجئ إذ ولد فى وطنه وبلده، ليرى كل صباح ومساء بيت اللّه الخرب، والذى وضع أساسه، وعجز الواضعون عن أن يتقدموا إلى البناء، وتراكمت الأحجار هنا وهناك، وعلى مقربة منها قصور مغشاة بناها الراجعون من السبى!!.. وأية مقارنة يمكن أن يتصورها العقل،.. بين إنسان يستريح فى قصره، وبيت اللّه خراب؟!!.. لم يبك حجى فحسب، بل لعله امتلأ غيظاً وسخطاً ومرارة وأسى، كيف يبنى الإنسان بيته الأرضى بكل حماس وهمة وغيرة وبذل، وهو لا يعطى بيت اللّه عشر معشار ما يفعل بمسكنه وبيته وقصره؟!! ولكنها هى مأساة الإنسان فى كل العصور، عندما يوازن بصدق وحق بين ما يفعله من أجل بيته وأسرته وأولاده،... وما يفعله، أو بالحرى، لا يفعله فى بيت اللّه!!.. إنها فاجعة تروى، وعبرة تحكى، ولعل حجى النبى ينتصب أمامنا من وراء العصور القديمة، ليحدثنا كيف يحدث هذا ونحن نتابع روايته وقصته!!..
حجى وأيامه
لعلنا - وقد درسنا فيما سلف بعض شخصيات الأنبياء - أن نلاحظ أن المجموعة الأولى التى كانت أدنى إلى الامبراطورية الأشورية والتى ارتبطت نبوتها بها عن قرب أو بعد هى مجموعة يونان، ويوئيل، وعاموس، وهوشع، وإشعياء، وميخا، وناحوم أما التى ارتبطت بالعصر البابلى فتشمل: حبقوق، وصفنيا، وإرميا، ودانيال، وحزقيال، وعوبديا،.. أما المجموعة الثالثة فهى التى جاءت بعد السبى، وهى مجموعة حجى، وزكريا، وملاخى، ولا يكاد المرؤ يعلم بالتمام كم كان عمر حجى عندما تنبأ إلا أنه وقد تنبأ فى السنة الثانية لداريوس الملك، فمن المعتقد أن نبوته كانت سنة 520 ق. م. ونحن نعلم أن الغرض الأول من عودة المسبيين إلى أورشليم كان بناء الهيكل وإرجاع العبادة كما فى الأيام القديمة الخوالى، ويبدو أن المسبيين بدأوا بذلك، لكنهم أحسوا بعد قليل بضعفهم وعجزهم عن العمل. وإذا تابعنا سفر عزرا فإننا ندرك أنهم لم ينشطوا من اليوم الأول فى بناء بيت اللّه، كما كان منتظراً، بل ظلوا سبعة شهور دون أن يفعلوا شيئاً تقريباً، ثم رأوا أنه إذا لم يكن بد من البدء، فمن واجبهم - على الأقل - أن يقيموا المذبح للعبادة، وقد قاموا فعلا بذلك، ثم شرعوا فى السنة التالية فى وضع حجر الأساس لهيكل اللّه، ولكنهم بعد وضع الحجر توقفوا عن العمل، فى وجه الصعوبات الخارجية، والداخلية معاً،.. أما الصعوبات الخارجية فكانت راجعة إلى وجود الأعداء المتربصين بهم، الحريصين على مقاومة كل جهد فى بناء بيت اللّه،... أما الداخلية، فترجع لإحساسهم بقلة عددهم وعدتهم، إذ هم عدد قليل فقير متعب، ليس لهم من دفاع. إذ أن جيشهم ضعيف لا يقوى على حمايتهم، كما أنهم لا يستطيعون الصعود إلى الجبال لجلب الأرز اللازم للعمل، إذ يكبدهم هذا مشقة فوق طاقتهم، فكان أن توقفوا عن العمل، أو بالحرى، أجلوه إلى وقت آخر. وهذان الأمران على الدوام هما اللذان يعطلان بناء بيوت اللّه وإقامة العبادة فى كل عصر، إذ يحسب المؤمنون أنهم أقلية ضعيفة غير قادرة على مواجهة كافة الصعوبات المرتبطة بالعمل!!..
حجى والحاجة إلى بيت اللّه
ترتبط نبوة حجى ببناء الهيكل ارتباطاً كاملا، ولا حاجة إلى القول بأن الهيكل كان أهم شئ فى حياة شعب اللّه، إذ أنه مركز تجمعهم، والتفافهم حول عقيدتهم وإيمانهم باللّه، وقد كتب توماس كارليل فى كتابة « الأبطال وعبادة البطولة » قائلا: « تعد ديانة الإنسان من كل وجه، الحقيقة الأساسية بالنسبة له، لأى إنسان أو أية أمة من الناس،... إن الشئ الذى يؤمن به الإنسان عملياً،... ويضعه فى قلبه، ويرتبط به فى هذا الوجود السرى، ويرى حياته ومصيره هناك، هذا الشئ بكل تأكيد هو أهم ما يواجهه فى الحياة. ويقرر تبعاً لذلك كل أوضاعه الأخرى... فإذا حدثتنى عنه، فإنك تحدثنى إلى أبعد الحدود، عمن هو هذا الرجل، وأى نوع من الأشياء لابد سيفعل »... ومن ثم نعلم كمسيحيين وكمؤمنين أثر الكنيسة فى حياتنا وحياة أولادنا!!... كتب دكتور ف. أ. اتكنز فى واحد من كتبه الصغيرة، يقول إنه خرج من الكنيسة فى مدينة نيويورك فى يوم أحد، وقد أخذ يتفرس فى وجوه الناس، ورأى كثيرين من الذين يسيرون فى الشوارع ولا رابط لهم بكنيسة ما، ووجوههم صلبة قاسية، وبعضهم يمتلئون بالكآبة والتعاسة البادية على مظهرهم،.. غير أنه اقترب من الكنيسة المشيخية فى الشارع الخامس، وكان المصلون خارجين منها، وإذا وجوههم تلمع بالأمل والرجاء والبهجة والانتصار، وكانت هذه هى الكنيسة التى يعظ فيها فى ذلك الوقت دكتور جويت،... ومع أن الكنائس قد لا تجد وعاظاً مقتدرين مثل هذا الواعظ المشهور، لكن كلمة اللّه نفسها لها القدرة والفاعلية، لترفع الإنسان فوق المعاناة والآلام والضيقات والشدائد!!... كان العائدون من السبى فى أمس الحاجة إلى الهيكل الذى يمكن أن يعطيهم بسمة الرجاء رغم أطلال الخراب التى وجدوها أمامهم!!..
حجى والعقبات أمام بناء بيت اللّه
عاد الرعيل الأول من السبى، وكانت رغبتهم الأولى بناء بيت اللّه، ولعلهم كانوا جذوة ملتهبة من الحماس والرغبة فى أن يروا هذا البيت قائماً فى أسرع وقت، ولكن العقبة تلو العقبة ظهرت أمامهم فى الطريق، إذا بالجذوة تنطفئ، وإذا بهم ينصرفون عن العمل، وتنقضى ستة عشر عاماً بعد وضع حجر الأساس دون أن يحركوا ساكناً،... وانتهوا - كما ذكر حجى - إلى أن الوقت لم يحن لبناء هذا البيت، وربما يكون مفيداً جداً أن نقف من هذه العقبات التى تتكرر كثيراً، وبصورة مشابهة عند إقدام الكثيرين على بناء بيوت اللّه، فى العصور المختلفة من التاريخ!!.. ولعله من اللازم أول الأمر أن نخرج شخص اللّه من أن يكون عقبة فى الأمر، إذ أنه على العكس من ذلك، يرغب كل الرغبة، فى أن ننشغل جميعاً ببناء بيوته، وليس أدل على ذلك من سخطه على خراب البيت، ولعنته التى أصاب بها الناس، وتنبيهه لزربابل والشعب عن طريق النبيين: حجى وزكريا، إن الخراب فى حد ذاته قاس، وهو مناقض لمشاعر اللّه وقلبه، وهو لا يستطيع أن يبصره دون حزن وألم، وعندما خلق عالمنا لم يستطع أن يبقى على الأرض خربة وخالية، ولمسها لمسة الحياة والجمال والقوة والعمران،... فإذا كان الخراب فى ذاته مروعاً أمام اللّه، فإن خراب الخراب، إن صح التعبير، هو خراب بيوت اللّه بالذات،... وإذا كان بعض الذين عادوا من السبى، وفى ذكرياتهم القديمة - وهم شيوخ تجاوزوا السبعين عاماً - صورة بيت اللّه العظيم الذى قوضه نبوخذ نصر وأتى عليه بعد كل المجد الذى كان عليه، والجهد الخارق للعادة الذى بذله سليمان فى بنائه،.. إذا كانت هذه الصورة تحزن وتبكى إنساناً، مهما تكن رقة قلبه، فإنها فى الواقع تدمى قلب اللّه وتملؤه بالضيق والألم والحزن والمرارة،... ويكفى أن تسمع القول الإلهى: « ولماذا يقول رب الجنود. لأجل بيتى الذى هو خراب » " حجى 1: 9 ".. فإذا عن للإنسان أن يسأل بعد ذلك: ولكن إذا كانت هذه هى رغبة اللّه، وهذا قصده،... إذاً لماذا يترك هذا البيت يخرب وينجس؟ ولماذا يسمح بأن تمتد إليه معاول الهدم، على الصورة البشعة المتكررة فى التاريخ؟؟. ولماذا يسمح بأن تقوض كنائس وتخرب أو تغلق أبوابها؟!. إن الجواب الواضح لا يمكن أن نجده بعيداً عن يسوع المسيح، الذى كشف عن أمرين جوهريين أساسيين فى قلب اللّه، أولهما غيرته المطلقة على هذا البيت، الغيرة التى جعلته يضع سوطاً، ويطهر الهيكل، من الباعة، والصيارف، والرؤساء، الذين حولوا البيت إلى مغارة لصوص،... والصورة الثانية هى نبوته عن الهيكل، عندما تفاخر التلاميذ بعظمة بنائه، وأكد لهم أنه سيهدم حتى الأساس دون أن يترك حجر على حجر لا ينقض!!..، وإذا كان المسيح قد واجه خطية العالم بصليبه العظيم، فإنه لا يمكن أن تغلق كنيسة أمام عينيه دون أن يطعن مرة أخرى فى جنبه بحربة الصليب!!..
على أن المأساة تبلغ أقصاها فى الموازنة بين بيت اللّه، وبيوت الناس بين الجهد الذى يبذل فى بيت اللّه، والجهد الذى يبذل فى بيوت الناس،... والفاجعة الكبرى أن الناس على قدر ما يبذلون فى بناء بيوتهم ويزينونها بسخاء حتى تبدو تحفا رائعة،.. وعلى قدر ما يفخرون بذلك ويتباهون، فالأمر على العكس تماماً فى بيت اللّه، إذ تقبض اليد وتجد مالا يحصى ويعد من أسباب الاعتذار من المساعدة أو المساندة أو المساهمة،... إن أى بيت عادة، يكشف مظهره ومبناه عن صاحبه وساكنه، فالفقير لا يمكن أن يملك قصراً، والغنى يرفض أن يسكن فى كوخ، وأنت لست فى حاجة إلى حساب دقيق حتى تعرف ساكن البيت من مجرد نظرة إلى بيته،... وقد وضع الناس فى أيام حجى، وإلى اليوم مايزالون يضعون اللّه ونفوسهم فى الوضع العجيب الغريب،... لقد مر الشاب ذات يوم بكنيسة من الكنائس فى مدينة من المدن المصرية، وكانت أقرب إلى عشة من عشش الفراخ، وتعجب الشاب أبلغ العجب، إذ أن بعض أعضاء هذه الكنيسة كانوا من أغنياء البلاد، وكانوا يملكون القصور الشامخة، فى المدينة نفسها، وفى غيرها من المدن،... وعجب الشاب، وقد امتلا من المرارة والأسى، كيف يرضى هؤلاء أن يناموا ليلة واحدة فى بيوتهم المغشاة، وبيت اللّه خراب،... وهل يقبل هؤلاء وغيرهم أن يبدو اللّه الذى لا تسعة سماء السموات، والأرض موطئ قدميه، هل يرضوا أن يبدو السيد العظيم، كاليتيم والفقير والبائس الذى لا يملك إلا كوخاً خرباً ليسكن فيه!!؟... إن كل من يهتم ببيته، وينسى بيت اللّه، يضع اللّه فى هذا الوضع المخجل الجارح!!
فإذا أخذنا الأمر من وجهة أخرى، فإنه من الصعب على الإنسان أن يواجه نفسه بهذه الحقيقة الجارحة المعراة، والضمير مهما كان من عثراته لا يمكن أن يواجه هذا المنطق دون خجل، ولابد للضمير أن يجد حلا للمشكلة، وهذا الحل الأحمق يأتى بنوع من المداورة فى التفسير، فإذا كان الإنسان يرفض أن يرى بيت اللّه خرباً أو أدنى إلى الأكواخ، وهو يرفض أن يتهم نفسه بالشح والبخل، فالأفضل أن يربط بين البناء والتأجيل، فالوقت لم يبلغ أو يأت بعد لبناء البيت،... وضع اليهود الأساس، ثم توقفوا عن العمل، وظل التوقف ستة عشر عاماً، فما العذر!!؟ ليس هناك من عذر إلا أن الوقت لم يحن، وسيأتى يوم ما، فيه لابد أن نبنى وننهض للعمل،!!... وهنا مرة أخرى تأتى الموازنة بين بيوت الناس وبيت اللّه، عندما يبنى الإنسان مسكناً أو قصراً، إنه لا يهدأ أو يستريح حتى يتممه، والأفضل أن يغشيه، ويبدع فيه بكل ما فى هندسة الديكور من فن وجمال،... وهو لا يقبل أن يرجئ اللمسات الفنية الأخيرة قبل أن يسكن فيه، بل هو حريص على السرعة والإبداع معاً،... وهو غير ضنين بكل جهد أو مال فى هذا السبيل،... أما بيت اللّه فهذا شأن آخر، وأمر آخر، وأسلوب آخر،... والتأجيل هنا مريح، ومعقول، ويهدئ النفس تماماً،... ومأساة التأجيل هنا ليست مثيرة ومزعجة فحسب، بل أكثر من ذلك تقود إلى نوع من الختل والخداع، يفقد معه الإنسان سلامة التفكير، والقياس الصحيح، إذ يصبح التأجيل الواقع الذى يألفه الناس، ولا يرون غيره،... فإذا أنت مررت بالخراب أياما وشهوراً وسنوات، وارتسم أمام عينيك، وأضحى من معالم الحياة، فإن التغيير بعد ذلك يصبح أمراً يوشك أن يكون شاذاً وغير مألوف!!.. فإذا نهض السائل يقول: « أليس من واجبنا التغيير؟ يجد الجواب السريع: لقد ورثنا الخراب عن آبائنا ونحن لا نستطيع أن نغير الواقع بين يوم وليلة،... فليبق إلى أن تأتى أيام أفضل يمكن معها عمل مثل هذا التغيير!!... وإذا كان الإنسان فى حد ذاته سخط على آبائه الذين أورثوه الخراب،... فمن الغريب أو العجيب أنه يرضى أن يورث أبناءه ذات الخراب،... وكان بالأولى أن يفعل العكس، لعله يعطيهم حياة أيسر وأسهل،... إنه يذكرنا بأحد المهاجرين، الذى عرض فى الولايات المتحدة مزرعة وبيتاً بثمن بخس، يكاد يقرب من تكاليف البيت فقط، وعندما سئل عن السبب أجاب: إن أقرب كنيسة ومدرسة أحد على بعد عشرين ميلا من المكان، وهو لا يستطيع أن يرى أولاده محرومين من بيت اللّه، ومن العبادة المسيحية!!.. والذين يهتمون بأن يبنوا بيوتاً مغشاة، كان أولى بهم أن يهتموا ببناء بيت الرب، حتى يستطيعوا أن يورثوا أولادهم أثمن ما يورث الإنسان فى الأرض،... الإيمان الذى سكن فى آبائهم وأجدادهم من قبل!!..
ومن الواضح دائماً أن الإنسان بطبعه ملول، فإذا جنح إلى التأجيل، فإنه سيجنح فى العادة إلى المزيد منه، وهذه كارثة التأجيل فى الحياة،.. فإذا أجل الإنسان الخلاص،... فيخشى أن يضيع منه، متقسياً بغرور الخطية..، وما أكثر ما خرج شاب من اجتماعات النهضة، تحت تصميم أن يودع ماضيه الآثم، وإذ يرى الشيطان منه هذا التصميم، لا يقاومه فى المبدأ، ولكن يصارعه فى التوقيت، وهنا الطامة الكبرى، والتى مثلها فيلكس الذى سمع بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة، فارتعب، وخرج من الإرتعاب من باب التأجيل الموارب، وهو يقول للرسول: « أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك »... " أع 24: 25 " ومن المؤسف أنه استحضر بولس مراراً كثيرة بعد ذلك،...... ولكن لا للتوبة، بل على أمل أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه!!... وقد قاوم السيد المسيح التأجيل فى الخدمة، سواء فى الذى أراد أن يقوم بها بعد أن يموت أبوه ثم يدفنه، أو فى ذاك الذى طلب أن يودع الذين فى بيته!!.. وكلاهما أشبه بمن قال فى أيام حجى: « إن الوقت لم يبلغ لبناء بيت الرب » "حجى 1: 2 ". وقد صح اللّه هذا الوضع الخاطئ بمعاودة التأمل فى التأجيل، إذ طلب من الشعب: « اجعلوا قلبكم على طرقكم » " حجى 1: 5 " أى أن يفكروا بعمق أكثر، واهتمام أعمق، فى الطريق التى يسلكونها،... كما طلب المسيح من تلميذيه المشار إليهما أن يتجنبا التأجيل، تاركاً للموتى روحيا أن يدفنوا موتاهم، أو محدثاً عن الخطر الذى يلحق بمن يضع يده على المحراث ثم ينظر إلى الوراء!!..
وثمة أمر آخر ينبغى إدراكه، أن اللّه - وإن كان هو القادر على كل شئ ويمكن أن يقيم من الحجارة أعظم مبنى رآه الإنسان ليكون بيت عبادة له - إلا أن سياسته الدائمة أن يبنى عمله بسواعد الإنسان وشركته، وهو يذكرنا بما حدث فى الحرب العالمية الثانية، إذ دمرت القنابل كنيسة ألمانية، أعادها الألمان بعد الحرب، ولم يتغير فيها سوى تمثال للمسيح قطعت ذراعاه، وعندما أراد البعض أن يضعوا الذراعين، رفض الآخرون، إذ قالوا: إن ذراع المسيح فى الأرض هى تلاميذه وأتباعه وخدامه بين الناس،... ولو وعى الشعب أيام حجى هذه الحقيقة لأدركوا أنهم أمام أعظم امتياز، وأرهب مسئولية،... وأن اللّه أعطى سليمان امتيازه العظيم ببناء الهيكل، وأعطى جستنينان الأمبراطور امتيازاً، وأعطى المهندس وليم ويكهام، وهو يبنى كنيسة من أعظم الكنائس الإنجليزية، أن يكتب على النافذة: « هذا العمل صنع وليم ويكهام »... ولما سأله ادوارد السابع ملك إنجلترا متعجباً: ماذا يقصد بذلك، أجاب: « إن بناء الكنيسة قد منحه شرفاً ومجداً وإمتيازاً، فهو لم يبن الكنيسة، لكن الكنيسة هى التى بنته »... واللّه على الدوام يتحدى تلاميذه وأتباعه، إذ يضع الإمتياز مع المسئولية جنباً إلى جنب، فإذا أمسك بهما الإنسان كان أسعد ما يكون، إذا لم يتنبه إليهما يسمع الصوت « لأجل بيتى الذى هو خراب وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته ».. " حجى 1: 9 ".وهناك الحقيقة التى تتبع هذا، أن الإنسان لابد أن يركض، ولا يمكن أن يعيش فى فراغ،... ولعل هذا ما قصده اللّه بالقول: « وأنتم راكضون » فإذا كانت الأيام تدور، وهو يركض مع الزمن، ولا يمكن أن يعود إلى الوراء، فإنه من جانب الحياة والعمل، سيركض أيضاً..، وهو إذاً لم يركض فى خدمة بيت اللّه، فإنه سيركض ويملأ الفراغ فى بيته وشهواته وأعماله،... « أليس جهاد للانسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه »؟.. " أيوب 7: 1 " والأمر كله يتوقف على القبلة التى يركض إليها، ومن المؤسف أن الشعب أيام حجى، عندما تركوا بيت اللّه بعد أن وضعوا الأساس، حملوا أدواتهم معهم، أدوات البناء، ليبنى كل واحد بيته، ومسكنه، ودائرته الخاصة،.. ومن العجيب أن جميع الاعتذارات التى منعتهم من بناء بيت اللّه، تلاشت، وذهبت كالبخار ههنا،.. كانوا فقراء عن الانفاق، وقد عادوا من السبى، وكان عذرهم الحاجة وضيق ذات اليد،... لكن هذا العذر لم يظهر وهم يبنون بيوتهم على الشكل الفخم، والصورة الجميلة،... كانوا خائفين متعبين منهوكى القوى، لعل غيرهم يأخذ مكانهم فى بناء بيت اللّه،... أما فى بناء بيوتهم، فهم لا يعرفون الراحة أو الهدوء، حتى يخرج كل شئ على الوجه الأجمل والأكمل!!..
والحقيقة الأخيرة فى العقبات، والتى يصح أن تذكر، هى أن عمل اللّه لا يمكن أن يكون سهلا أو فسحة أو نزهة، إنه دائماً عمل شاق ممتلئ بالصعاب والمتاعب والعقبات، ولعل مجده الصحيح فى صعوبته وقسوته،... إن قلب المسيحية العظيم صليب حمله سيدها، ودعا إليه أتباعه على الدوام: « إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى » " لو 9: 23 " إن مجد الحياة فى صعابها المقهورة وفى مشاقها التى ينبغى التغلب عليها، إن المسيح لم يدع أتباعه ليعيشوا أطفالا، بل ليضحوا أبطالا،... وهو لم يدعهم إلى نزهة خلوية، بل إلى معركة دامية!!.. وهو يقول هنا لبناة بيت اللّه: « اصعدوا إلى الجبل وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجد قال الرب ». "حجى 1: 8 " إنها معركة الصعود إلى الجبال، وقطع الأخشاب هناك، وحملها، مهما يكلف ذلك من مشقة أو عرق أو دموع،... وهو عمل اللّه الذى يدعو إليه من ينبغى أن يكافحوا ويبذلوا: « فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح ». " 2 تى 2: 3 " أجل!! وليس فى المسيحية أو فى عمل اللّه إكليل دون جهاد أو صليب!!..
حجى والعودة إلى بناء بيت اللّه
تنبأ حجى النبى، وسمع الناس نبوته، وكان الأثر الواضح ثلاثياً على الأقل.
أولا: الخوف: « وخاف الشعب أمام وجه الرب » " حجى 1: 12 " ونحن نعجب أن يرتبط بناء بيت اللّه بالخوف،... ولكن الحقيقة أن الشعب أدرك سراً كان خافياً عليه، أو لم يكن واضحاً له كل الوضوح لقد تلاحقت الكوارث الطبيعية أمامه، إذ جف الزرع، وذهب الضرع، وضاعت المحاصيل: « زرعتم كثيراً ودخلتم قليلا. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تتدفأون. والآخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس منقوب »... "حجى 1: 6 " « انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه البيت نفخت عليه... لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها، ودعوت بالحر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين ».. "حجى 1: 9 -11 "« مذ تلك الأيام كان أحدكم يأتى إلى عرمة عشرين فكانت عشرة. أتى إلى حوض المعصرة ليغرف خمسين قورة كانت عشرين. قد ضربتكم باللفح - وباليرقان وبالبرد فى كل عمل أيديكم وما رجعتم إلى يقول الرب » "حجى 2: 16 و17 " وما من شك أن الشعب كان حائراً لا يدرى سر هذه النكبات الملاحقة،حتى وضع آخر الأمر إصبعه على السر،... لقد كانت جميعها عقاباً من اللّه لانصراف الناس عن بناء بيته، وهم فى سبيل بيوتهم وحياتهم الخاصة الممتلئة بالأنانية،... ولعلنا نلاحظ هنا وضعاً معكوساً، إذ كان الناس يحتجون، بأنهم لا يستطيعون بناء بيت اللّه، لأنهم فقراء لا يملكون شيئاً، ومحاصيلهم ضائعة، وثروتهم لا تمكنهم على الإطلاق من البذل فى سبيل البناء كانوا، فى لغة أخرى، يرون النتيجة سبباً، ورأى اللّه العكس، إذ أنها لعنة اللّه عليهم، وهم منصرفون إلى بيوتهم، دون بيت اللّه أو مجده، لقد طلب إيليا من أرملة صرفة صيداء، وهى تقش عيدانها لتأكل لقمتها الأخيرة مع ابنها، طلب منها كعكة صغيرة، ولكن ينبغى أن تكون له أولا!!.. ومهما يكن من ضيق ذات اليد، فإنه لا يجوز أن نبدأ العمل بعد أن تتحسن الأحوال، وتكثر الثروة، ويتسع الغنى،... إن اللّّه يهتم بفلسى الأرملة، قبل أن يهتم بأنهار الأموال التى تأتى إلى هيكله!!.. فإذا تقاعس المرء عن خدمة اللّه وهو فقير، فإن الفقر لن ينتهى، بل يتزايد ويصبح لعنة تلاحق صاحبها أينماذهب!!... ولعلنا نلاحظ فى أقوال حجى لا الفقر فحسب، بل تتابعه وتزايده، فالمحصول عندما يذهب إلى البيت يتناقص هناك، وعندما يتحول نقوداً فى الجيب، نجد أن الجيب نفسه منقوب، تضيع من ثقوبه البقية الباقية،... وقد ازدادت الرهبة عند الشعب، لا التى يمكن أن تصيبه، بل للبركة التى - على العكس - تضيع منه، فإن السخاء فى خدمة اللّه وبيته مصحوب دائماً بالبركة: « فمن هذا اليوم أبارك». "حجى 2: 19"... إن ما نضعه فى بناء الكنائس سيكون دائماً مصحوباً بفيض البركات الإلهية!!.. وهى حقيقة مؤكدة، إن ما تبقى عليه يضيع، وما نبذله يتحول كالبذار التى توضع فى الأرض ليتضاعف نتاجها وثمرها، وعندما أدرك الشعب هذه الحقيقة خاف أمام الرب، وأدرك تقصيره الشنيع...
ثانيا: السبب الثانى لعودة الشعب إلى العمل، هو ذاك التحريك الداخلى لروح اللّّه فى زربابل وفيهم، « ونبه الرب روح زربابل بن شألتئيل وإلى يهوذا وروح يهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وروح كل بقية الشعب ». "حجى 1: 14 " لقد ملأهم روح اللّه جميعاً بالإحساس بالتقصير والمهانة والحاجة إلى الحركة التى لابد أن تقوم بينهم للبناء،... هذا الوازع الداخلى الذى سيطر عليهم جميعاً، أعادهم إلى الحركة والعمل،... ونحن لا يمكن أن نعمل أو ننجح دون سيطرة روح اللّه علينا، وتحريك عواطفنا ومشاعرنا الداخلية، وتوجيهنا إلى العمل بثبات وهمة!!
ثالثا: على أن السبب الثالث والأهم،... هو وعد اللّه بمعونتهم ومساندتهم فالآن تشدد يازربابل يقول الرب وتشدد يايهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وتشددوا ياجميع شعب الأرض يقول الرب وأعملوا، فإنى معكم يقول رب الجنود » "حجى 2: 4 " قال أحدهم: « إقذف بى فى أى معركة، ولكن أعطنى أولأ يقين النصر، وأنا لا أتردد »... وها نحن نرى اللّه يؤكد هذا اليقين للجميع، وأنه مهما كانت العقبات التى تواجههم، فإن اللّه أقوى وأعظم وأقدر على كل مشكلة وصعوبة!!!
حجى ومجد بيت اللّه
كان الشعب محتاجاً إلى كلمة أخرى، إذ أنه مهما كان قوياً أو متشدداً أو صبوراً على العمل، فإنه لا يمكن أن يقيم بيتاً كالبيت القديم، الذى شاده سليمان بعد أن وفر له داود ما استطاع أن يوفر، وبعد أن بذل فيه سليمان - والمملكة فى أوج مجدها وغناها - وما بذل،... ولعل الخيال لعب دوره فى هذا المجال، خاصة وأن الشعب لم يعد له ملك، بل أضحى له وال هو زربابل، والأمة بعد السبى لاتزيد عن ولاية من الولايات التى يحكمها الفرس وهى مهما أعطى داريوس، فإنه لا يمكن أن يعطى شيئاً يقابل ما كان يملك سليمان فى مجده العظيم،.... لكن اللّه - مع هذا كله - يتحدث قائلا: «وأزلزل كل الأمم، ويأتى مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود. لى الفضة ولى الذهب يقول رب الجنود. مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول "حجى 2: 7 - 9 ". فكيف يمكن أن يكون هذا؟... إنه هيهات أن يكون دون أن تزلزل أوضاع كثيرة، ويتغير كل شئ على وجه الأرض،... وقد حدث هذا فى يسوع المسيح، وبه،... كان من المستحيل أن يكون البيت الذى بناه زربابل، بيتاً أعلى وأسمى أجمل، من البيت القديم، الذى بناه سليمان، وكان من المستحيل أيضاً أن زربابل الراجع من السبى، يمكن أن يكون الخاتم الذى يرمز إلى القوة والسلطة والمجد، فى بيت داود،... كان الأمر أبعد وأعمق وأشمل وأكمل،.... ولم يكن زربابل القديم إلا رمزاً له، والبيت المتواضع القديم أيضاً لم يكن إلا صورة باهتة له!!... كان « زربابل » الحقيقى هو الرب يسوع المسيح،... وكان البيت القديم إشارة إلى كنيسة المسيح التى ستملأ الأرض كلها،... وتحول الأمر من اليهود إلى الأمم عندما جاء المسيح » مشتهى كل الأمم » ليبنى بيته وكنيسته فى الأرض!!... ولم تعد العبادة التى جاء بها المسيح عبادة طقسية: « هكذا قال رب الجنود اسأل الكهنة عن الشريعة قائلا: إن حمل إنسان لحماً مقدساً فى طرف ثوبه ومس بطرفه خبزاً أو طبيخاً أو خمراً أو زيتاً أو طعاماً ما، فهل يتقدس؟ فأجاب الكهنة وقالوا لا، فقال حجى إن كان المنجس بميت يمس شيئاً من هذه فهل يتنجس فأجاب الكهنة وقالوا يتنجس. فأجاب حجى وقال هكذا هذا الشعب وهكذا هذه الأمة قدامى يقول الرب وهكذا كل عمل أيديهم وما يقربونه هناك هو نجس »... "حجى 2: 11 - 14 " لأن الأمة لم تصل فى روحها إلى ما وراء الطقوس والفرائض، سلباً وإيجاباً، بل هى تقف عند المنجس أو غير المنجس، دون أن تبلغ اللباب الذى تحدث عنه المسيح، عندما سألته السامرية السؤال الطقسى أو الفرضى: « آباؤنا سجدوا فى هذا الجبل وأنتم تقولون إن فى أورشليم الموضع الذى ينبغى أن يسجد فيه، قال لها يسوع يا امرأة صدقينى أنه تأتى ساعة لا فى هذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تتعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. اللّه روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا » " يو 4: 20 - 24 " وهذا هو التفسير الصحيح لأقوال حجى، وقد جاءت ساعته، فحل يسوع المسيح محل زربابل، وحلت الكنيسة محل الهيكل... وحلت العبادة الروحية بالروح والحق محل المنجس أو المقدس على أوضاع الشريعة القديمة،... وهى ذات الرؤيا التى أبصرها بطرس فى الملاءة العظيمة المربوطة بأربعة أطراف والمدلاة على الأرض، والتى طلب فيها اللّه منه أن يذبح ويأكل، وإذا هو يصيح: « كلا يارب لأنىلم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً، وإذا بالصوت يصير إليه ثانياً: « ما طهره اللّه لا تدنسه أنت »!!.. " أع 10: 14 و15 "وإذا هو على باب كرنيليوس، بل على باب الأمم العظيم المفتوح لهم بنعمة يسوع المسيح!!..
أجل لقد هدم نبوخذ نصر هيكل سليمان، وهدم تيطس الرومانى الهيكل الذى بناه هيرودس فى ست وأربعين سنة، وتبعثر اليهود فى كل أركان الأرض، ونهضت كنيسة المسيح التى لا تقهر، ومجدها يملأ كل الأرض،... وستبقى حتى تعود له كنيسة مجيدة لا دنس فيها أو غضن، أو شئ من ذلك عندما تنزل من السماء، عروساً مزينة لرجلها: « مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود، وفى هذا المكان أعطى السلام يقول رب الجنود »... "حجى 2: 9 ".

عدد الزيارات 607

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل