شخصيات الكتاب المقدس راحاب

02 ديسمبر 2021
Large image

راحاب
«فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب»
مقدمة
قال واحد من القضاة لفتاة كانت تعمل في جيش الخلاص: لست أعتقد أن امرأة تزل يمكن أن تنهض مرة أخرى، ولا أستطيع أن أصدق أية قصة تزعم غير ذلك، ما لم أسمعها مباشرة من صاحبة الشأن ذاتها! وردت الفتاة وقالت له: ولكني أستطيع أن أحدثك بكل يقين عن وقائع فتاة تمرغت في الوحل، وأستطيع أن أقص عليك قصتها دون أقل ظل من مبالغة أو شك، وأستطيع أن أؤكد لك أنها انتقلت من حياة اللوثة والأثم والدنس والفساد، إلى حياة من أعظم ما يمكن أن يحياها الإنسان في ظل الله والحق والنعمة والقداسة، وأنا أعرف هذه الفتاة معرفة يقينه تامة، وهز القاضي رأسه في شك وهو يقول «ولكني مع ذلك لا أصدق، ان لم أسمع القصة من الفتاة نفسها، وأمحصها تمحيصًا!! وردت الفتاة بكل هدوء وأناه! وقالت: أنا يا سيدي القاضي هي الفتاة بعينها!! وذهل القاضي لما سمع وما رأى، اذ كان المعروف عن هذه الفتاة، أنها واحدة من أعظم العاملين في خدمة الله، وجيش الخلاص، ولعل قصة راحاب الوثنية الزانية القديمة، هي خير ما يمكن أن تروى أو تذكر من هذا القبيل، اذ كيف تحولت هذه المرأة التي أوغلت في الأثم بين عشية وضحاها، الى واحدة من أشهر القديسات والمؤمنات، وكيف أصبحت نورا مشعاً، ومصباحًا هاديًا لكل من ضل الطريق وانحرف، ليعود مرة أخرى إلى المخلص والفادي الذي لم يستح أن يدعونا أخوة بل رضى أكثر من ذلك، أن تأتي هذه المرأة في الطريق، في سلسلة أجداده وأنسابه، تأصيلاً وتأكيداً للقاعدة التي أعلنها بموته وصليبه، ليست هناك خطية على الإطلاق، أكبر من غفرانه، وأبعد من أن تصل إليها رحمته، إذا جاء صاحبها في روح التوبة ليقول: «اللهم ارحمني أنا الخاطيء...» حقًا قال الرسول العظيم: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا»... ومن هذا المنطلق يمكن أن نبدأ في دراسة وتحليل شخصية راحاب الزانية.
راحاب والنعمة المتفاضلة:-
يكرر الكتاب في أكثر من موضع عن راحاب أنها كانت زانية، ولعله لم يكن في أريحا كلها من هو أشر أو أدنس أو أكثر فسادًا منها... ولقد حاول الكثيرون أن يخففوا من وقع التعبير، فقال بعضهم لعل التعبير لم يكن يقصد به سوى الماضي الذي فارقته قبل أن تقبل الجاسوسيين بسلام، وقال آخرون إن هناك تقاليد تقول إنها كانت صاحبة خان تستقبلا الوافدين إلى المدينة.. وقال غيرهم أن المعنى الشائع وقتئذ يختلف عن المعنى الذي نعرفه أو نراه الآن، وأن الحياة الوثنية كانت تنضج بالفساد، حتى أن الفسق أو الفجور كان شيئًا عاديًا في حياة الناس في ذلك الوقت، على أني أعتقد أن الكتاب كان يقصد العكس تمامًا اذ أراد أن يسجل قصتها كامرأة زانية، بل أراد أكثر من ذلك أن يأتي باسمها في الصفحة الأولى في الإنجيل في سلسلة أنساب المسيح، مع ثامار، وبثشبع، الخاطئتين الملوثتين، ليعلن بوضوح عن عظمة النعمة الإلهية، وكيف تصفح عن الإثم والخطية والدنس والفجور، بلا حدود أو قيود أو سدود أمام جميع الناس. وأن نهر النعمة يمكن أن يسبح فيه الجميع أو يغتسلوا بدون أدنى تفرقة أو تمييز، ولعل هذا ما كان يرن في ذهن الرسول وقلبه وهو يصرخ: «وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له براً».. أو ما قاله وهو يردد أنشودة عن نفسه: «أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهداً ومفتريًا ولكنني رحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان، وتفاضلت نعمة ربنا جدًا، مع الإيمان، والمحبة، التي في المسيح يسوع» ولعل هذا بعينه ما كان يقصده يوحنا نيوتن وهو يعرض قصة حياته، وكيف أخذ سبيله على ظهر سفينة تتاجر بالعبيد الذين تقتنصهم من أفريقيا، وكيف ترك وطنه ليغرق في الفجور أو على حد قوله: «لقد ذهبت إلى أفريقيا لأكون حرًا في ارتكاب الإثم كما يشتهي قلبي، وكنت كالوحش الطليق في الأرض الأفريقية حتى جاء السيد الذي أمسك بي وروضني وما أعظم ذلك اليوم: يوم 10 مارس 1748 الذي جاءني في السيد من الأعالي، وأنقذني من المياه العميقة القاسية الطافية فوقي...» وما أكثر الملايين من الأشرار والفاسقين والزناة الذين سيتم فيهم قول السيد الذي ذكره لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب عن اليهود عندما قال: «الحق أقول لكم أن العشارين والزواني يسبقوكم إلى ملكوت الله لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به وأما العشارون والزواني فآمنوا به» وقد قال أحد الكتاب حقًا في عرض هذه الحقيقة: «إن الرجاء يتدفق في قلوبنا، ونحن ننظر إلى المرأة راحاب، بالنسبة لكل ضائع ومستهتر ومهمل ومنبوذ».
راحاب وإيمانها المرتفع:-
لعله من المناسب أن نلاحظ أن التغيير - أي تغيير - يحدث في الإنسان نتيجة إيمانه برأي أو فكر أو مبدأ ومعتقد، فاذا حدث انقلاب في حياة فرد أو جماعة، فلابد أن يكون لهذا الانقلاب ما يبرره من بواعث أو أسباب وقد رد كاتب الرسالة إلى العبرانيين كل ما حدث في حياة راحاب إلى الإيمان أو يقول: «بالإيمان راحاب الزانية»! فما هو يا ترى هذا الإيمان الذي أحدث مثل هذا الأثر الثوري في حياة المرأة القديمة!! لقد بدأ هذا الإيمان خوفًا من الله وقدرته الباطشة العجيبة، اكتسحت في طريقها كل الشعوب الآثمة الوثنية والتي كمل شرها وجاء يوم دينونتها والقضاء عليها... ولم تعد راحاب ترى في الأمر مجرد معارك عادية، يمكن أن يكون فيها الغالب أو المغلوب، بل بدا الأمر أمامها بوضوح لا شبهة فيه، أن يد الله تمتد لتقتص من الشرير والآثم والفاجر والطاغية!! وأنه اذا كانت هذه اليد القادرة، تأتي على الأشرار كجماعات على هذه الصورة المرهبة المفزعة، فإن الفرد لا يمكن أن يفلت بالضرورة من عقوبة آثمه وشره وخطيته، ولعل هذا ما أفزعها وروعها كزانية وفاسقة وخاطئة. والخوف في العادة قد يكون مرحلة أولى في اتجاه الإنسان أو عودته نادمًا تائبًا إلى الله إذ هو في الواقع عودة به إلى إدراك وضعه الصحيح كمذنب ضعيف عاجز أمام الله القادر العادل القدوس ولا بأس على الإنسان أن يخاف أو يرتعب إذا كان هذا الخوف دافعاً له للتأمل في المأزق القاسي الشديد الذي بلغه عندما وقع في الإثم أو أوغل في الخطية. على أن الخوف إذا توقف عند هذه النقطة، دون أن يحرك صاحبه خطوات أخرى في الطريق الصحيح إلى الله، انما ينتهي به إلى عذاب رهيب لا يوصف، ومن ثم فإن الإيمان الحق يتقدم بالمؤمن خطوات تالية متلاحقة فيكشف له لا عن جرم الخطية وبشاعتها وقسوتها فحسب بل ليظهر له شخص الله في عظمته وجلاله وجوده وإحسانه، وأغلب الظن أن راحاب رأت الله على هذه الصورة، فلم تعد تراه إلهاً صغيرًا محدودًا كهذه الآلهة المحلية الصغيرة التي كان يتعبد لها الوثنيون، بل رأته الإله الحي الحقيقي الذي يبس بحر سوف والقادر على كل شيء، وهو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت، هذا الخوف من الله واليقين بقدرته وعظمته قاداها في الطريق إلى خطوات أبعد، إذ قاداها إلى طرح الآلهة الوثنية، والتنكر لها والتمسك بالله وحده، والمجيء إلى حبه وحنانه وجوده ورحمته والإدراك الكامل بأن لا فرق عند الله بين إنسان وآخر، كل من يقصد بابه ليلوذ برحمته، ويستظل بجناحيه أو يأخذ حمايته، من دون ما تمييز بين يهودي وأممي، أو ذكر وأنثى، أو ساقط في الخطية أو غارق فيها إلى ما فوق الأذنين.
على أن السؤال الجوهري الذي لا بد منه، ونحن بصدد هذا الإيمان، ولكن كيف وصل النور إلى راحاب بهذه الصورة وهل بلغها على مراحل متعاقبة، أو ومض أمام عينيها كما يسلك البرق أو يأتي الشهاب، إن الحقيقة كثيرًا ما تنبلج أمام الإنسان فجأة، كما جاءت إلى اللص التائب في لحظة، أو كما بلغت بولس عندما أبرق حوله نور من السماء، أو كما وصلت أوغسطينس عندما وقعت عيناه على الكلمات الأخيرة من الأصحاح الثالث عشر من رسالة رومية «قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور...» أو عندما قرأ توماس بليني للمرة الأولى: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا». أو كما قال لاكوردير عن نفسه: «غير مؤمن في المساء، ومسيحي في اليوم التالي بيقين لا يتزعزع» على أنها مرات أخرى قد تأتي كما قال سليمان في سفر الأمثال: «أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل» أو تبلغ النفس في هدوء وأناة وعمق وتأمل.. إن الواضح أن راحاب استقبلت النور فجأة وكانت أقرب في إيمانها إلى سجان فيلبي الذي هزه الزلزال من الأعماق دون أن تكون كليدية بياعة الأرجوان التي فتح الله قلبها لتصغي إلى بولس!!.. وأيا كان الأمر، فإنها مثل السجان القديم قد تداعت أسوار نفسها وقلاع الشيطان المتمكنة منها لفتح الطريق أمام حق الله ليصل إلى قلبها!!.. فاذا كانت ثمة حقائق أخرى قد جاءتها بعد ذلك، فإنما جاءت لكي تمكن وتثبت ما آمنت به دون ريب أو شك أو تردد!!...
راحاب وحياتها المقدسة:-
ومن المناسب أن نلاحظ ههنا أن راحاب سلكت الخط العكسي تمامًا لما كانت عليه من حياة فاسدة فاسقة شريرة، إذ عادت تقطع جميع الربط التي كانت تربطها بالماضي البشع القديم، وقد بدأت أول الأمر بقطع الصلة التامة بديانتها الوثنية، فلم تعد هذه الديانة وممارستها وطقوسها وفرائضها وشعبها بذات صلة لها، ومع أننا لا نستطيع أن نقبل أو نقر، من وجهة النظر المسيحية، ما ذكرته من أقوال، أو لجأت إليه من وسائل تمويهية كاذبة، في سبيل حماية الرجلين الغريبين اللذين لجآ إليها ودخلا بيتها، إلا أننا لا ينبغي أن نغفل أو ننسى أن الحكم عليها بالمقاييس المسيحية الكاملة، أشبه بمن يحكم على الأطفال بما ينتظر من الرجال، أو الصغار بما يرضي من الكبار، أو الناشئين بما هو مطلوب من الأقوياء المتمرسين الناضجين!! ولعل هذا يشجع كما يقول الكسندر هوايت على الترفق بمن يأتي إلى المسيحية من غير المؤمنين وهم في مطلع معرفتهم وحداثة إيمانهم، حتى لا نقصف من بينهم من هو أدنى إلى القصبة المهتزة المرضوضة أو نطفيء فيهم من هو أقرب إلى الفتيلة المدخنة المرتعشة، بل بالحري نتعامل معهم على أكبر قدر من الحب والحنان والصبر والأناة لنقوم فيهم ما يمكن أن يكون لهم من أيد مسترخية أو ركب مخلعة، لكي لا يعتسف الأعرج، بل بالحري يشفى، ولا شبهة في أن هذا ما حدث بالتمام، مع راحاب الزانية، التي تغيرت حياتها وسيرتها، على نحو واضح أكيد ملحوظ، فلم تأخذ مكانها بين شعب الله فحسب، بل تزوجها سلمون لينجب منها بوعز، والسلسلة العظيمة التي جاءت فيما بعد من داود وأنساله المتعددين حتى مريم العذراء والمسيح سيدنا مخلص العالم، وهكذا نرى كيف فتح زوجها الباب أمام التائبة لتأخذ مكانتها العظيمة بين المكرمين والشرفاء، على أمجد الوجوه من المساواة، بدون عودة إلى تاريخ ذهب وانتهى أو ماض بغيض قبيح هيهات أن يرجع أو يعود...! ولا أحسب أن هناك كلمات يمكن أن ننهي بها قصتها أفضل من كلمات الملك آرثر التي نطق بها وهو يتحدث إلى زوجته التائبة على أبواب الدير التي لجأت إليه وختمها بالقول من قصيدة تينسون:
والكل قد مضى... والخطية قد انتهت.... وأنا أنا!!
أغفر لك.... نعم أغفر... كما غفر لنا... الله السرمدي!!..

عدد الزيارات 362

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل