القديس يوسف البار ج3

17 ديسمبر 2021
Large image

في الهيكل ابن 12 سنة
«وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟. فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ» (لو2: 41–52).
كُتب كثيرة دخيلة تكلّمت عن طفولة الرب، وأحاطتها بغرائب ومعجزات وأمور فائقة لطبيعة الأطفال حتى في اللعب.. ولكنّ الكنيسة لم تقبلها ورفضتها، لأنّ الإنجيل هنا يتكلّم عن الكلمة المتجسِّد الذي «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ» (في2: 7، 8). فهو طفل في وسط الأطفال، وهو غير منعزل ولا مُختلِف.. مع أطفال الأقارب والمعارف رفيقًا لهم ومعهم. الشيء الوحيد الذي يجب الانتباه إليه هو خلُوّ حياة القدوس من عنصر واحد وهو الخطية.. لأنّ الوحي الإلهي يؤكّد هذا قائلاً: «فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عب4: 15). وكما نقول في القداس الغريغوري: «وشابهتنا (اشتركتَ معنا) في كلّ شيء ما خلا الخطيّة وحدها». على ذلك كانت سنوّ الطفولة والصِّبا والشباب حياة بشرية كاملة طبيعيّة في كلّ شيء تتّصف بالكمال المطلق اللائق بربّنا القدوس «الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ (غش)» (1بط2: 22).
هكذا خَلَتْ طفولة الربّ وصِباه من نقص الطفولة، وظواهر الطبيعة الساقطة، التي تُلاحَظ في الأطفال، من الأنانية والغضب والصياح والشراسة أحيانًا.. وما إلى ذلك. فهو بطفولته قدّس قامة الطفولة في ذاته، وأظهرها جديدة كلّ الجِدّة إذ كان هو الجمال المطلَق، الذي على صورته كان مُزمِعًا أن يخلق إنساننا الجديد.
وهكذا أيضًا خَلَتْ حياة الرب من نَزَق الصِّبا وحركاته وميوعته، وكلّ ما يخصّ هذه المرحلة من العمر أدخَلها أيضًا إلى الكمال والانضباط، كنموذج إلهي لفترة من العمر يفتقِر فيها الإنسان إلى الاتزان ورجاحة العقل وضبط اللسان وباقي أنماط السلوك.
هذا الأمر يجب أن يكون واضحًا للذين يقتربون بالفكر أو التأمل في طفولة الرب أو مراحل نموّه فهو كما قال الكتاب: «كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ» (لو2: 52). أليس هو الكلمة الذاتي الواحد مع الآب في الربوبيّة. ولكن لمّا اتّخذ له جسدًا كان كطفلٍ كامل وصبيّ كامل وإله كامل في ذات الوقت، لأنّ اتّحاد لاهوته بناسوته هو اتحاد بغير افتراق.. ولكنّ أَمرَ نموِه بقدر الحكمة التي تَظهر للناس، كان بتدبيره الخاص الذي لا يُمكِن إدراكه أو الاقتراب إلى كَنَهِ طبيعته.. لأنّ أفكار الله وطرقه تعلو عن أفكار البشر كعلوّ السماء عن الأرض.
لقد ظلّ القديس يوسف والعذراء الطاهرة يبحثان عن يسوع بعد ما رجعا إلى أورشليم ثلاثة أيّام، وبحسب تعبير القديسة الأم «كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!». في يقيني أنّ الخليقة بجملتها من ملائكة وبشر لم تتعرف على الله أو تدركه كما أدركته القديسة العذراء مريم. لأنّ التجسُّد الإلهي خصّها بملء النعمة، وحلول الله فيها وسُكناه في أحشائها تسعة أشهر كاملة. بل وأرضعته من ثديها الطاهر، ونما ناسوته بعد أن وُلد من لبنها، فهي إذن تعرفه معرفة الأم فهو ابنها وإلهها، وهذه معرفة تفرّدت بها، وصارت قاصِرة عليها لا يشاركها فيها ملائكة ولا بشر.
ولكن رغم كلّ هذا فعاطفة الأم في القديسة غالبة.. فهى تقول: «كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!». هكذا نطقت بصدق مشاعر الأمومة. وهذا يُلقي ضوءًا على حقيقة العلاقة الفائقة التي ربطت الأم القديسة بابنها الإلهي. وقد بدا من كلام العذراء القديسة أيّ توقير تقدّمه للقديس يوسف البار حينما قالت: «أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ». وقد قدّمت القديس يوسف على نفسها، مع العلم أنّها ارتفعَتْ أعلى من السموات وصارت أرقى من السيرافيم.
وأنا أتعجب من صمت البار يوسف الذي يرفع مكانته ويُعلي قدره جدًا.
+ قال الرب لأمه: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». تقول له مجازًا "أبوك" وهو فى واقع الأمر واقف في بيت أبيه. لماذا كنتما تطلباني؟ سؤال الرب هنا تجاوَزَ الواقع المنظور، وهما، وبالأكثر القديسة مدرِكة كلّ الإدراك رسالته وارساليته وتدبيره الذي وُلد لأجله. ولكن نعود للمشاعر البشرية الصادقة التي عاشوها، وهي التي سادت خلال ثلاثة أيام البحث التي أرهقَت شعورهم الطبيعي.
هنا رد المسيح ابن الاثنتي عشرة سنة على كلمة العذراء «أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ». في الواقع هو تصحيح سِرِّي لمقولة العذراء إذ كان هو في (بيت أبي) وهو كائن فيما لأبيه فكأنّه يقول لها: تقولين أبي كان يبحث عنِّي، هذا جيد ولكنّ الحقيقة إنّني في بيت أبي، وأبي فيَّ وأنا كائن مع الآب كلّ حين، وها أنا في بيت أبي الذي جعله اليهود مغارة لصوص، «يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي».
وقول الرب: «أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي». في الواقع يَرُدّ الشعور البشري وعاطفة الأمومة إلى الهدف الأسمى الذي لم يَغِب لحظةً عن حياة الرب بالجسد، رغم حداثة السنّ، ولكن مجد الآب وتكريمه وطاعته كانت هي بدء وغاية التجسّد. حتى في نهاية أيام الخدمة قال للآب: «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ... أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ» (يو17: 4، 6). ومنذ البدء شهد الآب من السماء قائلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت3: 17).
+ يقول الوحي: «فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا» (لو2: 50). ثم يعود فيقول: «أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (لو2: 51). ربما اختلط الأمر في كلام الرب، وعسر فهمه على القديس يوسف، فقيل إنّهما لم يفهما. ولكن عاد الروح فخَصّ العذراء بحِفظ الأمر في القلب كأسرار الله التي لايدركها أحدٌ غيرها. ولم يكن مُمكِنًا في سياق الحديث أن يُفَرِّق بين يوسف والعذراء فجمعهما في كلمة أنّهما لم يفهما.. إذن من غير المعقول أن يُنسَب عدم الفهم إلى القديس يوسف وحده.
+ ثم أنّ الرب بعد أن كشف كَنَه عمله الإلهي ورسالته، ذهب معهما إلى الناصرة «وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا».. ومَن يُطيق مثل هذه الكلمة.. فهو الذي تَخضَع وتسجُد له كلّ ركبة ما في السماء وما على الأرض. ولكن هذا هو الإخلاء الذي صنعه الرب لأجل خلاصنا.
السير بحسب التدبير:
منذ اللحظة التي ظهر فيها الملاك للقديس يوسف ليخبره عن سِرّ الحَبَل الإلهي.. نقول منذ تلك اللحظة صار القديس يوسف في تحرّكاته خاضعًا لتوجيهات السماء.. يسمعها ويتبعها بطاعة وخضوع وبساطة شديدة. وكان الروح يقود خطواته في الخِطّة الإلهيّة لخلاص العالم. ولم يكُن مُعاندًا للرؤيا السماويّة كقول بولس الرسول، بل قد انحاز بكلّ كيانه خادمًا للسرّ الأقدس.
فتدبير الهروب إلى مصر مَثَلاً، كان ممكنًا إذا فَكَّرَ بفكره الخاصّ أن يسأل.. لماذا مصر؟ وإن كان ثمّة هروب من وجه هيرودس فالأماكن كثيرة وقريبة. شيء مثل هذا لم يخطر على بال القديس يوسف.. بل في الحال قام وأخذ الصبي وأمّه وجاء إلى أرض مصر. فتحملا مشاق الطريق وبُعد المسافات.. وهكذا إذ أتى إلى أرض مصر مُكمِّلاً النبوّات، وتنقّل فيها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. لقد بدا كآلة طيِّعة في يد الروح يحرّكها كما يشاء وحيثما يشاء وأينما يشاء.
(يُتَّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 379

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل