القديس يوسف البار ج1

03 ديسمبر 2021
Large image

الروح القدس هو الذي أعطى القديس يوسف لقب البار، هكذا وصفه الإنجيلي مار متّى في بشارته «لمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا» (مت1: 18، 19).
يقول الإنجيلي مار متّى عن العذراء القديسة إنّها «وُجِدَتْ حُبْلَى»، أي ظهرَتْ عليها ملامح الحمل لدى الذين يرونها من الأهل أو الجيران. فمن جهة هؤلاء فمعروف أنّها مخطوبة ليوسف، وهي مُقيمة معه، فلا غرابة إن وُجدت حُبلى، حتى وإن تكن مراسم الزواج من كُتُبِ ورقِ الزواج بشهود من العائلة وحضور الأهل والأقارب، وتسجيل الزواج في سجّلات المَجمَع، وعمل حفل العُرس وما إلى ذلك.. لم يكن شيء من ذلك قد حدث. ولكن من جهة أخرى فإنّ التقليد يقول أنّ العذراء دخلَتْ إلى الهيكل في سن الثلاث سنوات وبقيَتْ إلى سنّ اثنتي عشرة سنة، إذ كان يواقيم أبوها وحَنّة أمها قد رقدا وهي بعد صغيرة. فكان لابد فى حال خروجها من الهيكل أن تصير لأقرب وليّ من سبطها. ولما وقعت القرعة على يوسف أخذ العذراء القديسة إلى خاصته، واعتُبِرت أنّها مخطوبة له إلى أن تكمل مراسم الزواج.. هكذا كانت العادات في تلك الأيام.
«لَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا» (مت1: 19)
+ لما كشف الروح القدس في الإنجيل عمّا دار في ذِهن يوسف النجّار عندما رأى علامات الحَمْل على العذراء الطاهرة.. واضحٌ أنّه لم يفاتح العذراء القديسة في ذلك الأمر، لا عاتبها ولا لامها.. بل تفكّر في نفسِهِ كيف يتصرّف. وهنا ومن مُنطَلَق هذا التفكير ممكن أن نستدل على مدى النُّبل في الأخلاق والسموّ في الروح. كان للناموس حُكم واضح من جهة هذا الأمر. وكان ما أسهل أن ينحاز ذهنه إلى الناموس، وهذا ليس فيه عيبٌ ولا ملامة. ولكنه تجاوز أوامر الناموس التي تقضي برجم مَن ترتكب هذا الأمر.. يشهد عليها شهود في حالةِ إن أُمسكت في ذات الفعل، أو تكون علامات الحَمل أكبر دليل لا يحتاج الأمر معه إلى شهود. ولكن على عكس ذلك جاء تفكير القديس يوسف البار.
+ لم يُرِد أن يُشهِرها.. إن أُخذ الأمر بحسب الظواهر فإنّ هذا يكون عارًا على القديس يوسف نفسه، وكم ينشئ هذا الأمر من الغيظ ومن الغضب، بل ومن الانتقام وحتى القتل.
ألا يصير هذا الأمر – لو كان صحيحًا – خيانةً ووصمة عار؟ ولكنّ نفسَه البارّة كانت أعلى قدرًا وأسمى شأنًا. لقد تجاوز وارتفع فوق المشاعر الطبيعيّة والأعراف البشريّة، وفي كرمٍ بالغ ونبل فائق لم يُرِد أن يشهرها. وجد في نفسه مَيلاً قويًّا وشعورًا عميقًا أن لا يُعرِّض العذراء لأيّ مكروه مهما بلغ الأمر. إنّه هو نفسه لم يفاتحها في الأمر، وإن كان قد بلغ به الاضطراب أيّ مبلغ. لقد فوجئ بالأمر فأذهله، وما رأته عيناه أبعد عن التصديق. منذ أن استلم العذراء وهي طِفلة ذات اثني عشر ربيعًا إلى هذا اليوم.. لم يرَها إلاّ ملاكًا بل أفضل من ملاك، ولم يلاحظها إلا مُشرقة كالصباح، جميلة كالقمر من كثرة الصلاة والتأمل. لقد فارقت الهيكل، ولكن رآها يوسف في تلك الفترة من الزمن كأنّها لم تترك الهيكل ولا فارقته.. بل رآها كأقدس من الهيكل وأطهر من الطُّهر ذاته.
فكيف إذن، فماذا حدث؟ إنّها لم تفارق البيت ولا خلطةَ لها مع الناس؟ إنّ ما يراه الآن من علامات الحَمْل، وقد لاحظه ربّما بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من زيارة رئيس الملائكة جبرائيل، التي احتفظت بها العذراء كَسِرّ إلهيّ ولم تُطلِع عليه أقرب الأقربين. نعم لقد ذهبت لمدة ثلاثة شهور لزيارة زكريا الكاهن وزوجته أليصابات. وهذه الزيارة كانت مقدسة من كلّ جانب، فهي مَضَت تخدم وتعضد امرأة متقدّمة في أيامها، وزوجها شيخ وقور لفَّهُ الصمت وعدم الكلام. لقد بَدَت الحيرة ودارت الأسئلة التي ليس لها جواب في رأس القديس يوسف. سؤال وألف سؤال، وليس من جواب شافٍ، أو سبب واضح يُريح الفكر. ولكن أيّ عقل هذا، الذي فيما هو مفتكر بهذا، لم يُرِد أن يُشهِرَها؟ كيف ارتاح لهذا الفكر النبيل في وسط عاصفة الأفكار الأخرى؟! لقد كشف هذا عن هذه الروح العالية، والشهامة الفائقة لهذا الرجل البار.
أمّا أنّه أراد تخليتها سِرًّا، فهذا أمرٌ فاق قِمّة أخلاق البشر.. أراد أن يُخلِي سبيلها، ويُطلِقها سِرًّا بلا ضجّة وبلا معرفة للناس. تُرى ماذا جال في خاطر هذا البار؟ لماذا سِرًّا.. هل خَوفًا على شعورها.. إنّه لغزٌ ليس له حلّ؟ كيف هداه الفكر إلى السّتر وعدم الفضيحة، أو إلى عدم الإساءة والإيذاء..؟! لقد كانت الجوهرة الغالية الثمن، فإن لم يكن يعرِف سِرّها، وإن يكُن الفكر يلحّ عليه ويعذّبه، فَكّر أن يدَعَها تذهب، ولكن في سلام وفي عدم جَلَبَة. لقد كشف هذا الفكر الفاضل عن قلب رجل فائض بالسلام، جزيل الحبّ والغفران.
والعجيب أنّه لم يكُن في عَجَلَةٍ من أمرِه، ولا تَصَرّف تصرُّف الطّياشة والتسرع، ولا تهوَّرَ في إصدار الأحكام، أو دفعَهُ الشعور القاسي بسبب ما رآه إلى ارتكاب جهالة أو فِعل لا يليق. بل بالعكس صار متفكِّرًا متأنّيًا، وبالتأكيد مُصلّيًا طالبًا أن يكشف له الرب سِرًّا عَصَى عليه إدراكه. ربّما أخذ هذا الأمر مِنه أيّامًا.. طار منه النوم وصار في يقظة العقل والروح معًا. على أنّ الربّ لا يترك صفيّه نَهبًا للأفكار، لئلاّ يستثمر عدو الخير هذه الظروف، ويعمل عمله المُشين فيُسيء للأمر كلّه.
«إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (مت1: 20). لم يَقُل الكتاب مَنْ مِنَ الملائكة أرسله الربّ إلى القديس يوسف. ولكن غالب الظن أن يكون رئيس الملائكة جبرائيل؛ إذ كان هو الموكّل بالبشارة المفرحة، حين انفتحت السموات بعد مئات السنين من الجفاف وانعِدام الرؤيا. وليس عَجَبًا أن يخاطب الملاك القديس يوسف داعيًا إيّاه ابن داود، حقًّا إنّ يوسف ينتسِب لداود بحسب النسل الجسدي. ولكن ذِكْر داود هنا يُسلِّط الضوء الإلهي على قيام مملكة داود حسب المكتوب، فالذي في بطن العذراء هو الملك ابن داود بحسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا، وهو الذي لا يكون لمُلكِهِ انقضاء.
فطوبى ليوسف ابن داود إذ بلغ إليه زمن الخلاص ووصل إليه ملكوت الله.. بل طوباه لأنّه صار مُشارِكًا بالفِعل في استعلان الملكوت، وصار صاحب الاسم الحسن "ابن داود".
قال الملاك رَدًّا على ما كان يوسف يتفكّر فيه: «لاَ تَخَفْ يَا يُوسُفُ».. وقول الملاك هنا كان مصحوبًا بقوّة إلهية، طردَتْ الخوف والجزع، وطردت الحيرة والارتباك. فحين يُعطي الملاك السلام فهو قوّة لا كلام، وحين يقول لا تخف يكون الخوف قد ولّى وهرب.
«لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ».. فهي على ما عهدتَها من الطُّهر والنقاء. بل زادت بحلول الكلمة في أحشائها على نقاء السماء، وارتفعَتْ أعلى من الشاروبيم. كشف رئيس الملائكة ليوسف البار كَنَهَ السّرّ الأقدس من جهة ما رآه يوسف ظاهرًا. إنّ الحَبَل المقدّس هو من الروح القدس، فالجنين في بطنها هو من الروح القدس ومن العذراء، هو الكلمة صار جسدًا «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». فيوسف ظاهريًّا دُعِيَ أبًا ليسوع وهو المَنُوط أن يسمّيه، كما هو العُرف المألوف أنّ والد الطفل يسمّيه. لقد صار ليوسف هذا الشرف العظيم، فهو أوّل مَن نادى الاسم المبارك، اسم الخلاص.
لقد أَطلَعَ الملاك القديس يوسف البار على كلّ تدبير التجسُّد الإلهي، وعمَل المسيح الخلاصي وغُفران الخطايا، كلّ هذا في كلماتٍ بسيطة قليلة. وهكذا خضعَتْ نفسُ البار لتدبير الرب الإله، كخضوع القديسة والدة الإله لمّا بشّرها الملاك، واستوضَحَتْ مِنه على قدرِ الإمكان «كَيْفَ يَكُونُ هذَا؟». فلما استوثقَتْ أنّ التدبير الإلهي حاصلٌ، أحنَتْ رأسها مُذعِنَةً في التسليم الكامل بقولها: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ».
في تسليمٍ كامل سكنَتْ أمواج الأفكار وصارت سفينة القديس يوسف في السلام الكامل، بل قُلْ لقد حلّت السماء في بيته وفي قلبه في آنٍ واحد. تحوّل البيت الصغير الذي احتوى غير المُحوَى إلى سماوات العَلِيّ، وسَمعتْ أذان الروح تسبيحات الشاروبيم.
وهكذا صارت بقيّة شهور الحَمْل الإلهي تكتنفها الأسرار التي لا يمكن وصفها. فالأمر يفوق فَهْمَ الملائكة الذين في السموات، فكَم بالحريّ الإنسان؟! ولكننا ننحاز إلى أنّ بساطة الفكر ونقاء الإيمان يجعل الأمر بعيدًا عن ارتباك العقل، إذ أنّ أمور الله يستوعبها البسطاء بدون فحص العقل، الذي في معظم الأحيان يصير مُعطِّلاً ومُفسِدًا لبساطة الإيمان. وهذا يجعلنا نرى أنّ القديس يوسف البار استوعَبَ ببساطة الإيمان ما بشّره به الملاك في الرؤيا. وهكذا صار في روح التصديق والفرح واستقبال الحدث الأجَلَّ بنفسٍ تغمرها أنوار الميلاد العجيب.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس

عدد الزيارات 484

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل