شخصيات الكتاب المقدس زربابل

13 يناير 2022
Large image

زربابل
" هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلا لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود " زك 4: 6 "
مقدمة
أغلب الظن أن « زربابل » عندى عاد من السبى، كانت روحه أقرب الناس إلى روح ذلك المرسل، الذي جلس مع اثنين من زملائه وقد استولى عليه اليأس العميق، إذ كان كل شئ ضدهم، وكانت الظروف المحيطة بهم لا توحى بأدنى رجاء، فالعمل قاس والصعاب جسيمة، والمعونات المنظورة لا يكاد يبين لها أثر على الإطلاق،... وصاح المرسل نحن هنا أصفار، ولا أمل لنا على الإطلاق،... وقال زميله: كلا، بل نحن هنا ألف، لو أحسنا الرؤية،... وقال الآخر ساخراً: وأين هذا الألف الذى تقول عنه!!؟... فقال. نحن حقاً ثلاثة أصفار، ولكن المسيح واحد معنا، يصنع منا ألفاً، إذا وقف إلى جانبنا كثلاثة أصفار نأتى على يمينه،كانت الصعاب فى وجه زربابل، كالجبل العظيم الشامخ الذى يسد عليه كل الطريق، بل يرده إلى ما يشبه المستحيل فى الرسالة الضخمة الموضوعة أمامه،... ولعله زفر مرات كثيرة يائسا، وتمنى ألا يتحرك من مكانه فى السبى على رأس أول مجموعة ترجع منه، فهو، على الأقل، هناك يرى الصعاب بعين الخيال دون الواقع المرير الذى يواجهه فى أورشليم، ودون المسئولية التى ألقيت على كتفيه ليحملها فى قيادة الأمة، وبناء الهيكل،.. وإذا بكلمة اللّه تأتى إليه، وتؤكد المعونة التى التى حسبها تتخلى عنه - بين حجرى الأساس والزاوية أو - فى لغة أخرى - بين ابتداء العمل ونهايته،... وانتصبت روح الرجل البائس وانتصبت معه كل روح تواجه عمل اللّه الجبار فى كل العصور، وهى تسمع كلمة الرب يسوع المسيح وهو يقول لتلاميذه: « ليكن لكم إيمان باللّه لأنى الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح فى البحر ولا يشك فى قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له » " مر 11: 22 و23 "ولعلنا بعد ذلك يمكن أن نتابع قصة زربابل فيما يلى:
زربابل والعمل الجبار
لم يعد المسبيون من السبى دفعة واحدة إلى أورشليم، بل انقضت خمسون سنة تقريباً بين الفوج الأول والفوج الثانى من العائدين، فعندما أذن لهم كورش الفارسى بالرحيل، رجع نحو خمسين ألفا منهم تحت قيادة زربابل عام 536 ق.م. ومن الملاحظ أن المسبين لم يكن شغلهم الشاغل عند عودتهم، هو بناء بيوتهم ودورهم، أو غرس كرومهم وحدائقهم، بل كان أولا وقبل كل شئ بناء مذبح اللّه، أو بمعنى آخر، إن التفكير الدينى عندهم كان سابقاً على التفكير الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى، وقد بدأوا فى إقامة المذبح حال وصولهم، وقدموا التقدمات والمحرقات، وعيدوا الأعياد وحافظوا على الطقوس والفرائض التى أمر بها موسى وفى العام التالى وضعوا أساس هيكل اللّه وتاريخ زربابل يرتبط أولا وقبل كل شئ ببناء الهيكل، ونحن لا نسمع عنه، كقائد لأمته وشعبه، أية أفكار أو ميول أو اتجاهات أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكننا نسمع فقط عن علاقته بهيكل أورشليم واهتمامه ببنائه وإعادة العبادة فيه. ولعل قصة السبى نفسها كانت أعمق المواعظ فى نفسه، وأبعدها أثراً،... فالسبى لم يحدث للشعب بسبب أحداث أو حوادث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية - كضعف البلاد أو قلة سكانها أو عدم تسلحها أو ما إلى ذلك من الأسباب التى قد تكون هناك ويؤمن العالم أنها السر الأول والأخير فى انهيار المالك وسقوطها وزوالها - لكن السبب - على الدوام - أعمق كثيراً من ذلك، فهو الخطية والبعد عن اللّه، وستسقط أعظم الممالك وأقواها، يوم تبتعد عن السيد، أو تنحرف نحو الآثم والخطية.. كلنا يعلم من هو أرثر بلفور السياسى الانجليزى المشهور، صاحب وعد بلفور،... لقد ألقى هذا الرجل ذات يوم فى جامعة أدنبرة محاضرة عن « القيم الأدبية التى تعمل على توحيد الجنس البشرى » وكان بين المستمعين طالب يابانى، أخذ ينصت بكل إصغاء وتأمل إلى المحاضر، كما كان يدون فى مفكرته كل ما يسترعى انتباهه من النقط الرئيسية البارزة فى المحاضرة،... وبعد أن انتهى بلفور من إلقاء محاضرته، دوت القاعة بتصفيق حاد، إعجاباً بالمحاضر الذى تحدث فى إسهاب ودقة عن الروابط المختلفة التى تربط العالم، والمصالح المتشابكة فيه، كالعلم والتجارة والصناعة، وما أشبه وبعد فترة من الصمت وقف المشرف على الاجتماع ليشكر المحاضر على محاضراته، ولكنه قبل أن ينطق بكلمة واحدة وقف الشاب اليابانى، وصاح بصوت واضح مسموع. ولكن يامستر بلفور... أين يسوع المسيح!!؟ وران على القاعدة صمت بليغ، حتى ليسمع فيها وقع سقوط الإبرة، إذ كانت العبارة شديدة الوقوع على الجميع، وعلى مستر بلفور أيضاً، إذ كيف لا يشير رجل لعب دوراً هاماً فى تاريخ الإمبراطورية البريطانية، التى قيل إن الشمس لا تغرب عن ممتلكاتها، إلى المسيح كالركن الأعظم والأول فى بناء الجنس البشرى؟!،.. لم يعش بلفور، ليرى كيف تقلصت بريطانيا، وهوت من مجدها العظيم، رغم قوتها وثرائها وسيطرتها، لأنها أهملت الاتجاه الدينى الذى ساد فى أعظم وأزهى عصورها!!..
كان الهيكل أهم شئ فى أورشليم بالنسبة للأمة، فى حاضرها ومستقبلها وكان على المسبين جميعاً، الذين عادوا من السبى، أن يدركوا هذه الحقيقة، ولا يتغافلوا عنها،... وقد تحدث زكريا النبى، وكان شاباً فى ذلك الوقت، فى رؤياه عنها إذ قال: «فرجع الملاك الذى كلمنى وأيقظنى كرجل أوقظ من نومه، وقال لى ماذا ترى؟ فقلت قد نظرت وإذا بمنارة كلها ذهب وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره » " زك 4: 1 - 3 ".. كان على زكريا أن يستيقظ تماماً إلى حقيقة المنارة التى تغذيها شجرتا الزيتون بالزيت، لتبقى سرجها دائماً موقدة تعطى النور... وهذا يقودنا، فى الرؤيا الممتدة، إلى السبع المنابر الذهبية فى سفر الرويا، بل يقودنا إلى المسيحية كلها كنور للعالم، وحاجة البشرية إلى هذا النور العظيم ليهديها سواء السبيل. قال الجنرال عمر برادلى الذي كان من أبرز القواد الذين ظهروا فى الحرب العالمية الثانية، ومن أكثرهم صلة باللّه، وهو ينظر بحزن إلى العالم: « عندنا كثيرون من رجال اللّه،.. ولكننا تطلعنا لبحث أسرار الذرة ونسينا الموعظة على الجبل،.. وها الإنسان يتعثر فى الظلام الروحى الدامس، وهو يعبث بأثمن أسرار الحياة والموت،... ولقد حصل العالم على نور دون حكمة، وعلى قوة دون ضمير،.. ونحن نعلم عن الحرب أكثر مما نعلم عن الحياة، وعالمنا عالم جبابرة المادة، وأطفال االمبادئ والأخلاق » وفى الحقيقة، إن السبى لم يكن مجرد عقاب من اللّه للخطية أو انتقام من شعبه، بل إنه فى الواقع، كان عدالة من اللّه تنتهى إلى الرحمة، إذ هى عدالة الأب الذي يؤدب أبناءه ليرحمهم مما يتهددهم من المآسى والتعاسات التى يمكن أن يحصدوها من وراء حماقاتهم وشرورهم وخطاياهم. ولقد حدد اللّه مدة السبى بسبعين عاماً، لابد أن يقضيها الشعب مشرداً قبل أن ينضج ويعود إلى حياة الحق والبر والقداسة والتكريس، وحذر اللّه المسبيين على لسان إرميا، من الأنبياء العرافين المدعين الكاذبين، الذين يحاولون أن يخدعوهم بالقول إن اللّه سيرجعهم سريعاً إلى بلادهم، وطلب إليهم أن يبنوا بيوتاً، ويغرسوا جنات، ويتزوجوا، ويصلوا لأجل البلاد التى هم فيها إذ أن وقتاً متسعاً لهذا كله لابد أن ينقضى قبل رجوعهم، كما بين لهم أنه سيكون رفيقاً بهم مشفقاً عليهم، إذ سيسمح لهم بألوان سعيدة فى السبى، تجيز لهم أن يفعلوا هذه كلها، وهو يقصد بذلك أن يظلوا محتفظين بإيمانهم وشجاعتهم، وقوميتهم وعقائدهم ودينهم!!... وإذا ظن البعض أن السبى شر مطلق، فإن اللّه يؤكد لهم العكس، إذ أنه سباهم لأنه يفكر فيهم ويحبهم ويقصد لهم آخرة فياضة بالسلام والرجاء، أو كما يقول إرميا: « لأنى عرفت الأفكار التى أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء، فتدعوننى وتذهبون وتصلون إلى فأسمع لكم. وتطلبوننى فتجدوننى إذ تطلبوننى بكل قلبلكم، فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التى طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذى سبيتكم منه ».. " إر 29: 11 - 14 " كل هذه الحقائق كانت ماثلة فى ذهن زربابل بعد عودته، فأدرك أن رسالته الأولى والأخيرة فى قيادة أمته وشعبه، هى جمع الكل حول العودة إلى اللّه والرجوع من سبى الخطية والشر،... وأن الفلاح والنجاح والسعادة جميعها، مرتبطة بمدى نجاحه فى هذا العمل!!..
زربابل والجبل العظيم
لا تكاد تعرف المعنى الدقيق للأسم « زربابل »، وإن كان من المرجح عند البعض أن الاسم يعنى « زرع بابل»، وعلى أية حال، إن هذا الأسم يرتبط ببابل بمعنى مؤلم عميق،... ولعله يكشف أن زربابل، الذى خرج من بابل على رأس العائدين إلى أورشليم، لم تخرج ذكريات بابل من أعماق نفسه أو وجدانه،... لقد علق المسبيون فى بابل أعوادهم على الصفصاف، وهم يبكون عند تذكر مدينتهم الحبيبة، ويفضلون أن يلتصق لسانهم بحنكهم قبل أن يرنموا ترنيمة من ترنيمات صهيون!!.. ولعل زربابل كان يمد بصره إلى بعيد، وكلما امتدت به الرحلة مقترباً من أورشليم كلما يتطلع بشغف إلى مدينة أحلامه وروأه،... وما أن وقف على مشارف المدينة، ورأى خرابها الرهيب، حتى أطلق لنفسه العنان فى البكاء والصراخ،... لقد رأى المدينة أكواماً من تراب، ورأى بقايا أكثر رهبة وأشد هولاً، ألا وهى بقايا هيكل اللّه الذى تحول أنقاضاً وركاماً، تحكى قصة عز دارس، ومجد هوى إلى الرماد والحضيض، ولست أبالغ فى القول: إن عقدة نفسية - لابد - ملأت كيانه باليأس والعجز، وهو يرى قصة بلاده المفجعة من بين الخرائب والأنقاض،.. وهنا بدأ الجبل العظيم يلوح أمام عينيه من اللحظة الأولى، ويتمكن فى وجدانه من أول دقيقة وطأت فيها قدماه أرض أورشليم!... أخذ يقارن بين حال المسبيين فى بابل، وحالهم فى أورشليم، ولعله رأى الفارق البعيد بين الحالين، إذ كان المسبيون فى بابل أشبه بالتين الجيد أذا قورن بالباقين فى أورشليم الذين تحولوا تينا رديئاً عطنا لا يؤكل، كانو قلة مبعثرة ولا قوة لهم ولا رجاء فيهم، ومأساتهم البالغة أنهم تحولوا جماعات تسعى إلى صالحها الفردى أو البيتى، وقد ضرب الهوان عليهم من كل جانب، وهم وصوليون نفعيون، لا هم لهم إلا أن يعيشوا ويأكلوا لأنهم غداً يموتون!!... كانت حياتهم أدنى إلى حياة العبيد الذين خاض ابراهام لنكولن من أجلهم الحرب الأهلية الأمريكية، وكتب لهم وثيقة التحرير، وعندما أعلن ذلك لزعيمهم فردريك دوجلاس نهض الرجل على قدميه وقال فى تأثير عميق: لقد وهبتهم يا سيدى الحرية ولكنهم يحتاجون إلى سنوات طويلة ليتذوقوها، لأنهم إذا كانوا قد خرجوا من العبودية، فإن العبودية لم تخرج منهم بعد،.. وهذه حقيقة مؤكدة بالنسبة للشعوب المغلوبة على أمرها، والتى جعلت الإسرائيليين الخارجين من مصر يحنون إلى الكرات والثوم والجلوس عند قدور اللحم، مفضلين إياها على الحرية التى كانوا فى الطريق إليها والأخذ بأسبابها!!
كان زربابل فى أورشليم قائداً وحاكماً لشعب قليل فقير مبعثر ذليل،... وإلى جانب هذا كله، كان محاطاً بأعداء أقوياء، كل همهم القضاء على أية محاولة لإنهاض هذا الشعب أو إنها صورة العالم يحيط بالقطيع الصغير، كما تحيط جماعة الذئاب بالحملان التى لاقوة لها أو سلاح تدافع به عن نفسها!! وقد ظهر هذا بوضوح فى قصة زربابل عند بناء الهيكل، إذ أن زربابل بادر ببناء المذبح ليوقد الشعب عليه الذبائح، وعندما شرع فى بناء الهيكل وجد أمامه شعباً ضائعاً لا يكاد يقوى على البناء، ووجد أعداء أقوياء يمنعونه من البناء بالتآمر والسلاح،... وضع حجر الأساس، ولم يستطع طوال عشرين عاماً أن يتمم البناء أو يبلغ حجر الزاوية،... وانصبت الصعاب أمامه كالجبل العظيم، الذى يسد عليه السبيل إلى النجاح والصلاح.
زربابل والمعونة الإلهية
أغلب الظن أن زربابل كان يصبح ويمسى، ومنظر الجبل العظيم لا يفارق وجدانه وخياله، ولعله كان يهجس مخاطباً هذا الجيل فى العلن أو فى السريرة، وتحول الجبل إلى عدو عملاق ظاهر يواجهه على الدوام،... ومن ثم جاء صوت اللّه المقابل لهذه الحقيقة مدوياً فى أذنيه على لسان النبى، لقد دخل اللّه المعركة إلى جواره،.. كان زربابل قبل ذلك يواجه الجبل بالرعب والفزع، وأذا به بعد ذلك يواجهه بهتاف الانتصار والتحدى!!... من أنت أيها الجبل العظيم!!؟.. ومن الملاحظ أيضاً أن « الشئ » تحول فى العدو وبالعدو « شخصاً » هائلا مخيفاً يقف أمام زربابل يمكن مخاطبته: « من أنت »!! وحق لروح اللّه فى المؤمن أن يواجه كل مبدأ أو نظام أو قانون أو عقيدة أو دين غير إلهى، أو فساد أو شر متمكن فى الأرض حتى ولو تحول إلى الجبال الرواسى: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟.. وحق لروح اللّه فينا ألا يقلل من الصعوبات الرهيبة التى تحولت بالتاريخ والناس قلاعاً وحصوناً وجبالا عالية شامخة: « من أنت أيها الجبل االعظيم!!؟ »... إن زربابل هنا صورة ورمز للمسيحى فى مواجهة الصعاب والمستحيلات والأعاصير الشيطانية التى تقف تجاهه،... ولذا يمكن أن نقول هذا القول لكل تحديات العصور التى تجابهنا، بصيحة الإيمان القوية: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟ وإذا كان من حق المؤمن أن يوازن بين القوة والمقاومة، وماله وماع ليه، ومن له ومن عليه، فإنه سيجفل فى مبدأ الأمر، لأنه وهو ضئيل وضعيف أمام تراكمات الأجيال التى تحولت جبالا مرتفعة تجاه جهده المحدود، وخطة اليسير، وقدرته الراهنة،. فإن من حقه أيضاً، وهو يتلفت إلى المصدر الأزلى الأبدى يقف إلى جواره، أن يهتف: « من أنت أيها الجبل العظيم »!! إن التأثر بالمنظور هو الذى يحجب عن الإنسان هذه الرؤيا العظيمة!!... عندما تطلع زربابل إلى المال الذى فى يده، والجماعة التى معه،.. والأعداء المتربصين به، فقد الرؤيا التى كان يتعين عليه من البداءة أن يتنبه إليها... لقد خرج من بابل بأمر الرب، بعد انقضاء سبعين سنة عينها الرب لمدة السبى، وهو يرجع إلى بلاده تنفيذاً للوعد الإلهى الذي لا يخيب أو يكذب فمهما كان الجبل عظيماً أمامه من المتاعب والمشاكل المتراكمة، فإن من حقه أن يقول ما قاله الرسول بولس فيما بعد »... « فماذا نقول لهذا... إن كان الرب معنا فمن علينا »!!.. " رو 8: 31 ".فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تعمل معه قوى اللّه منذ اللحظة الأولى؟ ولماذا اعترضته الصعاب المهولة القاسية من أول الأمر عند وضع حجر الأساس!!؟.. ولماذا رأى الجبل العظيم فى شموخه وارتفاعه أمام عينيه!!؟. الحقيقة، إن هذه هى سياسة اللّه الدائمة مع أولاده المؤمنين!!.. إنه دائماً يرفع الجبل أمام عيونهم، ليصغروا فى أنفسهم ويعلموا أنهم لا شئ فى الأساس تجاه المتاعب والمشاكل والصعاب القاسية التى لابد أن تواجههم!! إنه يبلغ بهم أولا إلى النقطة الأولى التى يتعين عليهم أن يعلموها قبل كل صعوبة ومشكلة!!؟ ونعنى بها مشكلتهم أمام نفوسهم، وأنهم عدم بدون المساعدة الإلهية، أو كما قال السيد المسيح لتلاميذه: « بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً » " يو 15: 5 "... وهذا واضح على الدوام فى حياة أبطال اللّه فى كل الأجيال والعصور،... عندما دفع اللّّه موسى ليخرج الشعب من مصر، كان عليه أن يجرده - أولا وقبل كل شئ - من إحساسه بشخصه وذاته وكيانه ولذلك أبقاه فى البرية أربعين عاماً، هى ثلث عمره بالتمام، ليدرك موسى حقيقته وحجمه الصحيح، قبل أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام،.. بل كان عليه، أكثر من ذلك، أن يبلغ به نقطة اليأس الكامل فى مواجهة فرعون، فيزداد الأمر سوءاً أو تزداد الطينة بله كما يقولون، وتثقل العبودية على الشعب: « فرأى مدبرو بنى إسرائىل أنفسهم فى بلية إذ قيل لهم لا تنقصوا من لبنكم أمر كل يوم بيومه وصادفوا موسى وهرون واقفين للقائهم حين خرجوا من لدن فرعون فقالوا لهم: ينظر الرب إليكما ويقضى لأنكما أنتنتما رائحتنا فى عينى فرعون وفى عيون عبيده، حتى تعطيا سيفاً فى أيديهم ليقتلونا، فرجع موسى إلى الرب وقال ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتنى؟ فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك » " خر 5: 19 - 23 " ومن العجيب أن داود الذى واجه الدب والأسد وجليات، كل عليه أن يعيش طريداً فى البرية ليس بينه وبين الموت إلا خطوة، حتى يدرك الحقيقة دائماً أنه أشبه بالبرغوث أو الكلب الميت أو الكيان الضائع حتى تفتقده عناية اللّه ومحبته وإحساناته ورحمته!!.. كان على زربابل أن يموت أولا قبل أن يحيا لمواجهة الجبل العظيم الذى يقف أمامه ويسد عليه كل سبيل إلى التقدم والنجاح »!!..
كان على زربابل فى مواجهة الجبل العظيم أن يدرك أمرين مختلفين أحدهما سلبى، والآخر إيجابى، أما أولاهما فهو أنه: « لا بالقدرة ولا بالقوة »... ومن المعتقد أن الكلمتين مترادفتان، وتشير ان إلى الجهد البشرى المنظور، وإن كانت الفولجاتا قد ترجمت « بالقدرة » إلى « بالجيش ». وقد قيل إن القدرة تشير إلى القوة المتجمعة أو القوى المعنوية، بينما تشير القوة إلى القوة الفردية أو المادية،.. وفى الحقيقة، ليس من السهل الفصل بين مدلول الكلمتين، إذا أنهما تجمعان معاً كل الجهد البشرى المنظور، أو الذى يمكن تصوره، وإن كانت القدرة تتجه إلى المعنويات أكثر من الماديات فنحن نتحدث عن الرجل المقتدر فى إمكانياته العقلية أو الذهنية، أوسعة باعه وعن قوته المادية أو البدنية ومدى ماله من جهد من هذا القبيل.. والفارق على أية حال ليس قاطعاً أو فاصلا، فكثيراً ما تستعمل الكلمة الواحدة منهما مرادفة للأخرى أو بدلا منها،... وليس معنى العبارة كلها أن اللّه لا يستخدم فى عمله القدرة أو القوة البشرية لإنجاز ما يريد أو ما يطلب فى حياة الناس،... فما هذه القدرة أو القوة، إلا الوزنات الموهوبة للبشر، والتى عليهم أن يستثمروها لمجده فى الأرض!!... إنما يريد هنا أن يذكر أن له مطلق الحرية، فى الوصول إلى أغراضه سواء بهذه القدرة أو القوة الخفية، لإتمام أغراضه، فهو فى إخراج الشعب من مصر فعل شيئاً يختلف تماماً عما فعل لإعادتهم من السبى البابلى!!... ففى الخروج من مصر لجأ إلى القوة والقدرة الظاهرتين، عندما غنى الشعب على ضفاف البحر الأحمر: « الفرس وراكبه طرحهما فى البحر »!!.. " خر 15: 1 و21 " لكنه فى عودة المسبيين، لم تكن هناك المعركة الظاهرة بل التأثير الخفى، فهو يؤثر فى قلب كورش أو داريوس، وهو يحول قلوب الملوك كجداول مياه بين يديه!!... وهو فى كل حال الإله القادر على كل شئ!!!... وهو يفعل ذلك مرات كثيرة فى مواكب التاريخ المختلفة ومن ثم حق لأحدهم أن يقول: « لا بالقدرة ولا بالقوة استطاع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح!! ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزاء وينشئ جيش الخلاص العظيم!... ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم - وهو أعزل - نظام الرق، ويطلق القوة التى حررت - آخر الأمر - أربعة ملايين من العبيد... وياله من سجل طويل لأعظم أبطال العالم ممن يستعرضهم الذهن، وممن لم يستندوا فى شئ إلى قوة بشرية، بل استندوا على قوة روح اللّه رب الجنود فصنعوا الخوارق والمعجزات!!... لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج فى تسليح الفلاحين فى هولندا والفلاندرز للثورة ضد طغيان الملك فيليب والفا الدموية.. لقد أدهشت هذه الشجاعة الملك الأسبانى، حتى أنه تساءل عمن يمكن أن يكون من وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك، فكان له جواب وليم الشجاع: « إنك تسألنى عما إذا كنت قد دخلت فى حلف رسمى مع قوة أجنبية، ألا فاعلم بأنى قبل أن أحمل على عاتقى قضية هذه الولايات المنكوبة، قد دخلت فى الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب »... ترى، هل نستطيع أن نواجه جبال مشاكلنا، كما وقف زربابل أمام الجبل العظيم العاتى المرتفع قديماً؟!!..
زربابل والضمان الإلهى
وقد ظهر هذا الضمان فى الوعد العظيم المجيد، إن يد زربابل التى وضعت حجر الأساس، هى هى التى ستضع حجر الزاوية مع الهتاف الكريم بالنصر، ولست أعلم كم كان سن زربابل عندما بدأ حجر الأساس، لكنه وقد أوقف العمل، ومرت سنوات عديدة، كان يخشى أن ينطوى عمره قبل أن يضع اللمسة الأخيرة فى بيت اللّه، حجر الزاوية،... وما أجمل أن يسمع بأنه سيبقى حتى يتم العمل، وتراه عيناه، ويسمع الهتاف المدوى بالانتصار على كل العقبات والصعاب والمشكلات التى اعترضت طريقه، ووقفت أمامه كالجبل الشامخ المرتفع العظيم،... ومن اللازم ألا نقف عند شخص زربابل، بل نرى فيه رمزاً للمسيح مخلص العالم، الذي لا يترك عملا قبل أن يقول « قد أكمل »،.. " يو 19: 30 ". فهو الخالق الذي به كل شئ كان وبغيره لم يكن شئ مما كان!!.. ولم ينته من عمل الخليقة حتى « ترنمت كواكب الصبح، وهتف جميع بنى اللّه » " أيوب 38: 7 ".. وهو فى الفداء يفعل الشئ نفسه، ولم يتركه قبل أن يقول على الصليب « قد أكمل، وهو هو الذى خرج فى موكب العصور « ليجمع أبناء اللّه المتفرقين إلى واحد، " يو 11: 52 " ولن يكل أو يعيا « حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم » " مت 12: 20 و21 "« قال اللّه: « إن يدى زربابل قد أسستا هذا البيت فيداه تتمانه » " زك 4: 8 ".. ورجل اللّه قائم حتى يتمم الرسالة الموضوعة عليه فى الأرض، ومع أن عمل اللّه فى العادة يترك اللآتين مجالا للخدمة، إلا أن اللّه أراد أن يعطى زربابل الضمان المؤكد بأنه لن ينتهى من قصته الأرضية، قبل إتمام العمل الضخم العظيم الجبار!!.. ولعله سعد كثيراً بهذه النبوة وانتعشت روحه وانتصب على قدميه، رغم ضآلة البداءة التى بدأ بها!!.. هل أمسك فى الخطوات الأولى من العمل بالزيج الذى يستخدمه البناء فى قياس استقامة الجدار وهو يرتفع؟،.... وهتف به الهاجس، هل سيحيا ويعيش حتى يرى النهاية فى حجر الزاوية الأخير!!؟ وأكد له اللّه ضمان النهاية من الابتداء!!؟...

يعتقد الكثيرون أن زربابل رأى فى يوم الابتداء من يهزأ به ويسخر، ويوم الابتداء، فى العادة، هو يوم الأمور الصغيرة، يوم الزارع يزرع البذار فى الأرض، يوم البانى يبنى الأساس الذى يغطيه التراب،... يوم المخترع حين لا يكون الاختراع، فى خطواته الأولى، سوى محاولات تتأرجح بين النجاح والفشل، يوم المتعلم وهو يقف على أعقاب الدراسة، قبل أن يضرب فى خضم البحر الغزير بحر العلم الواسع العميق الممتد،... يوم الطفل حين يحبو قبل أن يصبح شاباً أو بطلا فى مستقبل الأيام والتاريخ!!. هذا اليوم قد يزدرى به الكثيرون،... ولكن اللّه لا يمكن أن يزدرى به بل أعين اللّه السبع تفرح بالعمل فيه: « لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة فتفرح أولئك السبع ويرون الزيج بيد زربابل، إنما هى أعين الرب الجائلة فى الأرض كلها » " زك 4: 10 ".أدنى الشاب إلى أذنه بذرة من بذار شجرة البلوط، وتخيل نفسه وهو يتحدث معها، ويسمعها وهى تقول له: « يوماً ما ستأتى الطيور وتبنى أعشاشها فى، ويوماً ما سأكون ملجأ للمحتمين بى عندما يستظلون بظلى ويوماً ما سأكون ألواحاً قوية توضع فى سفينة كبيرة، من عابرات البحار، وسأهزأ من ضربات الأمواج، وأنا أنقل الناس من قارة إلى أخرى ».. وما أن سمعت هذا - قال المتحدث - حتى صحت أيتها البذرة الحقيرة أتفعلين كل هذا؟!! أجابت: « نعم.. اللّه وأنا نفعل كل هذا ».. عندما أراد اللّه أن يغير تاريخ العالم كله، أرسل اللّه ابنه مولوداً ن امرأة، مولوداً تحت الناموس،... أرسل اللّه وليد بيت لحم بين الناس!!.ما أسعد زربابل عندما خلف وراءه قصة الجبل العظيم الذى أضحى سهلا، واستمع إلى الهتاف المدوى فى يوم حجر الزاوية كالهتاف الذى سمعه منذ سنوات عديدة عند وضع حجر الأساس،!!.. وعتد بين الخالدين من الرجال، لأن رسالته كانت فى قوامها الصحيح إنهاض أمة، وإقامة شعب، بهذا الشئ الواحد، ببناء بيت اللّه فى أورشليم!!

عدد الزيارات 534

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل