مقاييس الخدمة ونجاحها ج1

29 يونيو 2022
Large image

إن مقاييس الله غير مقاييس الناس. الله هو فاحص القلوب والكلى، والعارف بحقائق الأمر. هو الذي يستطيع أن يقيّم خدمة كل أحد. ويعرف مدى فاعلية الخدمة أو روتينيتها. حقيقة الخدمة أو مظهرها.. ولاشك أننا في الأبدية سنجد أمورًا عجيبة ما كنا نتخيلها إطلاقًا.ربما نرى في الأبدية خدامًا ما كنا نسمع عنهم!! وربما بعض الخدام الظاهرين الآن، لا نراهم هناك!!
حقًا إن مقاييسنا في تقييم الخدمة غير مقاييس الله.. وهنا نريد أن نفحص ما هي مقاييس الناس في نجاح الخدمة، وما حكم الله عليها. وندرس ما هي المقاييس الخاطئة، وما هي المقاييس السليمة.
1- مقدار المسئولية
يقيس الناس الخدمة بحجم المسئوليات الملقاة على الخادم، بينما الله له مقياس مختلف.خذوا مثلًا إسطفانوس أول الشمامسة.إنه مجرد شماس، لم ينل رتبة أعلى من ذلك. فهل نقيس خدمته برتبته؟! كلا، بلا شك. فإن الكنيسة المقدسة تضع اسمه في مجمع القديسين قبل جميع البطاركة. وتقاس خدمتها بعمقها. وكيف أنه كان مملوءًا من الروح القدس والحكمة والإيمان (أع6: 3، 5). "وإذ كان مملوءًا إيمانًا وقوة، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب" (أع6: 8).ووقف أمام ثلاثة مجامع وأمام الذين من كيليكيا وآسيا، يحاورونه "ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع6: 10). لهذا رأينا أنه بعد وضع اليد عليه كشماس "كانت كلمة الله تنموا، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم، وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان" (أع6: 7). هكذا كانت خدمة هذا الشماس وفاعليتها، حتى أن اليهود لم يحتملوا خدمته، فقبضوا عليه ورجموه. وفي رجمه رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله" (أع7: 56). "ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك" (أع6:5).
إن الإنسان في خدمته أمام الله، يوزن مجردًا من صفاته الخارجية ووظائفه. فيوزن في عمق عمله، وفي عمق قلبه، وفي قيمة خدمته.خذوا مثالًا آخر: القديس مارأفرام السرياني وما قام به من جهد كبير في الخدمة وفي مقاومة الأريوسية وفي دفاعه عن الإيمان، حتى قبل أن يرسم إغنسطسًا (أي قارئًا) من يد القديس باسيليوس الكبير. هذه الرتبة التي يحصل عليها الآن عشرات الآلاف من خدام مدارس الأحد، والتي كان يرى نفسه غير مستحق لها.ولكن الأغنسطس مارأفرام كان له وزنه الجبار في الكنيسة الجامعة، حتى أسموه "قيثارة الروح القدس" وأسموه الملفان أو "المعلم"، في أشعاره وكتاباته الروحية ذات التأثير أو العمق العجيب أترانا نقيس خدمته برتبة أغنسطس؟! أم بأثره البارز في خدمة الإيمان وفي التعليم، ليس في جيله فقط، وإنما في أجيال عديدة وحتى الآن.خذوا مثالًا آخر: الشماس أثناسيوس في مجمع نيقية المسكوني المقدس.في ذلك الوقت كان مجرد شماس، في أول مجمع مسكوني يضم 318 من الآباء الكبار، بطاركة وأساقفة، يمثلون كنائس العالم كله. ولكن عمله حينذاك لم يكن يقاس برتبته كشماس، وإنما بوقوفه ضد أريوس الهرطوقي، والرد على كل أدلته، في قوة وفي فهم عميق للكتاب والمعنى السليم لنصوصه ودلالاتها اللاهوتية.. حتى أنه -وهو شماس- قام بصياغة قانون الإيمان المسيحي في مجمع نيقية، القانون الذي تؤمن به كل كنائس العالم.. هنا الخدمة لم تكن تقاس بالرتبة، وإنما بأثرها وفاعليتها.مثال آخر هو القديس سمعان الخراز ماذا كانت رتبته؟! لا كاهن، ولا شماس، ولا حتى أغنسطس.. إنما عامل بسيط ربما لا قيمة له في المجمع، ولا وظيفة له في الكنيسة ولكن قيمة خدمته كانت في عمق عمله، وعمق صلواته، وفي إنقاذه الكنيسة كلها بمعجزة نقل الجبل المقطم أيام البابا إبرام بن زرعة وفي حضوره. هنا نوعية الخدمة، وليس علو الرتبة خذوا أيضًا مثال القديس الأنبا رويس.لم يكن أسقفًا ولا قسًا ولا شماسًا، ولم تكن له أية وظيفة رسمية في الكنيسة، ولا أية خدمة معينة. ومع ذلك دعته الكنيسة من آبائها. وكانت له خدمات تظهر يد الله فيها بكل وضوح.
كذلك يمكن أن نذكر: إبراهيم الجوهري.كان علمانيًا، وله وظيفة علمانية في الدولة، أي أنه لم يكن مكرسًا للرب. ومع ذلك كانت له محبته العميقة للكنيسة، وخدماته التي لا يمكن أن تنسى التي قام بها من أجل عمارة الأديرة والكنائس، وفي العناية بالفقراء بأسلوب يضعه في مرتبة الخدام، بل أنه يفوق الكثيرين منهم مثال خارج الكنيسة القبطية هو ميشيل أنجلو. كان فنانًا. لكن خدماته في محيط الأيقونات الكنيسة، سجلت له اسمه في التاريخ وبخاصة في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان. وهنا لا نسأل عن درجته الكنسية أو عن رتبته، إنما عن عمق خدمته. والناس يعرفون ميشيل أنجلو، وربما الملايين لا تعرف اسم البابا الذي عاش أنجلو في أيامه. وإن عرفوا اسمه يقولون إنه البابا المعاصر لميشيل أنجلو..!
نقطة أخرى نذكرها في مقاييس البشر الخاطئة بالنسبة إلى الخدمة، وهي شرف وعظمة المكان.
2- عظمة المكان
قد ينسبون أهمية الخادم إلى أهمية وعظمة المكان الذي يخدم فيه، كأنما خدمته تستمد قدر عظمتها من المكان، وليس من الشخص، ولا من عمق ونوعية الخدمة. والواقع غير ذلك.ومن أمثلة ذلك القديس غريغوريوس النيازينزي. ينتسب إلى بلدة نيازينزا التي صار أسقفًا لها، وربما لا يعرف أحد تحديد مكانها بالضبط، غير أنها كانت إحدى مدن قيصارية كبادوكية التي تتبع للقديس باسيليوس الكبيرغير أن القديس غريغوريوس لم يستمد عظمته وشهرته من عظمة المدينة التي يخدمها، وإنما من شخصيته اللاهوتية ومحاضراته العميقة التي ألقاها عن الثالوث القدوس، حتى أن الكنيسة منحته لقب "الناطق بالإلهيات". إيبارشيته لم تمنحه الشهرة، إنما هو الذي منح الشهرة لبلدة نيازينزا المجهولة بالنسبة إلى الكثيرين.مثله أيضًا القديس أغريغوريوس أسقف نيصص.وهو أخو القديس باسيليوس الكبير. وقد رسمه أخوه على نيصص، التي لا يعرف الكثيرون مكانها. ولكنها ضمن إيبارشية قيصارية كبادوكية. هي بلدة غير مشهورة، الذي سجل اسمها في التاريخ هو أسقفها القديس غريغوريوس، الذي كتب كثيرًا ضد الأريوسيين وله تأملات كثيرة، وكتاب عن التطويبات.لا يقل أحد إذن أن خدمتي فقدت قيمتها لأنها في بلدة صغيرة أو في قرية!! ولو إنني خدمت في مدينة كبيرة، لكان لي شأن آخر!!
إن السيد المسيح ولد في قرية صغيرة هي بيت لحم "الصغرى في يهوذا" (مت2: 6) وانتسب إلى مدينة الناصرة، التي كان يعجب البعض هل يخرج منها شيء صالح!! (يو1: 46). ولكنه مع ذلك أعطي الناصرة شهرة في التاريخ. وكان يدعى "يسوع الناصري" (مت26: 71). وفي نفس الوقت أيضًا منح شهرة لقرية بيت لحم، فصارت مزارًا مقدسًاخدّام آخرون يقيسون (عظمتهم) في الخدمة بطول مدة هذه الخدمة. ويعتبرون هذا نوط تقدير للخدمة!
3- طول مدة الخدمة
البعض يقيس قوة الخادم بطول مدة خدمته. ومن هنا جاء تعبير (الخدام القدامى). وفي الحقيقة ليس هذا مقياسًا سليمًا. فقد يوجد خدّام لهم مدة أقصر من غيرهم، ولكنها أكثر إنتاجًا وأعظم أثرًا.يوحنا المعمدان: خدم سنة أو سنتين بالأكثر. ولكنه استطاع خلال تلك الفترة القصيرة أن يهيئ الطريق أمام الرب، ويعدّ له شعبًا مستعدًا ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته (لو1: 17).والسيد المسيح نفسه كانت خدمة تجسده قصيرة! حوالي ثلاث سنوات وثلث، قال عنها للآب: العمل الذي أعطيته قد أكملته (يو17:4). وقال عنها أيضًا "أنا مجدتك على الأرض".. أتم الفداء، والتعليم، وقدم القدوة، وصحح الأخطاء، وأعاد الصورة الإلهية للناس.البابا كيرلس الرابع، مدة حبريته أقل من 8 سنوات. ومع ذلك منحته الكنيسة عن هذه الفترة لقب (أبو الإصلاح) من أجل عمق الخدمة التي قدمها.ويعوزنا الوقت إن تكلمنا عن بعض الآباء الكهنة القس منسى يوحنا كاهن ملوي مثلًا تنيح وعمره 30 سنة. واستطاع في تلك الفترة أن يقدم آلاف من العظات، وكتاب يسوع المصلوب، وطريق السماء، وتاريخ الكنيسة الذي ألفه وهو شماس. وكان له تأثير روحي واسع النطاق على الرغم من قصر مدة خدمته.والقس أنطونيوس باقي خادم كوينز: وهو أول كاهن أرسلته إلى أمريكا سنة 1972. لم يخدم في أمريكا سوى خمسة أشهر. ولكن خدمته توجت بعبارة قالها له الشعب هناك: لقد عرفنا الرب يوم عرفناك..
الخدمة إذن لا تقاس بطول مدتها، وإنما بعمقها وقد يأتي إنسان إلى كنيسة كضيف ويلقي عظة. وتكون هذه هي كل خدمته في الكنيسة. وتمر سنوات طويلة، والناس لا ينسون تلك العظة وتأثيرها. بينما يخدم غيره في نفس الكنيسة سنوات طويلة يلقون خلالها عظات عديدة، ولكن ليس بنفس التأثير.إن يومًا واحدًا يخدمه بولس الرسول، لهو أعظم وأعمق من سنوات طويلة يخدمها آخرون.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي الجزء الأول
وللحديث بقية

عدد الزيارات 289

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل