الصليب والمسيح

26 سبتمبر 2022
Large image

المسيحية والصليب أمران متلازمان ، وصلوان لا يفترقان فأينما وحينما يرى الصليب مرفوعاً أو معلقاً ، يدرك المرء انه أمام مؤسسة مسيحية ، أو مؤمنين مسيحيين ولا عجب فالصليب هو شعار المسيحية ، بل هو قلبها وعمقها ... لقد تأسست المسيحية على أساس الصليب وبالصليب ... ولا نقصد بالصليب قطعتي الخشب أو المعدن المتعامدتين ، بل نقصد الرب يسوع الذي خلق ومات على الصليب عن حياة البشر جميعاً ، والخلاص الذي أتمه ، وما صحبه من بركات مجانية ، نعم بها البشر قديماً ، ومازالوا ينعمون ، وحتى نهاية الدهر والفكرة الشائعة عن الصليب انه رمز للضيق والألم والمشقة والاحتمال لكن للصليب وجهين : وجه يعبر عن الفرح ، ووجه يعبر عن الألم . ونقصد بالأول ما يتصل بقوة قيامة المسيح ونصرته . ونقصد بالثاني مواجهة الإنسان للضيقات والمشقات ويلزم المؤمن في حياته أن يعيش الوجهين ، ويختبر الحياتين بالنسبة للمؤمن المسيحى ، فإن الصليب بهذه المفاهيم ، هو حياته وقوته وفضيلته ونصرته عليه يبنى إيمانه ، و بقوة من صلب عليه يتشدد .وسط الضيقات وما أكثرها هذا ما عناه القديس بولس الرسول بقوله : « ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع ، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب ، مستهينا بالخزى .فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه ، لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم » ( عبرانيين ۱۲ : ۲ ، ۳ ) . ، ملايين المؤمنين في انحاء العالم عبر الأجيال حملوا الصليب بحب وفرح ، واكملوا مسيرة طريق الجلجثة ، فاستأهلوا افراح القيامة ... هذا بينما عثر البعض في الصليب ، وآخرون رفضوا حمله ، فألقوه عنهم . . ولم يكن مسلك هؤلاء وأولئك سوى موتاً إيمانياً وروحياً لهم « نحن نكرز بالمسيح مصلوباً ، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة . وأما للمدعوين يهوداً و يونانيين ، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله » ( كورنثوس الأولى ١: ۲۳ ، ٢٤).
لماذا الصليب ؟ صليب المسيح هو محور المسيحية وقلبها وعمقها . حوله يدور كل فكر العهد الجديد ، وفيه يرتكز كل غنى الإنجيل ومجده . إنه رمز المسيحية وشعارها ومجدها ... و بقدر ما ينكر الملحدون وغير المؤمنين صفته الكفارية ، فإن المؤمنين المسيحيين يجدون فيه سر النعمة التي يقيمون فيها ، بل ومفتاح أسرار ملكوت السموات . ومجد الصليب والمعروف عن الصليب أنه عار . لكن للصليب مجداً . كعاره تماماً . فالتأمل في عار الصليب ، هو رؤية مجده ... هكذا نفهم كلمات القديس بولس الرسول « إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة . وأما عندنا نحن المختصين فهي قوة الله » ( كورنثوس الأولى 1 : ۱۸ ) . إن الصليب يستمد قوته وكرامته من السيد المسيح الذي لمخلق عليه ... وحينما نتحدث عن الصليب فإنما نشير حتماً إلى موت المسيح . وحينما نذكر موت المسيح فواضح أن صليبه وارد أيضاً فيه . لذا فلا غرابة إن رأينا أسفار العهد الجديد المقدسة تمتلىء بالكلام عن موت المسيح وبالتالي عن الصليب . كان الصليب ومن صلب عليه هو جوهر كرازة الكنيسة الأولى ، وهو الحق الأول والأساس في الإيمان المسيحى ... ولعل كلمات بولس الرسول لمؤمنى كورنثوس تظهر لنا هذا المعنى « فإننى سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً . إن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب . وانه دفن وانه قام في اليوم الثالث حسب الكتب » ( كورنثوس الأولى ١٥: ٣ ، ٤ ) والمعنى ، ان موت المسيح ودفنه وقيامته ، هو الإيمان الذي قبله بولس ، والذي يكرز به . لذا نرى بولس في موضع آخر يقول « لأني لم اعزم أن اعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وآياه مصلوباً » ( كورنثوس الأولى ٢ : ۲) وعلى نحو ما كان المذبح والذبيحة هما حجر الزاوية في عبادة العهد القديم ، كذلك الصليب وموت المسيح الكفارى ، هما حجر زاوية الإيمان في العهد الجديد ... من أجل هذا فإن كل أسفار العهد الجديد تناولت قصة الصليب باستثناء ثلاث رسائل قصيرة هي الرسالة إلى فليمون ، ورسالتا يوحنا الثانية والثالثة . إنه أمر يدعو للدهشة في زماننا أن توجد بشارة مفرحة في صلب إنسان ، تماماً كما حدث حينما بدأ المسيحيون الأوائل يكرزون بالمسيح مصلوباً . . . كيف يكون عملا وحشياً بر برياً ، وضع نهاية مخزية وحزينة لحياة الرب يسوع ، يصبح قوة ونصرة واعلاناً عن محبة الله الفائقة للبشر ؟ ! ... وكيف صار الصليب ـ وهو رمز قديم لوحشية الإنسان . ذا تأثير حضاری واسع ، استطاع أن يغير وجه العالم حينما جدد الخليقة ؟ !
الصليب قديماً في بعض الشعوب :-
هل كان الصليب آلة تعذيب انفرد بها المسيح وخصصت له . أم أنه عرف في بعض الشعوب ؟ غرف الصليب كآلة تعذيب وعقوبة اعدام بين بعض الشعوب ـ غالباً الشرقية ... فلقد محرف عند الفينيقيين . وذكر عن الاسكندر الأكبر انه حكم على ألف شخص من أهالي مدينة صور بالصلب ... ومحرف عند الفرس . فلقد أصدر داريوس أمراً ان كل من يخالف منشور الملك قورش يعلق مصلوباً على خشبة ( عزرا ٦ : ١١ ) . و يظهر الصليب عقوبة أيضاً عند الفرس من قصة هامان ومردخاى ( أستير ٥ : ١٤ ؛ ۷ : ۸ ) ... وصلب انطيوخوس ابيفانس حاكم سوريا يهوداً أتقياء رفضوا الاذعان لأمره بترك دينهم . و يبدو أن هذه العقوبة غرفت بين المصريين القدماء ـ وإن لم ـ تكن شائعة . فحينما فسر يوسف الصديق حلم رئيس الخبازين الذي كان مسجوناً معه في السجن ، قال له « في ثلاثة أيام أيضاً يرفع فرعون رأسك عنك و يعلقك على خشبة وتأكل الطيور لحمك عنك » ( تكوين ٤٠ : ۱۹ )، كما عرفت عقوبة الاعدام صلباً لدى الرومان ، وكانت غالباً قاصرة على العبيد والغرباء . أما المواطنون الأحرار فكانوا لا يعاقبون بها . كانت هذه العقوبة تنفذ في حالة الجرائم الخطيرة كخيانة الدولة وسرقة المعابد والهرب من الجندية .. ويشهد التاريخ أن الرومان خلال ثورات العبيد صلبوا اعداداً كبيرة منهم .. و يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر لخراب أورشليم وهيكلها ، أن تيطس القائد الروماني كان يصلب خمسمائة يهودي كل يوم !! ويبدو أن قصد الرومان من استخدام هذه العقوبة بالذات كان هو تثبيت سلطانهم في الدولة . ويفسر ذلك أن تنفيذ هذه العقوبة كان يتم في مكان مكشوف ، حتى يصبح منظر المحكوم عليه بالصلب رادعاً للآخرين ... وقد ألغى الملك قسطنطين الكبير عقوبة الاعدام صلباً لأسباب دينية . ويبدو أن بني إسرائيل عرفوا هذه العقوبة ، فقد اشير في سفر التثنية إلى ميتة الصليب « إذا كان على إنسان خطية حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة ، فلا تبت جثته على الخشبة ، بل تدفنه في ذلك اليوم . لأن المعلق ملعون من الله . فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً » ( تثنية . ( ۲۲ : ۲۱ ... أما عن الاجراءات الثانوية التي كانت تصاحب عقوبة الصلب ، فيمكن جمع معلومات عنها مما ورد في كتابات كتاب العالم القديم ، ومن القانون الروماني ، والتلمود ، وما ذكره آباء الكنيسة ... في بعض الأحيان كان المحكوم عليه بالصلب كان يحمل حول رقبته لوحة مكتوباً عليها علة موته . وكان عليه أن يحمل بنفسه الصليب إلى مكان تنفيذ حكم الموت . وهناك كان يخلع ملابسه ويجلد إن لم يكن قد تم جلده قبل ذلك . ووفقاً للعادة القديمة كان مسموحاً لمنفذى حكم الصلب أن يتقاسموا ثياب المحكوم عليه فيما بينهم . وفي مكان تنفيذ الصلب ، كان المحكوم عليه يطرح أرضاً ، و يربط معصماه في الخشبة أو يدق فيهما مسامير و يثبتان بالصليب . ثم يرفع الصليب بالمصلوب عليه . كان ارتفاع الصليب نحو سبعة أقدام . وهذا يعني أن الوحوش المفترسة كان في استطاعتها أن تنهش جسد المصلوب وتمزقه ... أما عن موت المصلوب فكان عادة يتم بسبب الاختناق التدريجي والاجهاد المتزايد . وكان التنفس يزداد صعوبة شيئاً فشيئاً ، كنتيجة لوضع الجسم المدلى . وهذا يؤدى بدوره إلى الاختناق . كان وقد حمل الفلاسفة والمفكرون القدماء عقوبة الموت صلباً ... الصلب بالنسبة لشيشيرون ـ الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد ، هو التعبير عن الوحشية والهمجية في أسوأ صورها . يقول [ فليبعد الجلاد وتغطيه الرأس واسم الصليب عن جسم وحياة المواطنين الرومان ، وعن أفكارهم وعيونهم وآذانهم ] .
نيافة مثلث الرحمات الانبا يؤانس أسقف الغربية
عن كتاب المسيحية والصليب

عدد الزيارات 307

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل