شخصيات الكتاب المقدس يشوع

06 أكتوبر 2022
Large image

يشوع
"موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر الأردن" ( يش 1: 2)
مقدمة
على النصب التذكاري للأخوين يوحنا وتشارلس ويسلي في مقابر وستمنستر في لندن كتبت هذه العبارة: "الله يدفن العاملين.. ويستمر في العمل" وهي عبارة صادقة عظيمة غزيرة المعنى، إذ تبين أن الإنسان يموت، والله يبقى، وأن العالم يسقط من القائد ليتسلمه آخر،.. لأن الله هو العلم الحقيقي الذي يظلل جميع أعلام الأرض "يهوه نسى أو الرب رايتي، كان موسى من الرجال الذين يصح تجاوزاً أن يدعوا "فلتات" في العصور كلها، إذ ليس في كل التاريخ من يمكن أن يرتقي إلى مثاله، سوى أعداد ربما لا تعد على أصابع اليد الواحدة، وصعد موسى على رأس الفسجة، ومات هناك بقبلة من الله، كما ألف التقليد اليهودي أن يقول، ودفنه الله، ولم يعلم قبره حتى اليوم، لأن مكانه الحقيقي كان في السماء، ولئلا يتحول قبره إلى مزار يتجه إليه الإسرائيليون، ويعبدونه، كما عبدوا من قبل العجل الذهبي الذي حطمه وذراه على وجه المياه، ليبقى وجه الله وحده المعبود الذي لا يعبد سواه!!.. مات موسى وحل مكانه يشوع -على الفارق بين الشخصيتين أو المهمتين، مات عملاق التاريخ، وحل محله الثاني- وإن لم يستطع أن يتطاول إلى ارتفاعه ومقامه- وكان إلى جانبه كما يبدو الظل إلى جانب الحقيقة،.. لكن كليهما في الواقع كان ظلاً باهتاً للآتي فيما بعد، الذي قال عنه موسى! "نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون" وقال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه لو كان يشوع أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر". كان موسى أو يشوع رمزاً ليسوع المسيح الآتي في ملء الزمن بعدما يقرب من خمسة عشر قرناً من الزمان!!.. وسيدفن الله العاملين وسيستمر هو في عمله الفدائي العظيم، حتى يرث الأرض وما عليها، وتصبح أعمالك كلها للرب ولمسيحه!!.. وسيبقى مؤكداً ما قالته العجوز التي سمعت صارخاً يقول يوم موت يوحنا ويسلي: ماذا نعمل لقد مات ويسلي؟.. وصرخت المرأة في وجهه قائلة! مات ويسلي ولكن الله حي لا يموت!!.. وها نحن اليوم سنتابع الرجل التالي لموسى، الذي سمع القول الإلهي: موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر الأردن!!.. من يكون هذا الرجل؟!! وما رسالته؟!! وما يد الله في هذه الرسالة؟!! وما هو الرمز البعيد لرسالة الأعظم الآتي فيما بعد؟!! هذا هو موضوع بحثنا ودراستنا في دراسة هذه الشخصيات!!..
يشوع المجهز من الله للعمل بعد موسى
كان اسمه في الأصل "هوشع" أو "خلاص" ودعاه موسى "يشوع" أو "خلاص الله" ولد في مصر عبداً في بيت العبودية، ومن نسل يوسف، وسبط إفرايم، وهو الحادي عشر من سلسلة أحفاد يوسف، وكان أبوه "نون" وجده "أليشمع" الذي كان رئيساً لبني إفرايم عند الخروج،.. ومن المؤكد أنه كان فوق العشرين، وربما في الثلاثين من عمره، عندما ترك مصر، إذ كان كما يصفه الكتاب غلام موسى الذي يحرس الخيمة، عندما يتركها الرجل العظيم، وكان هو وزميله كالب بن يفنة اللذين نجوا من الموت، من كل الجيل الذي فوق العشرين الذي سقط في البرية لتمرده وعصيانه على الله!!.. وعلى أي حال لقد جهز الله يشوع في بطن الزمن ليكون الرجل التالي بعد موسى، وكان تجهيز الله له عميقاً وبعيداً، من مطلع الحياة، وربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن عناصر هذا التجهيز بدأت أولاً بالمرارة النفسية العميقة، إذ ولد الصغير وشب ليدرك أنه عبد في مصر، تحكمه كل قواعد العبودية القاسية، وكان وهو يتدرج نحو الشباب، تثور نفسه بثورة عارمة هائلة، وهو يرى السخرية والقسوة ومذلة الشعب، ولا أعلم ماذا أصابه هو شخصياً من هذه كلها، إنما أعلم أن الآلام دائماً تعد النفوس النبيلة لمستقبلها العظيم،.. عندما أبصر ابراهام لنكولن فتاة تباع في سوق النخاسة، وتعرض أمام الناس كما تعرض السائمة، يتزايد عليها المشترون، رأى الإنسانية تباع وتشترى في هذه الفتاة، فآلى على نفسه، أنه إذ واتته الفرصة لابد أن يحرر بلاده من هذه الوصمة، ويضع أكثر من ذلك مسماراً كبيراً في نعش الاستعباد، وقد تم له ما أراد، وإن كان قد دفع حياته ثمناً لهذه الحرية الغالية!!.. فإذا كان الاستعباد هو الذي حرك موسى ليكون محرراً للأمة،.. فإنه كان النخاس القاسي في صدر يشوع حتى لا يقع الشعب مرة أخرى فريسة الذل والألم والتعاسة والشقاء،.. كان رائداً من رواد الحرية، دخل الحرب بأمر الله، وكان مثل "غريبلدي" الذي تستهويه المعارك لا في إيطاليا وحدها، بل في كل مكان يرى فيه الاستعباد جاثماً على صدر الناس،.. لكن المرارة وحدها، لم تجهزه، بل لعله أدرك أنه ينتمي إلى جد عظيم تشرب الكثير من روحه وسيرته، وعندما مات هذا الجد في مصر دفن في تابوت وحنط هناك، وحمل التابوت بكل إجلال وإكرام يوم الخروج من مصر، وحمله سبط إفرايم الرحلة كلها، ولعل الشاب يشوع كان يأتي بين الحين والإخر، ليرى التابوت، والرجل المسجى فيه، والتاريخ العظيم لهذا الجد القديم، التاريخ الحافل بأروع السير وأمجد الذكريات، ولعل يشوع وقف مرات متعددة، وهو يعاود معنى الحياة وقصتها، ومغزاها، في هدوء الصحراء وعزلتها، وفي أعماق الليل، حيث تلمع فوقه النجوم وتضيء، ويتذكر يوسف في إيمانه وحياته ووداعته ورسالته، وهو يأمل أن يكون بصورة ما امتداد لهذه القصة العظيمة، وبالأسلوب الذي يريده الله أن يكون،.. في الحقيقة إنه شيء مجيد أن يعود الإنسان في رحلة الحياة إلى ذكريات أبائه وأجداده، والتاريخ البعيد القديم إن كان من حظه أن يكون له مثل هذا التاريخ، ليقول مع بولس: "الله الذي أعبده من أجدادي". ولعله من حظ كل إنسان سعيد أن يسير على الدرب الطويل لآبائه وأجداده، فمن أعطاهم الله مثل هؤلاء الآباء والأجداد، كالركابيين الذين رفعوا رؤوسهم أمام إرميا النبي، قائلين بكل نشوة وفخر: "فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به".. كانت عظام يوسف تتحدث في صمت طوال الطريق إلى يشوع بن نون ابنه!!.. على أن الأمر مع ذلك كان أكثر عنده، إذ كانت هناك صحبة موسى العملاقة، كان يشوع محظوظاً جداً، إذ عاش في صحبة موسى، وفي خدمته، وكانت العلاقة بين الاثنين من أسمى وأعمق وأرقى وأوفى العلاقات على الإطلاق، فموسى أحبه كنفسه وكان دائماً أقرب إلى قلبه من أي شخص آخر، حتى ولو كان هذا الشخص جرشوم وأليعازر ابنيه،.. وكان الغلام يغار لموسى غيرة عظيمة، إذ كان هو الوفاء مجسماً لأبيه الروحي العظيم، وعندما أبصر اليداد وميداد يتنبآن في المحلة، طلب من موسى أن يردعهما، إذ لا يجوز لأحد أن يرتفع إلى مقام القائد العظيم، ورد عليه موسى قائلاً: أتغار أنت لي، دعهما يتنبآ، ويا ليت شعب الرب كله أنبياء،.. وما من شك بأن هذه الصحبة التي عاشت إلى آخر حياة موسى، طبعت يشوع بأقوى الانطباعات وأسماها، وأن الشاب إذ كان قد أخذ من ذكريات يوسف جده الكثير فإنه أخذ الأكثر من الصحبة الرائعة لموسى معلمه وأستاذه!!.. وكان يشوع مجهزاً بالتقوى العميقة، بالتقوى التي صاحبته إلى آخر عمره، في مطلع حياته وفي نشوة الصبا، وحلاوة الأيام، قيل عنه: "وإذا رجع موسى إلى المحلة كان يشوع بن نون لا يبرح من داخل الخيمة".. وفي خيام الحياة، وهو يواجه الشعب، قال قوله العظيم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون.. أما أنا وبيتي فنعبد الرب".. كان قلبه عامراً بالحب الإلهي، والله في العادة عندما يختار العاملين ينظر: "ليس كما ينظر الإنسان لأن الإنسان ينظر إلى العيني وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. وعندما نظر إلى القلوب، لم ير هناك قلباً بعد موسى أصلح لقيادة الشعب من قلب يشوع بن نون!!.. وكان يشوع مؤمناً، وهو من ذلك النوع من المؤمنين الذين لا يبالون بالعدد الذي يمكن أن يقف إلى جوارهم، فسواء وقفوا منفردين، أو وقف إلى جانبهم الجمهور الغفير، فإنهم يحملون ذات الإيمان دون تراجع أو رهبة أو تزعزع، بل إنه من ذلك النوع من المؤمنين الذين يرون كل شيء في ضوء الإيمان، فإذا واجهوا العمالقة بعين الإيمان، فهم في نظرهم أقزام، في الوقت الذي يراهم الغير بالعين المادية، وكأنهم أكثر طولاً، وكأن نفوسهم في الوقت عينه أحقر قدراً وأضأل شأناً!!.. وقد أضاف يشوع إلى الإيمان، اختباره في الحياة والمعارك، لقد خرج من مصر مزوداً بمعجزات الإيمان العظيم، ولقد عبر في البحر الأحمر، وهو يرى المعجزة الكبيرة، وكان كل يوم يلتقط المن المرسل من السماء، وكان يرى المياه تتفجر من الصوان في الصحراء!!.. ولم يقف الأمر عند هذا، بل دفعه موسى في صدر الشباب إلى قيادة المعركة مع عماليق، وذهب الشاب، وحارب العمالقة ورأى السند الإلهي، في عصا موسى المرتفعة، فهو يغلب إذا ارتفعت العصا، وهو يهزم إذا كلت ذراع موسى عن رفعها، وهو يتعلم من هذا كله كم يفعل الإيمان في حياتنا، عندما نؤمن بإله عظيم!!.. وقد كان ليشوع الشجاعة الخارقة التي استندت إلى الإيمان العميق، فإذا كان من مشيئة الله أن يعيش طوال عمره محارباً،.. فإن حربه دائماً ترتكز على الثقة والإيمان بالله!!..
كانت نعمة هذا الإنسان مع كل هذه الوداعة الهائلة، فهو خادم لموسى مخلص غيور وديع متضع، لا يكاد يرى نفسه أهلاً أن ينحني ويحل سيور حذاء قائده العظيم، وأنت لا تسمع منه فخرآً بالانتصار على عماليق، ولا ترى منه مكاناً إلا حيث يأمره موسى، أو حيث يجلس في خيمة الاجتماع دون أن يبارحها وكأنما يستمع إلى صوت من موسى يأتي بعد خمسة عشر قرناً من الزمان: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم!!. كان يشوع بن نون الشاب المجهز بالتواضع لخدمته العظيمة!!.
يشوع البديل لموسى
وهل يمكن أن يكون هناك بديل لموسى؟ وهل يمكن أن يرفع أحد قامته إلى مستوى قامة موسى؟.. إن موسى فلتة من فلتات الدهر، وقد لا يجد التاريخ في أي سبط من أسباط إسرائيل من يجوز أن يقف إلى جواره، أو يصبح له نداً، إلا واحد من سبط بنيامين سيأتي بعد أربعة عشر قرناً من الزمان، هو شاول الطرسوسي،.. مثل موسى وبولس من أندر الشخصيات التي تخرج إلى معالم الحياة، لتقف وراء ذاك الذي ولد والرئاسة على كتفيه،.. في الحقيقة إن موسى بهذا المعنى ليس له بديل، فهو وحده رجل الشريعة، وهو رجل العبور، وهو الرجل الذي قاد الشعب بحنكة وفطنة ليس لهما ضريب أو مثيل!!.. لكن موسى قد مات، فهل يمكن أن يكون هناك بديل؟!!.. هذه الظاهرة العجيبة نجدها على الدوام في شتى الصور وكافة المجالات أو الميادين، فإنك لن تجد مثيلاً لهوميرس الشاعر الإغريقي، أو شكسبير عند الإنجليز، أو جوته عند الألمان، ولن تجد ضريباً لدانتي والكوميديا الإلهية، وملتون والفردوس المفقود والمردود،.. وفي عالم النحت أو التصوير لن تجد مثيلاً لميشيل أنجلو أو رفائيل، أو هولمان هانت، وفي عالم الموسيقى قد لا تجد كثيراً على مختلف العصور مثل بيتهوفن وموزار وهاندل وغيرهم من العمالقة بين الناس.. وفي الكنيسة لم تجد العصور الأولى من حل محل بطرس ويعقوب ويوحنا، ومهما كان تقديرنا لأغناطيوس وبوليكاربوس وهرمس وأكلمندس،.. فإنهم لا يمكن أن يرتقوا إلى مركز التلاميذ العظام الذين بذروا بذرة المسيحية وراء يسوع المسيح. ومن النادر حقاً أن ترى أوغسطينس، وتوما الأكويني، ولوثر، وملانكثون، وكلفن، وچون فوكس، ويوحنا ويسلي، فهم لا يظهرون إلا لماما مع القرون أو الأجيال!!.. ومع ذلك يأتي السؤال: هل تقف القافلة أو يتوقف الركب، عندما يقال: "موسى عبدي قد مات؟".. كلا وإلى الأبد كلا،.. فموسى في أفضل حالاته، ليس إلا عصا بيد الله، وإذا سقط العلم، فسيأتي آخر بملكات أخرى، وبمواهب أخرى وبوزنات أخرى، لعمل يختلف تماماً عن عمل موسى ورسالته،.. وسيقول الله لمن يأتي: قم اعبر الأردن الآن!!...
إن البديل هنا -وللأسف- لم يكن ابني موسى، أو واحداً منهما، بل كان يشوع بن نون،.. إن عمل الله لا يمكن أن يؤخذ بالوراثة، كما أن أولاد الأبطال قد لا يكونون بالضرورة مثل آبائهم، وقد تخلف النار رماد كما يقولون.. وقد يخلف صموئيل النبي العف النبيل، من لا يسير وراءه من أبنائه في ذات المنهج والسلوك والاتجاه،.. ولعل موسى كان خفيض الرأس من هذا الجانب، ولعله كان يتمنى أن واحداً من ولديه يرتفع إلى مستوى الزعامة والقيادة، دونه أن يصبح نكرة أو مجهولاً بين الناس،.. ومع أنها النعمة وحدها هي التي تفصل بين الأولاد أنفسهم، فتجعل واحداً منهما يعقوب والآخر عيسو،.. إلا أن الكثيرين مع ذلك ما يزالون يسألون: لماذا لا يكون أولاد العظماء، عظماء كآبائهم؟! وعلى من تقع التبعة من هذا القبيل، هل تقع على الأب؟ وهل كان موسى مزدحماً بالعمل إلى الدرجة التي لم يعط فيها وقتاً لولديه ليتدربا على القيادة والزعامة؟ أم أن الأم صفورة كانت هي السبب، إذ لم تملأ الفراغ الذي تركه في البيت ازدحام موسى في الخارج بحياة الشعب ومشاكله؟؟ وهل لم تدرك صفورة التي أنقذت موسى عندما لم يختن ابنه الثاني في يوم السفر، إذ كان مزدحماً بالعمل، وافتدته صفورة إذ قامت بعملية الختان لولدها،.. هل لم تستطع صفورة، وقد تعلمت من هذا درساً أن تختن قلب ولديها ليصبحا قائدين عظيمين في إسرائيل؟؟ على أي حال إن الخدمة الدينية لا تورث، وموسى يؤمر وقد أوشكت أيامه على الانتهاء أن يأخذ "يشوع بن نون رجلاً فيه روح وضع يدك عليه".. ويفعل موسى، ويعبر البديل عن ولديه إلى ابنه بالروح المعين من قبل الله!!..
إن البديل قد يختلف عقلاً وأسلوباً عن الذي يأخذ مكانه، ولكنه لابد أن يكون من روحه في الأمانة والغيرة والحب لخدمة الله والتفاني فيها،.. ولابد للبديل -قبل غيره- أن يتأكد أنه لم يأخذ الخدمة استحساناً أو بمشيئة إنسان، بل من الله رأساً، وهو سيستريح ويسعد ويقوى وينتصر، طالما تأكد أنها دعوة الله العليا التي عليه ألا يتردد في قبولها، مهما كانت جبال المشكلات والصعاب أمامه: "لأنه من أنت أيها الجبل العظيم، أمام زربابل تصير سهلاً".. لأنه سيأخذ الضمان الإلهي من الله، الذي كما سار مع موسى سيسير مع يشوع أيضاً!!.. وسيجد الله البديل، وسيمكنه من الخدمة الناجحة، وسيسانده بالصورة العظيمة التي تواجه مشاكل الخدمة المعقدة، ولن يلتفت الناس إلى موسى أو يشوع بقدر ما يلتفتون إلى صانعهما كليهما للخدمة التي سبق فأعدها لهما!!..
ولن نقف هنا قليلاً إلا لنحني الرأس إجلالاً لموسى، الذي -وقد اقترب من النهاية- كان مشغولاً بالبديل: "وقال الرب لموسى اصعد إلى جبل عباريم وانظر الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل ومتى نظرتها تضم إلى قومك أنت أيضاً كما ضم هرون أخوك لأنكما في برية صين عندما مخاصمة الجماعة عصيتما قولي أن تقدساني بالماء أمام أعينهم ذلك ماء مريبة قادش في برية صين فكلم موسى الرب قائلاً: "ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم ويدخلهم لكي لا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها".. ومن حقنا أ ن نحيي موسى هنا، الذي لم ير نفسه فرداً لا نظير له، بل تمنى آخر يملأ الفراغ الذي يوشك أن يتركه!!.. إنه أشبه بخادم عظيم يرعى كنيسة من أكبر الكنائس، وكان مشغولاً بمن يمكن أن يخلفه، وصلى إلى الله، وجاء الله بالخلف، ونظر إليه الشيخ الكبير في سرير المرض، واقترب منه الخادم الجديد فاحتضنه وقبله، ونام هادئاً، لأن الله يأخذ الخدام، ولكنه يبقى الخدمة على الدوام مستمرة!!..
يشوع والسند العظيم
بكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوماً، فكملت أيام بكاء مناحة موسى، ولم يعش يشوع أو الشعب في مناحة على القائد الراحل.. لقد سقط موسى، وذهب العمود الكبير،.. لكن يشوع رأى الأعظم والأمجد، رأى رئيس جند الرب، وخلع يشوع نعله من قدميه لأن الأرض التي يقف عليها أمامه أرضاً مقدسة، لم ير يشوع هذا الرئيس في حياة موسى، ولكنه رآه بعد رحيله،.. لم ير إشعياء رب الجنود إلا في السنة التي توفى فيها عزيا الملك،ولعله من الهام أن نلاحظ أن يشوع في هذه الرؤيا بدأ من الرؤيا التي بدأ منها موسى، إذ أن ملاك الرب الذي ظهر لموسى في العليقة، هو هو بعينه الذي ظهر ليشوع، واستمع يشوع إلى ذات الكلمات التي استمع إليها موسى قال له الله: "اخلع حذاءك من رجليك لأن الأرض التي أنت واقف عليها أرض مقدسة!!.. ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الله لم يأت عند موسى، ويقف أو يتوقف عمله، بل مد يده إلى يشوع أيضاً!!.. ومن اليد التي مدها، نراه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، قد يتغير الناس، ولكنه هو هو لا يتغير: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك كما كنت مع موسى أكون معك لا أهملك ولا أتركك".. وعمل الله لن يصبح بين الناس شيئاً ماضياً فقط، بل لابد أن يصبح حاضراً ومستقبلاً أيضاً، وهذا العمل يتحرك من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، والنعمة الإلهية ستجد دائماً أمامها العمل المناسب الذي ينبغي أن يعمل، والشخص المناسب الذي يمكن أن يكون واسطة هذه النعمة بين الناس،.. إننا ننظر إلى الماضي لا لنتجمد هناك، أو نقرأ قصة لا يجوز أن تتجدد وتتكرر، إن الله إله إبراهيم، هو أيضاً إله اسحق ويعقوب، وإله موسى هو أيضاً إله يشوع وجدعون وصموئيل والأنبياء،.. وإن إله العهد القديم هو هو بعينه إله العهد الجديد، وسيعمل الله طالما كانت هناك قضية منتصبة أمام عينيه، وطالما كان هناك الإنسان الذي يخلع حذاءه توقيراً للرؤيا الإلهية، وهو يرى رئيس جند الرب وقد وقف قبالته وسيفه مسلول في يده! وحقاً إن الله -كما قال أحدهم- لم يفرغ جهده كله مع موسى، بل إن مخازنه مليئة بالنعمة والإحسان والرحمة لمن ينتظر ويستقبل!!.. والدين ليس تراث الماضي أو العمل الذي انتهى مع الأيام!!..
يشوع والمعركة الكبيرة
إذا كانت سياسة الله ثابتة لا تتغير، فإن أساليبه بغير حدود أو انتهاء، وهو في كل الظروف والأحوال يطلب أن نتأكد أنه في الطليعة على الدوام،.. وكانت الخطة الأساسية في المعارك المجهولة أن يمضي التابوت واضحاً أمام جميع الشعب، وأن يرى القائد رئيس جند الرب معه، وأن يعلم الكل أن حقيقة المعركة ليست هي جهداً بشرياً خارقاً، أو معركة الأسلحة أو الأعداد المتكافئة، أو المختلفة التكافؤ، بل أن جوهر المعركة: أن الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون!!..
هذه المعركة الكبيرة لا يمكن أن تنجح، حيث هناك الفساد والخطية، والله لا يحارب في معارك الخطاة، وهو لا يمكن أن يساند يشوع وهناك عخان المختلس السارق، ولن تنجح المعركة ما لم تدفن الخطية في وادي غخور، ويصبح هذا الوادي بعد ذلك باباً للرجاء!!.. لم تستطع السبعة الأوتار الطرية التي قيد بها شمشون، أو الخصل السبع من شعر رأسه المربوطة في الوتد، أو سدى النسيج أن تهزمه أو تضعفه، ولكن الجبار سقط عندما ضاعت معاهدته مع الله بحلق شعره،.. إن المعركة الصحيحة الناجحة تتطلب أولاً وأخيراً فحص النفس في حضرة الله، والتخلص من كل شر أو خطية أو دنس أو فساد!!..
والمعركة الكبيرة مع ذلك ليست شيئاً سحرياً يأتي إلى الإنسان وهو قابع في مكانه يحلم بها بل هي جهد واضح يتحقق فيه القول: "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى" وما لم تدس الأقدام المكان، فهو أبعد من متناول طالبيه أو منتظريه!!.. إن الله لا يعطي وعده للكسالى والنيام، لكنه دائماً يعطي أرضه للنفس الراكضة والقدم المتحركة، ولعله من الملاحظ أن الأرض الموعود بها لم يأخذها يشوع أو شعب الله بأكملها، وذلك لأنها توقفوا عن الأخذ، ولم تسع أقدامهم إلى النهاية في أرض الموعد.. هل تذكر أيها المؤمن ماذا قال أليشع ليوآش ملك إسرائيل عندما طلب منه أن يفتح الكوة لجهة الشرق ويرمي سهامه ورمى الملك ثلاث مرات ووقف وغضب أليشع وقال له لو ضربت خمس أو ست مرات لضربت آرام عدوك إلى الفناء ولكنها مأساة المؤمن عندما يقصر إيمانه، وهو يقول ما قاله آخاب: "أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها".. ما أكثر ما يضيق الواقع عن العطية التي يقصد إلهنا أن يعطيها لكل واحد منا!!..
والمعركة الكبيرة لا تتطلب في واقع الأمر جهداً بشرياً، بل أن الجهد أولاً وأخيراً هو سمة الإيمان في انتظار جهد الله مع الإنسان، أو لغة أخرى في معركة الإيمان!!.. وهل في قدرة إنسان أن يوقف الشمس وحركة الليل والنهار؟؟ وأوقف يشوع الشمس والقمر في المعركة بيقين الإيمان،.. وهل في قدرة البشر أن تسقط أسوار أريحا بمجرد الطواف حولها، والهتاف في آخر طواف؟؟ ولكن: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام".. وما تزال هناك إلى اليوم، الأسوار العالية، والقلاع الشامخة التي بناها الشيطان في الأرض، ونحن ربما نرى الشيطان، لكننا نعجز أن نرى رئيس جند الرب الذي يأتي إلينا، وهو يريد أن يكون معنا!! ولا يطلب منا أسلحة بشرية، لأن سلاح الإيمان والصلاة واليقين بأن الذي معنا أقوى من الذي علينا، هو السلاح الوحيد الغالب المنتصر في كل معارك التاريخ!!..
هل تعلم أن الله وضع أمامي وأمامك على الدوام أرضاً يفصلها شاطيء الأردن الممتليء إلى آخر شطوطه، وأن كل جهدك أن تضع قدم الإيمان الثابتة، وسترى العجب لأن الأردن كالبحر الأحمر سينغلق أمامك، وتعبر إلى أرض موعدك وتأخذ هناك عسلك ولبنك، لأنك لست منفرداً في الطريق، بل تسير على الدوام في صحبة الله، رب الجنود!!..
يشوع والنجاح الدائم
ما أجمل كلمة النجاح، يسمعها يشوع من الخطوة الأولى، وهي ليست نجاحاً متقطعاً أو محدوداً، بل هي النجاح أينما ذهب واتجه!!.. والنجاح عند يشوع مرتبط بشيء واحد: "إنما كن متشدداً وتشجع جداً لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي لا تحد عنها يميناً ولا شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه لأنك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تفلح. أما أمرتك تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب".. والله يأمر هنا يشوع أن يعود إلى شريعة موسى.. فهو ليس بالإنسان الذي يسير وفق هوى النفس أو حكمة الناس أو حكمته الخاصة، لقد أعطاه الله في الطريق شريعة لا يجوز أن يتنكب عنها يمنة أو يسرة، والشريعة عند يشوع كانت البداءة التي بدأ بها موسى الكتاب العظيم الذي توالت أسفاره بعد ذلك، فيما نعرف الآن بالكتاب المقدس، وهو أعظم كتاب في كل العالم، الكتاب الغني بالنور والحكمة والمعرفة والإرشاد، وقد ألقى به في تربة الأرض الإنسانية، ليخرج لها البستان العظيم الحافل بكل الأزهار والأثمار الرائعة!!.. وما من إنسان أو أمة أمسك به إلا وهداه أعظم هداية، وأروعها على هذه الأرض!!..
كان على يشوع لا أن يقرأ كتاب الشريعة فحسب، بل أن يتخذه صديقاً يومياً يسير معه كل صباح وكل مساء، كان عليه أن يخلق في نفسه وبيته وشعبه عادة التأمل اليومي في كلمة الله،.. وألم يغن صاحب المزمور الأول بهذه الحقيقة عندما قال: "لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح".. ومن المؤكد أن الحياة المسيحية تجف وتتنكب طريقها على الدوام. ما لم تنصت إلى الإرشاد الإلهي الذي يأتيها من كلمة الله، وحكمة الله،.. ولقد شاء الله أن يعلم يشوع درساً قاسياً في عدم الإنصات إلى الفهم البشري دون سؤال الله، في قصة الجبعونيين الذي أوهموه بأنهم آتون من بلاد بعيدة، وأن ثيابهم تمزقت، وأحذيتهم تهرأت وخبزهم أصبح فتاتاً يابسة، وهم راغبون في معاهدة صداقة وأمن، وكان حرياً بيشوع أن يعرف من الله الأمر لكنه تعجل ودخل معهم في عهد: "فأخذوا من زادهم ومن فم الرب لم يسألوا".. وسقط يشوع في الفخ، وأضحى الجبعونيين شوكة في جنوب الإسرائيليين إلى المدى البعيد، وما أكثر ما تتجدد قصة الجبعونيين مع أبناء الله في كل العصور عندما لا يأخذ الناس إرشاد الله متوهمين أن الذكاء البشري يمكن أن يعطي الجواب الصحيح!!.. وكلمة الله تعطي الفلاح عندما تسير جنباً إلى جنب مع كل أمور حياتنا!!.. ولقد وجد الكثيرون من العادة اليومية للتأمل في كلمة الله والإنصات إلى صوته فيها كل إرشاد صادق وحكيم، ويكفي أن تقرأ القصص الرائعة في حياة هؤلاء أمثال چورچ مولر، لقد قرأ الكتاب المقدس من البداية إلى النهاية أكثر من مائة مرة، وتعلم منه الفطنة والإرشاد والحكمة في تصريف الأمور، ومعرفة الرأي الإلهي!!.. ولقد تساءل في غضب "ٌإدوارد أرفنج" وهو يتحدث إلى عصره في زجر الأنبياء: "من هو الإنسان الذي يشعر بالجلال والعظمة من تلقى الكلمة المنعشة النازلة إليه من درج السماء؟!! ومن ذا الذي يشعر بوزن الحرف الواحد وقيمته عندما ينزل إلينا من فم الله؟. ومن ذا الذي يشعر بالخوف المثير والرجاء المرهب في كلمات يتعلق معها مصيره الأبدي؟ ومن ذا الذي لا يمتليء صدره بمد العرفان، كلما تذكر الفداء والخلاص بدلاً من الضياع في الهلاك الأبدي؟!!.. هذا الكتاب نتاج الفكر الإلهي، وكمال الحكمة السماوية.كثيراً ما يحظى بالاهتمام من يوم إلى يوم، وربما من أسبوع إلى أسبوع، وكثيراً ما لا يأخذ مكانه اللازم لسعادتنا وراحتنا وصحتنا الروحية، بل كثيراً ما لا نهتم به في أوقات نحن أشد ما نكون حاجة إليه، عند الآلام والضعف والمحن والأحزان!!.. ولو كان للكتب ألسنة تصرخ بها من معاملة الناس، لصرخ هذا الكتاب قائلاً: اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لقد جئت من حضن الله ومحبته، دون أن ألقي ترحاباً من الناس، وقبولاً كريماً،.. إني أفتح أمامكم أبواب الخلاص، وطريق الحياة الأبدية التي لم تكونوا تعرفونها، ولكني لم ألق ترحاباً بكم، بل إنكم تريدون الفصل بيني وبين سعادة الناس وبطولتهم!!.. والربط مع أمراضهم ونقصهم!!.. إنكم لم تسمحوا أن أرشدكم إلى الحكمة والفطنة، بل بالحرى طوحتم بي خلف مشاغلكم، وألقيتم بي في زوايا إهمالكم ونكرانكم.. ولو أنكم أنصتم لي لأعطيتكم السلام الذي كان لي عندما: "كنت عنده صانعاً وكنت كل يوم لذته فرحه دائماً قدامه.. لأن من يجدني يجد الحياة وينال رضا من الرب ومن يخطيء عني يضر نفسه كل مبغضي يحبون الموت" كان هذا سر النجاح عند يشوع، إذ ظل على الدوام يلهج في ناموس الرب ويعلم الشعب هذا الناموس: "وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع والذين عرفوا كل عمل الرب الذي عمله لإسرائيل"..
يشوع كرمز ليسوع المسيح
ولعله آخر ما نختم به الحديث عن يشوع ذلك التشابه القائم بينه وبين المسيح، وكلاهما يحمل اسماً واحداً مع الفارق البعيد بين الرمز والمرموز، والظل والحقيقة، والأصل والتقليد!!.. وهنا يسرح خيال المفسرين المتعبدين والروحيين ويمتد ويمرح.. وعندهم أن موسى وهرون عبراً بشعب الله، ومع ذلك تركاه في القفر حتى أدخله يشوع إلى أرض الموعد، وكان موت موسى ومجيء يشوع بعده رمزاً لبقاء الناموس حتى يأتي يسوع المسيح،.. وقد أضحى يشوع قاضياً وحاكماً للأمة، ابتداء من نهر الأردن، حيث تعمد المسيح وأخذ المعمودية من هناك مركزه النبوي،.. وكما اختار يشوع من النهر اثنى عشر حجراً أقامها للشهادة، اختار المسيح تلاميذه الاثنى عشر وأقامهم للشهادة بين الناس، وكما كانت راحاب الزانية أول من آمن من الأمم، ودخلت في زمرة شعب الله، هكذا أعلن يسوع المسيح وهو يتحدث إلى اليهود عن أن العشارين والزواني سيسبقونكم إلى ملكوت الله!!..
ومهما يكن من أوجه الشبه بين يشوع ويسوع، فمما لا شك فيه أن هناك فارقاً كبيراً بين الراحة التي قدمها يشوع، والراحة التي يقدمها يسوع المسيح، لقد جاء في سفر يشوع: "واستراحت الأرض من الحرب" "فأراحهم الرب حواليهم" "والآن قد أراح الرب إلهكم إخوتكم كما قال لهم" "وكان غب أيام كثيرة بعدما أراح الرب إسرائيل من أعدائهم حواليهم" غير أن هذه الراحة هي التي أشار إليها كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه لو كان يشوع أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر إذا بقيت راحة لشعب الله" وليست هذه الراحة إلا الراحة التي يقدمها المسيح وفيه: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" وهي الراحة من الذنب والهم والضيق والمعاناة في هذه الأرض، والطوبى الأبدية: "هنا صبر القديسين، هنا الذين يحفظون وصايا الله وإيمان يسوع.. وسمعت صوتاً من السماء قائلاً: لي أكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم"..

عدد الزيارات 774

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل