لماذا التجسد؟عند القديس أثناسيوس

04 يناير 2023
Large image

عقيدة الثالوث الأقدس والتجسد:
هناك علاقة وثيقة في كتابات القديس أثناسيوس بين عقيدة الثالوث الأقدس وعقيدة الفداء والخلاص الذي تم بتجسد الله الكلمة وموته وقيامته. وهو يربط في كتاباته بين تعليمه عن شخص المسيح كأحد أقانيم الثالوث الأقدس وعمل المسيح ـ ابن وكلمة الله ـ الأقنوم الثانى كفادى ومخلص. فكلا العقيدتان متلازمتان ومترابطتان.يرى أثناسيوس أن ألوهية المسيح الحقة والتى لا يشوبها شئ بالمرة لا يمكن التعبير عنها بالكلام أو وصفها في تعبيرات، بل هى حياة معاشة، وهذا يتضح بشدة في محاربته لأفكار الآريوسيين ومحاولته لإثبات ألوهية الكلمة في علاقته بتجسد الله الكلمة من أجل فداء وخلاص البشرية. ففي الحقيقة لقد كان القديس أثناسيوس يرفض حتى أن يسمع مجرد كلمة عن "مسيح" طالما أن هذا "المسيح" لن يجيء بفداءٍ وخلاصًا للبشرية. ومبتدئًا من بشارة الرسل وما ترتب عنها من تعليم الكنيسة، علّم أثناسيوس عن المخلص الحقيقى وعن عمله الخلاصى... كخلاص حقيقى. وفسر كيف أن المخلص لابد وأن يكون كائن حقيقى إلهى في جوهره، بل لابد وأن يكون إله لكى يكون له الإمكانية الحقيقية لهذا العمل الخلاصى ولهذا فعند أثناسيوس أن المنكر لوحدانية الابن مع الآب في الجوهر، هو في الوقت نفسه يقلل من قدرة الابن، ويضعه في صفوف المخلوقات. وينكر بالتالى ويشكك في الخلاص الذى تم بواسطة الابن، والتى هو في الواقع كان ضرورة حتمية لأجل الإنسان. وهذا النكران يقود ـ حسب رأى أثناسيوس ـ إلى عدم الاعتراف بربوبية الابن حسب روح الإنجيل وأيضًا لعدم الإدراك العميق لأبعاد وهول الفساد والهلاك الذى حل بالإنسان بعد سقوطه من ناحية، ومن ناحية يقود لعدم الاعتراف بإمكانيات الخلاص التى تمت بواسطة تجسد الله الكلمة والتى أعادت الإنسان إلى شركة الثالوث مرة أخرى.
+ سقوط الإنسان كان السبب الرئيسى لتجسد الله " الكلمة " وذلك لمحبته للبشر
يُعّلم القديس أثناسيوس أن السقوط كان نتيجة فعل حر للإنسان ومن النتائج السلبية المباشرة لهذا الفعل الحر بل وأهمها هو الموت والفساد نتيجة الموت الذى عم البشرية نتيجة لذلك. وهذا ما يوضحه في الفصول الأولى من كتابه تجسد الكلمة ليثبت أن السبب الأول لعملية التجسد هو القضاء على الموت وإعادة الإنسان للحياة الحقيقية. تلك الحياة التى فقدها الإنسان نتيجة المخالفة وتعدى الوصية الإلهية والبعد بالتالى عن الله وفقد النعمة الإلهية. وفي الفصل الرابع من نفس الكتاب يذكر " أن نزوله إلينا كان بسببنا، وأن عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكى يسرع الرب في إعانتنا والظهور متأنسًا ".
+ أزلية المشيئة الإلهية بشأن التجسد وهدفها
لقد كان في علم الله السابق إمكانية سقوط الإنسان ونتائجه. كذلك أيضًا عملية التجسد وحتميتها. هكذا ركز أثناسيوس في الفصل الأول من كتابه تجسد الكلمة. أن الله منذ بداية خطته خَلق العالم بالكلمة وأيضًا سوف يخلّصه بالابن، وذلك لأن صفات الله التى لا يمكن أن تتغير أو تتبدل لا تسمح بأن يؤخذ قرار التجسد وخلاص الإنسان بعد سقوطه. كأن الله قد فوجئ بهذا الأمر، بل كان هناك، مشيئة أزلية. ويعود القديس أثناسيوس ليوضح هذا الأمر عندما يشرح بعض آيات الكتاب المقدس في رده على الآريوسيين إذ يقول [.. لأنه رغم النعمة التى صارت نحونا من المخلّص قد ظهرت كما قال الرسول، وقد حدث هذا عندما أقام بيننا، إلاّ أن هذه النعمة كانت قد أعدت قبل أن يخلقنا بل حتى من قبل أن يخلق العالم. والسبب في هذا واضح ومذهل، فلم يكن من اللائق أن يفكر الله بخلاصنا بعد أن خلقنا لكى لا يظهر أنه يجهل الأمور التى تتعلق بنا. فإله الجميع إذًا عندما خلقنا بكلمته الذاتى ولأنه كان يعرف أمورنا أكثر منا ويعرف مقدمًا أننا رغم أنه قد خلقنا صالحين إلا أننا سنكون فيما بعد مخالفين الوصية، وأننا سنطرد من الجنة بسبب العصيان ـ ولأنه وهو محب للبشر وصالح فقد أعد من قبل تدبير خلاصنا بكلمته الذاتى ـ الذى به أيضًا خلقنا. لأننا حتى وإن كنا قد خُدعنا بواسطة الحية وسقطنا فلا نبقى أمواتًا كلية بل يصير لنا بالكلمة الفداء والخلاص الذى سبق إعداده لنا لكى نقوم من جديد ونظل غير مائتين ]. كما أنه في تفسيره لما جاء في رسالة معلمنا بولس إلى أهل أفسس " مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدامه في المحبة قديسين وبلا لوم، إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح نفسه " يتساءل أثناسيوس استنكارًا كيف اختارنا قبل أن نُخلَق إن لم نكن ممثلين فيه من قبل كما قال هو نفسه؟ كيف سبق فعيننا قبل أن يخلق البشر إن لم يكن الابن نفسه قد " تأسس قبل الدهور " آخذًا على عاتقه تدبير خلاصنا؟، ويعطى مثالاً رائعًا لكى يثّبت هذا التعليم فيقول:
" ولأن الله صالح وهو صالح على الدوام وهو يعرف طبيعتنا الضعيفة التى تحتاج إلى معونته وخلاصه لذا فقد خطط هذا، وذلك مثلما لو كان مهندس حكيمًا يريد أن يبنى منزلاً فإنه يخطط في نفس الوقت كيفية تجديده مرة أخرى لو دُمر يومًا ما بعد أن تم بناؤه. وهو يعد لهذا من قبل عندما يخطط، ويعطى للقائم على العمل الاستعدادات اللازمة للتجديد. وهكذا يكون هناك استعداد مسبق للتجديد قبل بناء المنزل وبنفس الطريقة فإن تجديد خلاصنا قد تأسس في المسيح قبلنا، كي يمكن إعادة خلقنا من جديد فيه، فالإرادة والتخطيط قد أُعدا منذ الأزل، أما العمل فقد تحقق عندما استدعت الحاجة وجاء المخلص إلى العالم " .
+ التجسد في مواجهة الطبيعة البشرية الساقطة
كانت وصية الله لآدم يوم أن وضعه في الفردوس، ألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشر محذرًا إياه أنه يوم أن يأكل منها موتًا يموت. يضع القديس أثناسيوس هذا النص كأساس كتابى وكبرهان على ضرورة وحتمية التجسد.. إذ أن الموت صارت له سيادة شرعية علينا من ذلك الوقت، ويفسر عبارة "موتًا تموت" قائلاً إن المقصود بها ليس مجرد الموت بل "البقاء إلى الأبد في فساد الموت" . ولأنه لم يكن ممكنًا أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذى وضعه بسبب التعدى، أصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقًا وغير لائقة، لأنه لا يمكن أن يكون الله كاذبًا، ولأجل تغيير هذا الوضع فإن توبة الإنسان لا تصلح إذ يقول بالحرف الواحد " لكن التوبة تعجز عن حفظ أمانة الله لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت (لأنه تعدى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تقدر التوبة أن تغّير طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية " .
لقد كان الاحتياج إلى شئ أساسى وجوهرى وحاسم لكى يعيد الإنسان إلى الوجود الحقيقى، إلى الحياة، إلى الشركة مع الله. كان هناك احتياج إلى التدخل الحاسم لكلمة الله من جديد. وكان حتمًا إذًا أن يتجسد الله الكلمة الذى هو وحده قادر على تصحيح هذه الأوضاع وإعادة الحياة وعدم الفساد إلى الإنسان " فلو كان تَعِدى الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أما الآن بعد أن حدث التعدي، فقد تورط البشر في ذلك الفساد الذى كان هو طبيعتهم ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله، فما هى الخطوة التى يحتاجها الأمر بعد ذلك؟ أو مَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة ويرده إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خلق في البدء كل شئ من العدم؟ لأنه كان هو وحده القادر أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد وأيضًا أن يصون صدق الآب من جهة الجميع. وحيث إنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، كان هو وحده القادر أن يعيد خلق كل شئ وأن يتألم عوض الجميع وأن يكون شفيعًا عن الكل لدى الآب " .
لقد صار الموت حتمية والتجسد ضرورة:
فلم يكن ممكنًا لله أن يتراجع عن حُكمِه على الإنسان بالموت إن أخطأ، ولم يكن أيضًا ممكنًا أن الله يهمل ولا يبال بهلاك البشرية وفنائها. فعدم الإهتمام كان سيُظهر الله وكأنه ليس صالحًا، والتراجع كان سَيُبيّن وكأن طبيعة الله غير ثابتة.فإن كان الأمر هكذا، فقد صار الموت حتميًا، وتجسد كلمة الله وحده ضرورة.
وهنا يوضح القديس أثناسيوس لماذا كان لائقًا أن يتخذ الكلمة جسدًا بشريًا كأداة ليخلّص بها الإنسان، ويستبعد أى وسيلة أو طريق آخر، يمكن أن تكون وسيلة لفداء الإنسان وخلاصه:
فأولاً: يوضح عدم كفاية التوبة كى يعود الإنسان إلى عدم الفساد والخلود فيقول: " التوبة تعجز عن حفظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت، (لأنه تعدى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تقدر التوبة أن تغير طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية " .إن مأساة سقوط الإنسان تكمن في أن ما فعله لم يكن مجرد عمل خاطئ، بل كان بالحرى عمل خاطئ تبعه الموت والفساد، لأنه وكما يقول القديس أثناسيوس: " لو كان تعدى الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد؛ لكانت التوبة كافية " . إن ما جعل التجسد ضرورة؛ هو أنه بعدما حدث التعدى على وصية الله " تورط البشر في ذلك الفساد الذي كان هو طبيعتهم، ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله" . هذه النعمة التي كانت تمكنهم من أن يبقوا في شركة الحياة وعدم الفساد.
ثانيًا: في موضع آخر يُجيب القديس أثناسيوس على الذين لا يرون ضرورة لتجسد الله الكلمة، بل ويهزأون من ظهوره الإلهى بيننا، ويقولون: لماذا لم يُتمم الله أمر خلاص البشرية بإصدار أمر بدون أن يتخذ كلمته جسدًا، أى بنفس الطريقة التي أوجد بها البشرية؟ على هؤلاء يرد القديس أثناسيوس قائلاً: " في البدء لم يكن شئ موجودًا بالمرة، فكل ما كان مطلوبًا هو مجرد نطق مع إرادة (إلهية) لإتمام الخلق، ولكن بعد أن خلق الإنسان وصار موجودًا استدعت الضرورة علاج مـا هو موجود، وليس مـا هو غيــر موجود" . ثم يستطرد قائلاً: " لأن الأشياء غير الموجودة لم تكن هى المحتاجة للخلاص (للتجسد)، بل كان يكفيها مجرد كلمة أو صدور أمر، ولكن الإنسان (المخلوق) الذي كان موجودًا فعلاً وكان منحدرًا إلى الفساد، والهلاك هو الذي كان محتاجًا إلى أن يأتى الكلمة " .
ثالثًا: يشير القديس أثناسيوس إلى أنه لا البشر ولا الملائكة، كانوا قادرين على تجديد خلقة الإنسان على مثال الصورة، وذلك لأن الإنسان هو مجرد مخلوق على مثال تلك الصورة، وليس هو الصورة نفسها، كما أن الملائكة ليسوا هم صورة الله .
رابعًا: وأخيرًا يوضح القديس أثناسيوس أنه كى يصير كلمة الله معروفًا مرة أخرى بين البشر وبه يُعرف الآب، لم يكن التناسق بين أعمال الخليقة كافيًا، ولم تعد الخليقة وسيلة مضمونة بعد فيقول: " لو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عن الله" . لقد سبق وأن أعطى الله للبشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أما الآن وبعد السقوط، فإن " هذه الوسيلة لم تعد مضمونة وبالتأكيد هى غير مضمونة لأن البشر أهملوها سابقًا، بل إنهم لم يعودوا يرفعوا أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل" .وبعد أن أوضح القديس أثناسيوس عجز كل من هذه الوسائل عن تحقيق الخلاص للبشرية، يكشف عن قدرة الكلمة وحده ـ الذي ظهر في الجسد ـ على إتمام هذا الفداء العظيم فيقول: " إنه لم يكن ممكنًا أن يُحوَّل الفاسد إلى عدم فساد إلاّ المخلّص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شئ من العدم، ولم يكن ممكنًا أن يعيد خلق البشر، ليكونوا على صورة الله إلاّ الذي هو صورة الآب، ولم يكن ممكنًا أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلاّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشر عن الآب، ويقضى على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقى" .وفي عبارات رائعة يعطى المعنى العميق لمفهوم الفداء حسب ما تُعلّم به الكنيسة الشرقية فيقول: " ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ كان الجميع مستحقين الموت فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا. وبعدما قدّم براهينًا كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع، أولاً: لكى يبررهم ويحررهم من المعصية الأولى، ثانيًا: لكى يثبت أنه أقوى من الموت، مُظهرًا جسده الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع " .
د. جوزيف موريس فلتس

عدد الزيارات 222

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل