هبة الألم

07 ديسمبر 2018
Large image

جاء في رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل فليبي، هذه الرسالة التي كتبها القديس بولس وهو في السجن، ونسميها رساله الفرح رغم أنه كان في السجن، جاء فيها: «فقط عيشوا كما يَحِقُّ لإنجيلِ المَسيحِ، حتَّى إذا جِئتُ ورأيتُكُمْ، أو كُنتُ غائبًا أسمَعُ أُمورَكُمْ أنَّكُمْ تثبُتونَ في روحٍ واحِدٍ، مُجاهِدينَ مَعًا بنَفسٍ واحِدَةٍ لإيمانِ الإنجيلِ، غَيرَ مُخَوَّفينَ بشَيءٍ مِنَ المُقاوِمينَ، الأمرُ الّذي هو لهُمْ بَيِّنَةٌ للهَلاكِ، وأمّا لكُمْ فللخَلاصِ، وذلكَ مِنَ اللهِ. لأنَّهُ قد وُهِبَ لكُمْ لأجلِ المَسيحِ لا أنْ تؤمِنوا بهِ فقط، بل أيضًا أنْ تتألَّموا لأجلِهِ. إذ لكُمُ الجِهادُ عَينُهُ الّذي رأيتُموهُ فيَّ، والآنَ تسمَعونَ فيَّ.». (في١: ٢٧-٣٠).أولًا: ما هو الألم؟الألم هو هبة من الله أي عطية، وهذه العطية الإلهية موازية تمامًا لعطية الإيمان، بمعنى أن الإنسان المسيحي نال عطية الإيمان هبة من ربنا، وهذه العطيه تتساوى مع عطية الألم. ولذلك فنحن نحتفل بالمسيح في أسبوع الآلام. وإن كان الألم الذي يسمح به الله للإنسان هو عطية ونعمة، فهو في نفس الوقت كثير جدًا في حياة الإنسان، إذ يصاحبه في رحلته على الأرض. ففي ولادة الإنسان تبدأ حياته بآلام للأم، وبعد الولادة تفرح لأنها أتت بإنسان جديد إلى العالم، ثم يمر الإنسان بألم الفطام بعد سنة أو سنتين لكي يكبر وينمو، ثم متاعب فترة الدراسة الأولى، يعقبها آلام فترة المراهقة التي ينتقل فيها من الطفولة إلى الشباب. وحين تنتهي فترة الدراسة بكل متاعبها تبدأ متاعب العمل، ثم فترة الارتباط والزواج بمشاكلها، ثم إنجاب الأطفال وتربيتهم بما يحمله من متاعب إلى أن يكبروا، وبعدها تبدأ آلام فترة الكبر…وقد تعترضه بعض الآلام مثل الفشل في مرحلة الدراسة أو العمل أو الارتباط، أو أن تظهر بعض المتاعب أو الأمراض له أو لمن حوله. أو قد يفقد بعضًا من أحبائه…لكن كل هذه المراحل من الألم توصلنا لفائدة عظيمة، فالألم هبة ووسيلة لإنضاج الشخصية. ولذا قال القديس يوحنا الذهبي الفم: «لا تشتهِ حياة خالية من الألم أو الضيق، فهذا ليس فيه خير لك»، فالألم مثل النار التي ينضج بها الأكل، فالآلام تصنع شخصًا ناضجًا. طاغور شاعر الهند العظيم له عبارة جميلة: «الحب كالبخور لا تظهر رائحته إلا إذا اكتوت بالنار». كما أن الألم فيه مشاركه للآخرين ومشاركة مع المسيح، فالمسيح يتألم معك كما أنت تتألم معه.ثانيًا: ما هي فوائد الألم؟١. تنقية حياة الإنسانفلكلٍّ منّا ضعفاته وخطاياه وسهواته، وقد تلهيه الدنيا. وكما نقوله في صلاة النوم «إن العمر المنقضي في الملاهي يستوجب الدينونة»، ولذلك قد تأتي فترات الألم في حياة الإنسان لكي ما ينظر إلى نفسه وتكون وسيلة لتنقيته. كما في حياة أيوب الصديق، الذي كان إنسانًا بارًا، يتقي الله. ولكن كانت فيه خطية مستترة وهي اعتزازه بنفسه، يرى نفسه أفضل من الآخرين. وبألم التجربة تنقّى، حتى قال لله: «بسمع الأذن سمعت عنك، أمّا الآن فقد رأتك عيناي». كان يسمع عن الله، وكان يعتبر أن هذه معرفة كافية، ولكن لما اجتاز التجربة وتنقى من الخطية التي كانت بداخله وصل إلى رؤية الله. اقبل الألم حين يعطيه لك الله، كي ما يطرد منك كل ضعف وينقيك من كل خطية.٢. من خلال الآلام نتزكّىبمعنى أننا كمن يجتاز امتحانًا، فيتعب ويذاكر لكي يتزكّى، وحين تظهر النتيجة يصير في سعادة بالغة بنجاحه. ربما لا يوجد في تاريخ البشر أصعب من التزكية التي حصل عليها إبراهيم أبو الآباء، إبراهيم دخل امتحانًا لم يدخلة آخر، حين طُلِب منه أن يقدم ابنه ذبيحة لله. فكان ملتزمًا جدًا، وبدأ يستعد لتقديم الابن بمنتهى الحماس والسرعة، ونجح ابراهيم وهو ماسك بالسكين ليقدم ابنه بنفس راضية. وأنتم تعلمون كيف افتداه الله، وكانت تزكية كبيرة جدًا لإبراهيم، وصار أبا الآباء، واستحق الوعد الثمين فصار نسله كنجوم السماء ورمل البحر. ٣. بالألم يتقوّى الإنسانبالألم ينضج ويقوى الإنسان، فالتدريبات الرياضية تحتاج تعبًا ومجهودًا لكي ما تتقوى العضلات، لكي يكون الشخص باستمرار في قمة اللياقة ويكون جاهزًا للمباريات. فالمجهود والتعب يقوّي الإنسان، وكما نعلم فالعضلة التي لا تُستخدم تضمر. والنسر عندما يضع فراخه تكون ضعيفه جدًا، فيحملها على جناحيه ويطير عاليًا، ثم يطرحها من أعلى فتبتدئ الفراخ الصغيرة في تحريك أجنحتها في الهواء بمفردها لئلا تسقط، فينزل النسر الكبير بسرعة لأسفل ويتلقاها على أجنحته. ثم يكرر هذه العملية إلى أن تستطيع النسور الصغيرة الطيران بمفردها. فالتجربه والألم هي وسيله لتقوية الإنسان.٤. الألم نمو للإنسانقيل عن شعب إسرائيل في العهد القديم «حسبما اذلوهم هكذا نموا وامتدوا». فدائمًا الضغوطات تكون سببًا في تنمية الإنسان. وفي نموه يكون الألم وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الله. وفي مسيرة الكنيسة المسيحية عبر العالم نجدها حين تتعرض للضيق في مكان ما، تنمو وتمتد في كل مكان في العالم وتشهد للمسيح.٥. الألم وسيلة لتوعية الإنسانفالإنسان قد لا يكون واعيًا في فترات الراحة، وقد ينسى ربنا. أمّا الألم فهو للتوعية، كما كانت الشوكة التي أعطاها الله لبولس الرسول ليبقى واعيًا، ولئلا يتكبر أو يرتفع من فرط الإعلانات فيضيع، ولئلا ينسى رسالته. فكرز لأوروبا كلها واستشهد في روما سنة ٦٧م وصار اسمه وكتاباته معروفة في العالم كله.ثالثًا: ماذا نفعل أمام الألم؟- نقول لله: "أنت صانع الخيرات، أنت محب البشر، أنت ضابط الكل، وشمسك يارب تشرق في كل صباح، وعطاياك جديدة في كل يوم، والألم هو أيضًا عطية منك". يوجد أناس يتذمرون أمام الألم، وحتى من الناحية الصحية فالمريض الذي يتذمر يتأخر شفاؤه، بينما المريض الشاكر يتقدم شفاؤه.- وهناك مثل روسي يقول: «كنت أتذمر على الله لأنه ليس عندي حذاء، ولكن عندما وجدت إنسانًا بلا قدمين شكرت الله». فالتذمر في وقت الألم يأتي بنتيجة عكسية. - الدرجة الأعلى هي الرضا، فنشكر الله على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال. الرضا القلبي وليس الرضا الشكلي. ولكن كيف يشكر من يتعرض إلى أزمات صحية؟ أريدك أن تشكر لأنك في زمن يوجد به أطباء وأجهزة وأدوية ووسائل كثيرة، يوجد طب وطب التخدير بأشكاله المختلفة، يوجد نظريات ويوجد علاج ويوجد مستشفيات. شكرك هذا يعطيك شكلًا من أشكال الرضا. - خطوة الشكر، وأعني الشكر الكامل من القلب لله، شكر الله على عطاياه. حتى العطية التي تتعطّل أعرف أنه لا هدف لها. ومنفعة الإنسان قد تكون في خلوة الإنسان مع نفسه. قد تكون الفائدة مشاركة الألم مع الآخرين، وقد تكون فترة الألم مراجعة للنفس، قد تكون فرصة للصلوات الحارة المرفوعة. - وإذا عملنا بتلك الخطوات: عدم التذمر ثم القبول ثم الرضا ثم الشكر، نصل إلى قمة هذا الهرم، وهو الفرح وعناق الألم. قال أحد الآباء: «إن كنا خطاة بالألم نُؤدَّب، وإن كنا أبرارًا وقديسين فالآلام تختبر وتزكي». بواسطة الألم يأخذ المجاهدون الأكاليل. فالآلامات والتجارب مفيدة على الرغم من أنها مزعجة، لأنه بسببها يتضع الإنسان وينتقى ويتأدب. هذه الآلامات التي يسمح بها الله للإنسان دائمًا للخير، فالله هو صانع خيرات فقط، وحتى الآلام التي يقدمها فهي خيرات على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعة. وعندما كنا نقرأ في كتبنا في العصور الاولى في أزمنة الشهداء، كانت الكنيسة تنمو وتتقدم على الدوام لأنه «قد وُهِب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أن تتألموا لأجله أيضًا».
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 1736

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل