البابا تواضروس الثاني

Large image

البابا الأنبا تواضروس الثاني (4 نوفمبر 1952 -)، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ال118. وُلِد باسم وجيه صبحي باقي سليمان بالمنصورة لأسرة مكونة منه كأخ لشقيقتين، ووالده كان يعمل مهندس مساحة، وتنقلت الأسرة في المعيشة ما بين المنصورة و سوهاج و دمنهور.

في 4 نوفمبر 2012، تم اختياره عن طريق القرعه الهيكلية ليكون بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية رقم 118[1].

م ترشيحه ليكون خليفة البابا شنودة الثالث هو وأربعة آخرين هم الأنبا رافائيل ، القمص رافائيل أفامينا ، القمص باخوميوس السرياني، القمص سارافيم السرياني.[2] ،فاز بمنصب البابا عن طريق القرعة الهيكلية ليصبح البابا تواضروس الثاني 118 يوم الأحد 4 نوفمبر 2012 م

رؤيته لمستقبل الكنيسة يقول الأنبا تواضروس "يجب أن نهتم بفصول التربية الكنسية منذ الصغر، وأن نجعل فصول إعداد الخدام من أولوياتنا، فالخدمة هي التي سوف تصنع نهضة جديدة داخل الكنائس سواء بمصر أو ببلاد المهجر".

ويُطالب الأنبا تواضروس بإنشاء معهد لإعداد خدام كنائس بالمهجر لإطلاعهم على الثقافات المختلفة في الدول الأوروبية وأمريكا وكندا، مُعتبرا أن إقامة قنوات للحوار مع الشباب أمر ضروري، وكذلك يدعو المسيحيين إلى الاندماج في المجتمع من خلال التعليم ووسائل الإعلام.

وقد حصل الأنبا تواضروس على تزكيات من الأنبا دميان أسقف عام ألمانيا والأنبا سوريال أسقف ملبورن، والأنبا مكاريوس اسقف عام المنيا ، والأنبا باخوم أسقف سوهاج، والأنبا اندراوس أسقف أبوتيج والانبا رفائيل الاسقف العام.

تم تجليسه كبابا للإسكندرية وبطريرك للكرازة المرقسية في قداس الأحد 18 نوفمبر 2012 برئاسة القائم مقام البطريرك الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية وباشتراك كافة أعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية و مشاركة وفود من كل الكنائس في مصر والعالم.

المقالات (249)

28 نوفمبر 2025

“رائحة الحب”

أتدري يا صديقي أنه متى كانت لك حياة روحية حقيقية وقلب ممتلئ بالنعمة لا بد أن ينعكس ذلك على حياتك العملية فتظهر رائحة المسيح في كل تصرفاتك؟ هذا هو ما نود الحديث عنه في موضوعنا هذا في طريقك الروحي وهو ما يعكس نجاحك في الخطوات السابقة «وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةُ للهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ. لِهؤُلَاءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ. وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهذِهِ الأُمُورِ؟ لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، لكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلَاصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ اللهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ» (2كو 2: 14 – 17). تظهر فينا رائحة المسيح من خلال خمس فضائل: أولًا: المحبة الإنسان المسيحي لا يعرف إلَّا المحبة، والعالم اليوم في أشد الحاجة إلى المحبة النقية الحقيقية، تلك المحبة التي يقدِّمها الإنسان المسيحي الحقيقي في معاملاته مع الجميع لذا على الإنسان المسيحي أن يراجع نفسه دائمًا ويسأل نفسه: هل يوجد في قلبه فكر كراهية من جهة أي أحد؟ وما هو مقياس المحبة تجاه كل مَنْ هم حوله؟ والقديس أغسطينوس له هذا القول الجميل: ”أحبَّ الكل فيكون لك الكل ومَنْ يعرف الحب يفهم الحياة“. ثانيًا: السلام وتُسمَّى صناعة السلام بالصناعة الصعبة بل إنها أصعب صناعة يحتاجها العالم اليوم، فالعالم أضحى ممتلئًا بالتوتر في كل مكان وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط «وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلَامِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلَامَ» (يع 3: 18) فهناك شخص بمجرَّد وجوده يكون سببًا في تهيُّج المشكلات بسبب كلامه غير الحكيم، ولكن نجد شخصًا آخر كلامه يريح الجميع بحكمته وتصرفاته التي تزرع السلام تعلَّم يا صديقي فن حل المشكلات بهدوء بل اجعل نفسَكَ دائمًا من صنَّاع السلام كما يقول الكتاب: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (مت 5: 9). ثالثًا: اليقظة بمعنى التوبة في كل يوم فالإنسان المسيحي إنسان يقظ ومنتبه ومستعد واليقظة أيضًا تعني السهر والاستعداد فمتى تسلَّل الكسل إلى حياتك الروحية عليك أن تتدارك نفسك سريعًا واعلم أن هذا الكسل هو حرب من الشيطان يجب الانتباه لها حتى لا تُفسِد الخطية حياتك بسبب هذا الكسل البُعد الداخلي لليقظة القلبية هو وجود مخافة الله في كيان الإنسان لأن في الأزمنة الحاضرة ومع انتشار التكنولوجيا بكل صورها المتسارعة وتعاظم القدرات الإنسانية وتعاظم الإنسان أمام نفسه … توارت مخافة الله في حياة الإنسان وصار يستبيح كلَّ شيء وصار كلُّ شيء رخيصًا وبلا قيمة حتى المقدَّسات وكأن التكنولوجيا واستخدامها يولِّد ويستنسخ ”يهوذا“ جديدًا كل صباح. رابعًا: الحكمة «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يع 1: 5). فالفضيلة لا تكون فضيلةً إلَّا بالحكمة، والحكمة تتجسَّد في حياة الإنسان بشكلٍ عملي … في حُسن التصرُّف أو في عرض موضوعٍ ما. أو في حل مشكلةٍ … إلخ ويُحكَى في التاريخ أن ملكًا في أحد العصور أقام حفلة كبيرة ودعا إليها جميع كبار رجال الدولة وكان من ضمن المدعوين البابا البطريرك، وفي نهاية الحفل كان كل فرد من رجال الدولة يقوم بتقبيل يد الملك اليمنى فيضع الملك فيه كيسًا من الذهب على سبيل الهدية. فجاء دور البابا البطريرك فقبل صدر الملك فتعجب الملك وقال له: لماذا صنعت ذلك؟ فقال البابا لأنه يوجد لدينا آية في الإنجيل تقول: «قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ» (أم 21: 1). وأنا قبَّلت يد الرب التي تحرس قلبك يا جلالة الملك. فارتاح الملك لهذا الكلام وأعطى البابا كيسين من الذهب، وهذه هي الحكمة. فقد كرز بالإنجيل وقدَّم محبة وتصرَّف بدبلوماسية الإنسان المسيحي الحقيقي عادةً ما يكون إنسانًا حكيمًا. لأنه يتعلَّم الحكمة من حياة ربنا يسوع المسيح. فعندما سألوا السيد المسيح عن الجزية وهل يجب دفعها أم لا؟! طلب أن يرى عُملة ونظر إلى وجهيها ثم قال في حكمة: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: “لِقَيْصَرَ”. فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» (مت 22: 20، 21) وأيضًا في قصة المرأة السامرية (يو 4) تعامل السيد المسيح معها بمنتهى الحكمة وبدأ هو في الحديث معها وكان يشجِّعها في حديثها ببعض الكلمات المشجِّعة. مثل «حَسَنًا قُلْتِ» وبذلك قادها إلى التوبة والإيمان وفي مقابلة زكا تقابل السيد المسيح معه بمنتهى اللطف حتى أن زكا تغيَّر قلبه وتاب. وقال: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ» (لو 19: 8) وفي قصة الابن الضال (لو 15) كان من الممكن أن أباه لا يقبل عودته ويطرده. ولكنه تعامل مع ابنه بحكمةٍ وأخذه في حضنه وقبله وهكذا يا عزيزي القارئ الإنسان المسيحي يظهر رائحة المسيح في حكمته في مواجهة المواقف المختلفة. خامسًا: ينبوع التعزيات الإنسان المسيحي هو ينبوع التعزيات فحضور المسيح حضور مُفرح، فعندما يأتي الإنسان المسيحي يأتي معه الفرح والبشاشة وهكذا حضور الإنسان المسيحي يعكس حضور الله بالفرح الذي يملأ قلبه. وبذلك تكتمل هذه المنظومة الخماسية بالفرح الذي يجلبه الإنسان المسيحي في الوسط الذي يعيش فيه سواء بكلامه أو صمته، سواء بمواقفه أو تصرفاته وهذا يفسر لنا تكرار عبارة: ”هللويا“ في صلواتنا وتسابيحنا وألحاننا حيث التهليل لله لكي تنطبع النفس الداخلية بأصول الفرح والبهجة والتعزية وتتحوَّل إلى حياة الرضا والقناعة والشكر. هذه الفضائل الخمس: المحبة، السلام، اليقظة، الحكمة، وينبوع التعزيات هي مظاهر حضور الله في حياتنا، وإذا أخذنا الحرف الأول في هذه الكلمات الخمس ستظهر كلمة ”مسيحي“. قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد
21 نوفمبر 2025

قانون الحب

”الكلمات الجميلة والدعوات الصادقة … أشياء بسيطة تزيد الحياة حبًّا وفرحًا وسلامًا“ (عبارة مأثورة) «فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ. فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا» (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 2: 1، 2). إن كلمة قانون تعود في أصلها اليوناني إلى الأداة التي تمكِّن الكرمة من التسلُّق إلى أعلى فتصير أكثر إثمارًا وإنتاجية. بمعنى آخر أن كلمة قانون تعني ”فن تنظيم الحياة“ من خلال ثوابت تتسلَّق عليها حياتنا لتنمو وتثبت في المسيح وتصير فيه أكثر إثمارًا وأوفر أفراحًا. ولكي نفهم قانون الحب يجب علينا أولًا أن نعرف احتياجات الإنسان الأساسية والتي تشكِّل معالم وجوده اليومي في أي زمان وأي مكان فأي شخص منا، مهما كان وضعه وسنه وعمله ومنصبه ودراسته وتكوينه، له احتياجات أساسية أربعة هي: الاحتياجات الجسدية تتلخَّص في: الأكل والشرب والملبس والنوم، وأحيانًا تسمى بالاحتياجات البيولوجية فكلمة ”بيو“ باللغة اليونانية تعني ”حياة“. أمَّا الاحتياجات النفسية: فهي الاحتياج إلى التقدير والحنان، والأمان والحرية، وأيضًا يحتاج الإنسان إلى الحب، وهذه الاحتياجات تبدأ منذ بداية ولادة الطفل وتنمو وتتغيَّر بنمو الإنسان. وبالنسبة للاحتياجات العقلية، فهي الاحتياج إلى تغذية العقل بالقراءة والاطلاع والمعرفة والدراسة والبحث … أمَّا الاحتياجات الروحية فهي الاحتياج المطلق إلى الله، والاحتياج إلى الغفران، أي احتياج الإنسان لعمل الله في حياته، ومعيَّة الله في كل أعماله. ويُعَدُّ الاحتياج النفسي أحد أهم هذه الاحتياجات، وهو يتلخَّص في الاحتياج للحب، فيصير الحب هو مفتاح القلوب، فمتى شعر الإنسان بمحبة الآخرين سيتقبَّل منهم أي شيء بحب واهتمام. لذلك عندما تعامل الله معنا نحن البشر، تعامل معنا من منطلق الحب كما يقول الكتاب: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16). لقد خلقنا الله مختلفين ومُتَفَرِّدين لكن هدفنا في النهاية واحد وهو الاتحاد بالمسيح وتحرير قلوبنا من أي شيء يفصل ما بيننا وبين أن يحيا المسيح فينا. وعلى سبيل المثال نقرأ في التاريخ المسيحي كيف بدأت الحياة الرهبانية في براري مصر وصارت في جماعات لها قانون ينظِّم حياتهم اليومية في الصلاة والقراءة والعمل وكان القديس الأنبا باخوميوس المعروف بأب الشركة (290 – 345م) هو واضع أول نظام قانوني للحياة الديرية وهو الذي يقدِّم الصورة المثالية للحياة المسيحية والتي منها نأخذ الاختبارات والخبرات الروحية التي تفيدنا في أن نعيش قانون الحب ونمارسه في حياتنا اليومية من خلال كافة الوسائط الروحية المتاحة أمامنا كتابيًّا وكنسيًّا وتقويًّا. ويمتد قانون الحب من الإنسان الفرد في حياته إلى مَنْ يعيش معهم في مجتمعه من خلال ثلاثة أشكال للتواصل مع الآخرين: الشكل الفردي: أي افتقاد الآخرين سواء في المنزل أو في الكنيسة والسؤال عنهم وإظهار اهتمام الحب لهم في ”جلسة الحب“ أو مكالمة أو مجاملة وغير ذلك. والشكل الآخر هو الشكل الاجتماعي: من خلال الاجتماعات المنزلية (أفراد الأسرة الواحدة) أو الأسرية (تشكل أكثر من أسرة) أو الكنسية (المتنوعة في كل كنيسة) وهي لقاءات محبة لتشجيع بعضنا البعض وشحذ الهمم الروحية والتي ينطبق عليها قول المسيح: «لَا تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ» (لو 12: 32). كما أن هناك شكلًا اجتماعيًّا آخر يشمل الأنشطة الكنسية المتعددة والتي يسميها الكتاب: «إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ» (في 2: 1). وهي تعمل على سد الفراغ النفسي والوجداني في شخصية الإنسان باعتباره كائنًا اجتماعيًّا يحتاج الترفيه الإيجابي لكي تتكامل صحته النفسية بكل مقوِّماتها. وانطلاقًا من تطبيقات قانون الحب يجب أن يعرف الإنسان كيف يتفاعل مع أخيه الإنسان ويحيا معه من خلال أربعة مبادئ أساسية: أوَّلها مبدأ القبول: الإنسان المسيحي يقبل الجميع، ولا يكون له جماعة خاصة به، فقلبه مفتوح للجميع. المبدأ الثاني هو مبدأ التفاهم أو الاتصال: بمعنى أنك تستطيع أن تصل إلى الآخر من خلال اتساع القلب والعقل. المبدأ الثالث هو المبادرة: فالذي يبادر بالحديث هو الذي يبادر بكسر الحواجز بينه وبين الآخرين، وبذلك يفتح قنوات عديدة للحديث والتفاعل والحب. المبدأ الرابع هو التشجيع: والتشجيع هو إحدى الوسائل الأساسية في التفاعل الإنساني مثل الحب تمامًا، وهو أيضًا أحد الأسباب الرئيسية لنجاح التفاعل مع الآخرين. والآن أود أن أحدثك عن ثلاثة مهارات أساسية في قانون الحب: 1 – المهارة الأولى: هي مهارة الحوار والمناقشة، والسؤال والجواب، بمعنى مهارة الكلام وترتيبه. وتوجد لغتان للكلام: لغة لفظية، ولغة جسدية، أي بدون ألفاظ! الإنسان يتأثر باللغة اللفظية بنسبة 40٪، أمَّا اللغة الجسدية، فيتأثر بها بنسة 60٪، وهذه اللغة تشمل: نظرات العين، وطريقة الجلوس وغيرها من الحركات والأوضاع التي نعتمد عليها في حديثنا. مهارة الحوار أيضًا يدخل بها فترات الصمت، بمعنى أنه أثناء حديثك مع شخص آخر، قد يكون هناك فترة صمت لمدة ثوان، فإذا قام الشخص الآخر بالبكاء مثلًا، حاول أن تقدِّر سبب بكائه وحساسية مشاعره. أيضًا نبرات الصوت لها عامل هام، فإذا أردت أن تعطي اهتمامًا في الحديث، وتُشعِر مَنْ أمامك بأهميته عندك، يجب أن تخفِّض نبرة صوتك وكأنك تهمس في أذنه، وهذا يُعطي نوعًا من الخصوصية للآخر، وكأنك تُعطيه رسالة خاصة، وأنه قريب إليك جدًّا وأن هذه الرسالة لا تريد أن يسمعها أحد غيره، وأنصحك أن تصلِّي في قلبك أثناء حديثك مع الآخر، فصلِّي قائلًا: ”يا رب أرشدني وعلِّمني ماذا أقول، اكشف لي يا رب ما يجب أن أتحدَّث به“. المهارة الثانية: هي مهارة الاستماع الإيجابي والإنصات الكياني … فاسمع بابتسامة وأَظهِر الاهتمام والتعبير ببعض الكلمات البسيطة، مثل شاطر، أو ماذا فعلت بعد ذلك؟ … وهكذا من كلمات تُبرِز مدى الاهتمام. كذلك الاهتمام بلغة الجسد فهي تنقل العديد من الرسائل أبلغ وأقوى من الكلمات. وعلى قدر استطاعتك، عليك أن تضع الإنجيل بينك وبين مَنْ تُحدِّثه بالأخص في المقابلات، ويمكنك أن تستعين به في حديثك، فروح الله يستطيع أن يرشد الإنسان، ويعطيه حكمة في الموضوع الذي يتحدَّث فيه. المهارة الثالثة: وهي مهارة القراءة والثقافة والاطلاع، فالقراءة توسِّع مدارك الإنسان وتنميها، مثل علم النفس أو علم الشخصيات، أو كيفية مواجهة المواقف والأزمات، ويقول أحد الآباء: ما أمتع السهر على صفحات كتاب. أخيرًا يا عزيزي أودُّ أن أهمس في أذنك، أن اللمسات الشخصية التي تُقدِّمها للآخرين تصنع فارقًا كبيرًا في كيفية مواجهتهم للمواقف. وتذكَّر أن «رابح النفوس حكيم» (أم 11: 30). الذي هو أساس قانون الحب. قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد
14 نوفمبر 2025

فيض الحب

”مَنْ يترحَّم على إنسان، يصير باب الرب مفتوحًا لطلباته في كل ساعة“ (الشيخ الروحاني) «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقُولُ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (مت 25: 31 – 40). المسيحية والعطاء وجهان لعُملة واحدة، كلاهما حاضر بحضور الآخر في أعماقه وبصفة عامة فإن حياة العطاء مطوَّبة حسب قول الكتاب: «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الأَخْذِ» (أع 20: 35) في البداية دعنا نرى معنى فيض الحب: الإنسان بحاجة إلى أن يعطي: إذ يحقِّق هذا وجوده وكيانه ويُشعره بقيمته وآدميته، وهذا الشعور هو إحدى مكونات الشخصية الناجحة، حتى أن علماء النفس كثيرًا ما يذكرون أن العطاء مصحوب براحة قلبية لذلك عندما يُعطي أب ابنه الصغير مالًا لكي ما يضعه الصغير في صندوق العطاء، فإنه يزرع هذه الفضيلة فيه منذ الصغر، بل وينمِّي شخصيته. وكذلك الأب الذي يساعد أولاده لكي ما يقدِّموا هدية لوالدتهم أو صديق لهم في أي مناسبة فإنه ينمِّي داخلهم هذه الفكرة ويشبع هذه الحاجة. الله ليس محتاجًا على الإطلاق لما نُعطيه مهما كان ومهما ارتفعت قيمته المادية أو المعنوية، والسبب أن الله هو مصدر كل عطية … فهو الخالق والواجد لهذا العالم، ويعقوب الرسول يُذكِّرنا «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلَا ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يع 1: 17). فكلما يحبك المسيح أظهر محبتك له بفيض ووفرة. العطاء وسيلة للتعبير عن مشاعرك نحو الله: تأمل معي في قصة السامرية حين قابلها رب المجد وقال لها: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» (يو 4: 7)، فهو له المجد لم يكن محتاجًا للماء، لأن من عنده تجري كل الأنهار، وإنما كان في حاجة أن يعرف حقيقة مشاعرها الداخلية نحوه وفضيلة العطاء أو الصدقة تُشكِّل إحدى ركائز الحياة الروحية (صوم + صلاة + صدقة)، والمعروف أن كلمة ”صدقة“ وكلمة ”صِدِّيق“ من أصل لغوي واحد، فكأن الصِدِّيق هو الذي يصنع الصدقة. وعندما قال سليمان الحكيم: «اذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ» (جا 12: 1)، إنما كان يتحدَّث بلغة العطاء، لأنه معروف أن حياة الإنسان تنقسم إلى مراحل متتابعة: (الطفولة – النضج/الرجولة – الشيخوخة) المرحلتان الأولى والثالثة هما مرحلتان أخذ، أمَّا المرحلة الثانية وتحوي في داخلها مرحلة الشباب إنما هي مرحلة عطاء بالدرجة الأولى وأنت يا صديقي تستطيع أن تعطي في فترة شبابك ورجولتك أكثر من أي مرحلة أخرى. لك أن تسألني الآن ماذا أعطي؟ هل مالًا أم وقتًا أم ماذا ؟ إني أجيبك: إن ما تستطيع أن تقدِّمه لا يمكن حصره، إنما تستطيع أن تتخيَّل معي سلمًا عليه خمس درجات في ترتيب تصاعدي تمثل درجات العطاء بل ويمكن أن تمزج بين هذه الدرجات الخمس، فالصلاة هي عطاء وقت وقلب وتسبيح وفي خدمة الآخرين يكمُن عطاء المال والوقت والجهد والحب، وهكذا وهنا لا يمكننا أن ننسى أن قمة العطاء الذي بلا حدود هو في تجسُّد ربنا يسوع فهو الذي أعطانا دمه الثمين على عود الصليب، وها هو كل يوم يقدِّم نفسه ذبيحة لأجلنا من خلال القداس الإلهي. وإليك هذه القصة: بالرغم من الطقس البارد والثلج المتساقط، كان يجلس هذا الصبي، خارج منزله الحقير، ولم يرتدِ في رجليه سوى حذاءً رقيقًا، لا يصلح حتى لأيام الصيف. لقد كان يحاول بأقصى جُهده ليفكِّر عمَّا يقدر أن يقدِّمه لأُمه بمناسبة عيد الميلاد، لكن من غير نتيجة، فقد حاول كثيرًا حتى لو استطاع أن يفكر في شيء ما، فليس بحوزته شيء من المال، فمنذ وفاة والده، وهم يعيشون في حالة فقر دائم، فكانت والدته تعمل بأقصى جهدها لأجل أولادها الخمسة. فلم يكن لها إلَّا دخلٌ ضئيلٌ، لكن تلك الأم بالرغم من فقرها، كانت تحب أولادها محبة بلا نهاية كان هذا الصبي حزينًا للغاية، فلقد استطاع إخوته الثلاثة، إعداد هدية لأمه، أمَّا هو وأخيه الصغير، فلم يستطيعا شراء أي شيء، واليوم هو آخر يوم قبل عيد الميلاد. مسح هذا الصبي دموعه، ثم أخذ يسير باتجاه المدينة، ليلقي نظرة أخيرة على الأماكن المزيَّنة والمحلات المليئة بالهدايا والألعاب. كان ينظر من خلال الواجهات، إلى كل ما في الداخل، وعيناه تبرقان، كان كل شيء جميلًا للغاية، لكن لم يكن بمتناوله عمل أي شيء بَدَت الشمس تعلن عن مغيبها، فهَمَّ هذا الصبي بالعودة إلى المنزل، وهو يسير حزينًا مُنكَّس الرأس وفجأة إذ به يرى شيئًا يلمع على الأرض، اندفع هذا الصبي مسرعًا، وإذ به يلتقط 10 قروش من على الأرض ملأ الفرح قلبه، وإذ به يشعر وكأنه ملك كنزًا عظيمًا، ولم يعد يبالي بالبرد، إذ كان في حوزته عشرة قروش دخل أحد المحلات، علَّه يستطيع شراء شيء ما، لكن يا لخيبة الأمل، فقد أعلمه البائع، بأنه لن يستطيع شراء أي شيء بـ 10 قروش، دخل هذا الصبي محلًا آخر لبيع الورود، كان هناك العديد من الزبائن، فانتظر دوره بعد بضع دقائق، سأله البائع عمَّا يريد قدَّم هذا الصبي إلى البائع الـ 10 قروش التي في حوزته، ثم سأل إن كان بإمكانه شراء وردة واحدة لأمه بمناسبة عيد الميلاد. نظر صاحب المحل إلى هذا الولد الصغير مليًّا، ثم أجابه: انتظرني قليلًا سأرى عمَّا باستطاعتي عمله دخل البائع إلى الغرفة الداخلية، ثم بعد قليل عاد وهو يحمل في يديه اثنتي عشرة وردة حمراء، لم يَرَ هذا الصبي نظيرها في الجمال من قبل، ثم أخذ صاحب المحل، يضع بجانبها الزينة وغيرها، ثم وضعها بكل عناية في علبة بيضاء، وقدَّمها إلى ذلك الصبي، وقال: 10 قروش من فضلك أيها الشاب. هل يُعقَل ما يسمع؟ لقد قال له البائع السابق لن تستطيع شراء أي شيء بـ 10 قروش فهل يُعقَل ما يسمعه؟ شعر البائع بتردد الولد فقال له: أنت تريد أن تشتري ورود بـ 10 قروش، أليس كذلك؟ فإليك هذه الورود بـ 10 قروش، فهل تريدها بكل سرور أجاب الولد، معطيًّا كل ما لديه للبائع فتح البائع الباب للصبي، ثم ودَّعه قائلًا عيد ميلاد سعيد يا ابني عاد البائع إلى منزله، وأخبر زوجته بالأمر العجيب الذي حصل معه في ذلك اليوم، فقال لها في هذا اليوم وبينما أُحضِّر الورود جاءني صوت يقول اختر 12 وردة حمراء من أفضل الورود التي لديك، وضعها جانبًا لهدية خاصة لم أدرِ معنى هذا الصوت، لكني شعرت بأنه ينبغي عليَّ أن أطيعه، وقبل أن أغلق المحل، جاءني صبي صغير تبدو عليه علامات الفقر والعوز، راغبًا أن يشتري لأمه وردة واحدة، ومقدِّمًا لي كل ما يملك 10 قروش وأنا إذ نظرت إليه، ذكَّرتُ نفسي، كيف عندما كنت في سنه، كيف لم أملك أي شيء لأُقدِّم لأمي في عيد الميلاد، وذات مرة صنع معي إنسانٌ لم أعرفه من قبل معروفًا لم أنسه إلى هذا اليوم امتلأت عينا الرجل وزوجته بالدموع، ونظرا إلى بعض، وشكرا الله ومن هذه القصة نرى كيف يكون العطاء: 1 – بالمحبة: أترى كيف كان حب هذا الولد لأمه لا بد أن تكون المحبة هي الدافع الأول وراء صِدق المشاعر التي نُقدِّم بها عبادتنا وعطايانا لله وللآخرين، وكما قال سفر النشيد «إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا» (نش 8: 7) فأنت لا تقدِّم مدفوعًا بشعور الواجب أو الخجل أو الاضطرار، ولا حبًّا في الكرامة والتقدير، أو طلبًا للإعلان أو المديح إنما من قلب فيَّاض بالمحبة. 2 – بسخاء: طلب الولد الصغير وردة واحدة قيمتها عشرة قروش، فأعطاه البائع اثنتي عشرة وردة من أجمل ما يكون هذا هو العطاء الحقيقي بدون حساب للماديات، لأن الله ينظر ويعرف والكتاب يقول «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ» (رو 12: 8) لأننا بذلك نتمثَّل بـ «اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ» (يع 1: 5) والعطاء هذا كالزرع «مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ» (2كو 9: 6) ولذلك نسميه فيض الحب. 3 – بفرح وسرور: أترى كيف كان الولد الصغير والبائع سعيدَين بعطائهما يقول الكتاب المقدَّس «الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» (2كو 9: 7) والوصية تقول «مَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» (مت 5: 41) (والمقصود بالميل الثاني أنك ذهبت راضيًا حرًّا) كلما أعطيت، كلما نِلت فرحًا وسرورًا وسلامًا ولكن عندما تُعطي احرص أن يكون: 1- أفضل ما عندك إن العطاء هو مشاعر قبل أي شيء ومشاعرنا نُعبِّر عنها بأفضل ما عندنا إن هابيل الصدِّيق قدَّم أفضل ما عنده من الذبائح بينما أخوه قايين اختار تقدمة من ثمار الأرض دون أن يدقِّق فيها (تك 4: 4 – 5) إن هذا المبدأ ينطبق في حياتنا العملية بأمثلة كثيرة منها: اختيار الوقت الأفضل المناسب للصلاة كالصباح الباكر أفضل وقت. اختيار الذهن النشط المناسب لقراءة الكتاب المقدَّس أفضل تركيز. تقديم النقود في حالة جيدة، وليس القديم أو المُستهلَك أفضل صورة. تقديم التسابيح والألحان بأفضل ما عندنا من أنغام وأصوات أفضل نغم. 2- أن تكون في الخفاء وليس هناك أبلغ من قول الكتاب «لَا ‏تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ» (مت 6: 3)، ويعتبر هذا مبدأ مشترك في كل أركان العبادة أمَّا إن كان العطاء طلبًا للدعاية أو لنوال مركز أو لمدح الذات، فإنه يفقد قيمته بل ويصير دينونة. 3- أن تكون ذا نفع لمَنْ تُعطَى له فليست العبرة أن تعطي وحسب، إنما حسب احتياج الآخرين لهذا العطاء لا تنسَ هذه الوصية كما توضِّحها الآيات التالية: «لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (1أي 29: 14) «مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أم 19: 17) «هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ … وَجَرِّبُونِي» (ملا 3: 10)«أَعْطُوا تُعْطَوْا» (لو 6: 38) «لِيُعْطِكَ (الرب) حَسَبَ قَلْبِكَ» (مز 20: 4). تدريب: اقرأ بتأمل المزمور 41. قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد
07 نوفمبر 2025

ذبيحة الحب

” هذه المائدة هي عضد نفوسنا .. رباط ذهننا .. أساس رجائنا وخلاصنا ونورنا وحياتنا. عندما ترى المائدة معدَّة قُدامك قُل لنفسك: من أجل جسدهِ لا أعود أكون ترابًا ورمادًا، ولا أكون سجينًا بل حُرًّا. من أجل هذا الجسد أترجى السماء“(القديس يوحنا الذهبي الفم) مزمور لداود «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي كَأْسِي رَيًّا. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ» (مز 23). اقرأ المزمور السابق مرة أخرى ثم دعنا نتأمل فيه قليلًا يقدِّم لنا هذا المزمور صورة عن الحياة المسيحية … فالمراعي الخُضر هي كلمة الله وماء الراحة هو المعمودية … بينما يمثل وادي ظل الموت الدفن في المعمودية، والدُهن كذلك يمثِّل الميرون. أمَّا المائدة فهي سر الإفخارستيا، والكأس هو عصير الكرمة، وبيت الرب هو الكنيسة. إنها ذبيحة الحب الإلهي في سر الإفخارستيا أو التناول المقدَّس الذي هو: نعمة غير منظورة من خلال القداس الإلهي الذي يمثل قمة الصلوات المسيحية، فالقداس الإلهي سواء بصلوات الأب الكاهن أو مردات الشعب غني بالطقوس والقراءات الكتابية والألحان والمدايح. الله صاحب كل النعم في حياتك وليس لك فضل في شيء، وفي سر الإفخارستيا كأنك تأخذ مما أعطاك الله لتشكره به، فتصير ذبيحة الخبز والخمر ذبيحة شُكر، وبعد التقديس تصير الذبيحة جسد ودم المسيح بالحقيقة. المسيح هنا هو الكاهن والذبيحة … ففي كل مرة تحضر القداس الإلهي كأنك في وقت الصليب تمامًا والمسيح المصلوب هو حاضر، فهل عندما تتقدَّم لهذا السر تشعر بحضور المسيح فيه؟ القداس الإلهي خارج حيز الزمن وكأن المسيح يُذكِّرنا: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي» (مت 26: 26)، وهذا ما يكرِّره الأب الكاهن في القداس عن فم المسيح، وبفاعلية عمل الروح القدس. يقول الآباء: [المسيحيون يُقيمون سر الإفخارستيا، وسر الإفخارستيا يُقيم المسيحيين]. أتتساءل الآن: لماذا لا أشعر بفائدة من القداس الإلهي؟ هناك أسباب عدة منها: الحضور المتأخر: كل صلوات القداس منذ بدايتها (عشية – باكر – تقدمة الحَمَل – قداس الموعوظين – قداس المؤمنين) إلى نهايتها وحدة واحدة، وعدم حضور أي منها يُفقدك جوهرة ثمينة من جواهر القداس الإلهي، فضلًا عن غياب التهيئة المناسبة للحضور بالاستعداد الذهني والروحي والجسدي. الحضور الروتيني: وفي ذلك عدم الاشتراك في المردات والألحان، فالقداس الإلهي هو سيمفونية مقدَّسة مُشتركة بين الكاهن والشماس والشعب. فضلًا عن عدم التركيز والسرحان والانشغال بأمور الحياة، ويتبقَّى لنا في هذه النقطة … الانشغال بالإداريات مثل: جمع العطاء، البيع، التنظيم … التي بدورها تعوِّق الإنسان عن التمتُّع بالقداس الإلهي. في الكنيسة نحن مشاركون ولسنا مشاهدين. الحضور الشكلي: ولهذه النقطة أشكال عدة مِثْل: عدم التناول، عدم الاعتراف، وكذلك الجلوس في آخر الكنيسة ومحادثة الآخرين، الدخول والخروج كثيرًا أثناء الصلوات … كل ما سبق وغيره يمثِّل أساليب عدة يحاول بها عدو الخير أن يمنعك عن التمتُّع بالقداس الإلهي، وبالتالي عن الشبع بالمسيح وعدم الشعور بفائدة الحضور. خلال الفترات السابقة ومع انتشار وباء كورونا، أُغلِقت الكنائس بعض الوقت وصار هناك حضور الكنيسة محدودًا عددًا ووقتًا، وشعرنا باحتياجنا الشديد للكنيسة ولذا نصلِّي ونطلب شفاعة العذراء مريم: اجعلي أبواب الكنائس مفتوحة للمؤمنين. يقول سفر المزامير: «تَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ» (مز 37: 5). الآن: كيف أتلذَّذ من القداس الإلهي؟ في خطوات عملية سأوضِّح لك كيف يمكنك التمتع بالقداس الإلهي … ولكن في البداية ضع في قلبك أن القداس الإلهي هو رحلة شَيِّقة للتمتع بالمعية الإلهية. افهم سر الإفخارستيا … كُن واعيًا لعظمة السر وعمل المسيح فيه، وكأنك تستحضر بداخلك ما صنعه الفادي المحب لأجلك وقت الصليب. في طريقك إلى الكنيسة ردِّد: «فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ» (مز 122: 1) … املأ قلبك وذهنك بالاستعداد لمقابلة ملك الملوك ورب الأرباب. استعد بنفسك لكي ما تشعر بعمق هذا السر في حياتك، فالاستعداد النفسي سيُهيِّئ قلبك ليحل المسيح فيه … اقرأ قراءات القداس الإلهي في الليلة السابقة، وخذ قسطًا كافيًا من النوم، كي تتجنب الإرهاق الجسدي قبل الحضور في القداس. شارك في القداس الإلهي بكل كيانك … اجلس في الصفوف الأمامية. احضر مُبكِّرًا … وقوفك في القداس الإلهي سيملأ قلبك بالخشوع وكأنك تمجد الله بتلك الصحة التي منحك إياها. اشترك في صلوات القداس الإلهي … سبِّح الله بالمردات والألحان وأنصت للقراءات وتعلَّم من السنكسار والعظة. عِش صلوات القداس الإلهي بفاعلية … عِش مع المسيح صلبَه وقيامتَه وانتظار الكنيسة لمجيئه الثاني بجهاد روحي مستمر. ارفع قلبك بالصلوات سواء التي تمجِّد فيها الله على عِظم صنيعه معنا، أو التي تطلب فيها غفران خطاياك، أو تصلِّي لأجل المتألِّمين والمرضى والذين رقدوا. استمتع بعِشرة القديسين في المجمع المقدَّس، ومن خلال الأيقونات … انظر إلى نهاية سيرتهم وتمثَّل بإيمانهم. أتركك الآن مع باقة من أقوال الآباء عن القداس الإلهي: [إن اتحادنا بالمسيح بتناولنا من جسده ودمه، أسمى من كل اتحاد](القديس أثناسيوس الرسولي) [أعطانا (الله) جسده الحقيقي ودمه، لكي تتلاشى قوة الفساد، ويسكن في أنفسنا بالروح القدس، ونصير شركاء بالقداسة وأناسًا روحيين](القديس البابا كيرلس عمود الدين) [إن المائدة السرية جسد المسيح تمدنا بالقوة ضد النزوات وضد الشياطين، ذلك لأن الشيطان يخاف من هؤلاء الذين يشتركون في الأسرار بوقار وتقوى](القديس البابا كيرلس عمود الدين) [نحن الكثيرين صرنا واحدًا، جسدًا واحدًا؛ لأننا جميعًا نشترك في الخبز الواحد](القديس يوحنا ذهبي الفم) [إن رئيس كهنتنا الأعظم قدَّم الذبيحة التي تُطهِّرنا على الصليب ومن ذلك الوقت إلى الآن نُقدِّم نحن أيضًا هذه الذبيحة نفسها، وهذه الذبيحة غير الفانية وغير النافدة (لأنها غير محدودة) هي نفسها ستُتَمَّم إلى انقضاء الدهر حسب وصية المخلِّص: ”هذا اصنعوه لذكري“] (القديس يوحنا ذهبي الفم) في النهاية أودُّ أن أقدِّم لك تدريبًا عمليًّا يقودك لعمق صلوات القداس الإلهي، سأتركك عزيزي القارئ مع إحدى صلوات القسمة التي تُقال في القداس الإلهي؛ لتتأمَّلها ثم تُدَوِّن تأمُلك، وصلاة شخصية منها: [أيها الابن الوحيد الإله الكلمة الذي أحبنا، وحبه أراد أن يُخلِّصنا من الهلاك الأبدي ولما كان الموت في طريق خلاصنا، اشتهى أن يجوز فيه حُبًّا بنا. وهكذا ارتفع على الصليب ليحمل عقاب خطايانا، نحن الذين أخطأنا، وهو الذي تألَّم. نحن الذين صِرنا مديونين للعدل الإلهي بذنوبنا، وهو الذي دفع الديون عنَّا. لأجلنا فضَّل التألُّم على التنعُّم، والشقاء على الراحة، والهوان على المجد، والصليب على العرش الذي يحمله الكاروبيم. قَبِلَ أن يُربَط بالحبال، ليحلنا من رباطات خطايانا، وتواضع ليرفعنا، وجاع ليُشبعنا، وعطش ليروينا، وصَعِد إلى الصليب عُريانًا ليكسونا بثوب برِّه، وفُتح جنبه بالحربة لكي ندخل إليه ونسكن في عرش نعمته، ولكي يسيل الدم من جسده لنغتسل من آثامنا، وأخيرًا مات ودُفن في القبر ليُقيمنا من موت الخطية ويُحيينا حياةً أبديةً. فيا إلهي إن خطاياي هي الشوك الذي يُوخز رأسك المقدَّسة، أنا الذي أحزنتُ قلبك بسروري بملاذ الدنيا الباطلة. وما هذه الطريق المؤدية للموت التي أنت سائر فيها يا إلهي ومخلِّصي، أي شيء تحمل على منكبيك؟ هو صليب العار الذي حملتَه عوضًا عني. ما هذا أيها الفادي؟ ما الذي جعلك ترضَى بذلك؟ أيُّها العظيم؟! أيُذَلُّ الممجَّد؟! أيوضَع المُرتفع؟! يا لعِظم حُبك!! نعم هو حُبك العظيم الذي جعلك تقبل احتمال كل ذلك العذاب من أجلي. أشكرك يا إلهي وتشكرك عني ملائكتك وخليقتك جميعًا لأني عاجز عن القيام بحمدك كما يستحق حُبك، فهل رأينا حُبًّا أعظم من هذا؟! فاحْزَني يا نفسي على خطاياكِ التي سبَّبت لفاديكِ الحنون هذه الآلام. ارسمي جُروحَه أمامكِ، واحتمي فيه عندما يهيج عليكِ العدو. أعطِني يا مخلِّصي أن أعتبر عذابَكَ كنزي، وإكليلَ الشوكِ مَجدي، وأوجاعك تنعُّمي، ومرارتك حلاوتي، ودمك حياتي، ومحبتك فخري وشُكري. يا جراحَ المسيح اجرحيني بحرْبَةِ الحُبِّ الإلهي، يا موتَ المسيح، أسكرني بحبِّ مَنْ مات من أجلي، يا دَمَ المسيح، طهِّرني من كلِّ خطية. يا يسوع حبيبي، إذا رأيتني عضوًا يا بسًا، رَطِّبني بزيت نعمتك وثبِّتني فيك غُصنًا حيًّا أيها الكرمةُ الحقيقية؟ وحينما أتقدَّم لتناول أسرارك، اجعلني مستحقًا لذلك ومؤهَّلًا للاتحاد بكَ لكي أناديك أيها الآب السماوي بنغمة البنين قائلًا: أبانا الذي …]. قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد
31 أكتوبر 2025

“زمن الحب”

”الصوم هو الوسيلة لضبط الأهواء والشهوات، حتى تنسجم حياة المسيحي مع روح الله الذي يقوده في طاعة وخضوع“ (القمص بيشوي كامل) «أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ. حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: هَأَنَذَا. إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسْطِكَ النِّيرَ وَالإِيمَاءَ بِالأُصْبُعِ وَكَلاَمَ الإِثْمِ، وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ. وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبِعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيًّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ» (إش 58: 6 – 11). من خلال قراءتنا السابقة يوضِّح لنا إشعياء النبي مبادئ روحية هامة: كيف يُمثِّل الصوم ركنًا أساسيًّا من أركان الحياة الروحية؟ فالصوم هو ممارسة تعبُّدية، ولكن يجب أن تخلو من الرياء وفي هذا الأصحاح يشرح لنا كيف يمكن أن تتسلَّل هذه الخطية (الرياء) إلى حياة الإنسان دون أن يدري. تأمَّل معي في العدد الثاني من هذا الأصحاح إذ يقول: «وَإِيَّايَ يَطْلُبُونَ يَوْمًا فَيَوْمًا »، يصلُّون ولكنها صلاة ظاهرة من الشفتين أو من اللسان، ولا تتعدَّى ذلك، ويبقى قلب الإنسان كما هو لا يتغيَّر، لذلك عندما ينتهي من الصلاة تجده يتصرَّف تصرفات غير مقبولة وغير لائقة ولا تتماشى مع صلاته مطلقًا. ربما تسألني الآن، كيف للخطية أن تتسلَّل لحياة الإنسان دون أن يدري؟ أجيبك: إن لخطية الرياء مظاهرَ عدَّة دعنا نسردها سويًّا: مظهر من مظاهر الرياء هو ادعاء المعرفة العقلانية: تشعر وأنت جالس مع الشخص أنه موسوعة، ولكنها ليست موسوعة اتضاع، ولكن موسوعة كبرياء، يفتخر بذاته وبما حصَّله من معارف، وكانت طائفة الفريسيين هم من قمة طوائف اليهود، فكلمة ”فريسي“ معناها ”مُفرَز“، بينما كان الكتبة أشخاصًا متميِّزين جدًّا (الكتبة هم الناسخون) وبالرغم من كل ذلك كانوا بعيدين عن الطريق الروحي كثيرًا، وقد وبَّخهم السيد المسيح مرات عديدة، وفي السنوات الأخيرة ظهرت هذه الخطية في أصحاب بعض مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتفاخرون بمعرفتهم عن كبرياء يصل إلى تشويه الآخر ونشر أكاذيب أو التفاخر بأنهم أصحاب الحقيقة أو أصحاب الصواب فقط. مظهر آخر وهو إظهار الغيرة ونسميه أحيانًا ”ناموسي“: ناموسي بمعنى ”حرفي“ أي يحيا بالحرف، والحياة المسيحية عندما تتعمَّق فيها تجدها تعتمد على القلب والروح، ولا تعتمد على الحرف، ومن يحيا بالحرف لا يمكنه أن يدرك المسيح لذلك قال ربنا يسوع المسيح «مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (مت 5: 17)، فالمقصود هو أن يكمِّل القديم، فتقرأ العهد القديم بروح العهد الجديد، وتتحوَّل الوصية في حياتك إلى شهادة عملية عن علاقتك بالله، وهؤلاء هم أصحاب السبت يتمسَّكون بالحرف فقط دون إعمال للعقل والقلب والإحساس والرحمة. صورة ثالثة أن الإنسان يتظاهر أنه قريب من الله: ”يُسر بالتقرُّب إلى الله“ (إش 58: 2) من خلال طقوس وممارسات مُعيَّنة يتظاهر أنه قريب من الله وحقيقته من الداخل غير ذلك، تصوَّر معي إنسانًا يقضي يومه صائمًا ويمارس ممارسات روحية، ثم بعد فترة الصوم يغضب بشدَّة ويسقط في خطايا عديدة فماذا استفاد إذن من صومه؟ فترة الصوم هي فترة تساعد الإنسان في نموه الروحي، وليست مجرد الامتناع عن الطعام. والآن دعني أسألك: لماذا الصوم الذي تحدَّث عنه إشعياء النبي في هذا الأصحاح كان مرفوضًا؟ هناك ثلاثة أسباب واضحة في الأعداد (3، 4، 5): 1 – أن هذا الصوم كان غير مُنضبط: هو صوم يُسِرُّ صاحبَه ولا يُسِرُّ الله، فهو صوم لا يسير بنظام بل يستعرض فيه الإنسان إمكانياته وقدراته. 2 – أن هذا الصوم كان بلا صمت: الصوم ليس عن الطعام فقط، بل أيضًا عن الكلام، فهذا الصوم المرفوض ليس فيه صمت بل فيه خصومة مع الغيرة، وفيه إدانة للآخرين وكثرة كلام. 3 – أيضًا هذا الصوم مرفوض لأنه بلا تذلُّل: هو شكل بلا جوهر فهو مجرد منظر خارجي، لذا تحرص الكنيسة أن ترتب لنا في الأصوام قداسات لأوقات متأخرة لتُساعد الإنسان في ممارساته الروحية. والآن يا عزيزي، حان لنا أن نُفكَّر سويًّا كيف نصوم، وكيف ننال بركات الصوم الذي هو زمن للحب بينك وبين الله في فترة الصوم المقدَّس، احرص أن تُقدِّم لنفسك ثلاثة أنواع من الأغذية: غذاء روحي غذاء ذهني وغذاء نُسكي 1- الغذاء الروحي:- وهو ما تُقدِّمه لنا الكنيسة في كل أشكال العبادة، وممارسة الأسرار جيد أن تتقابل مع أب اعترافك قبل الصوم، وتضع خطة للصوم، ولا تتكاسل في تنفيذها، فترات الانقطاع والقداسات المتأخرة مع الميطانيات وفترات السكون كلها وسائل روحية مفيدة. 2- الغذاء الذهني:- الذي يعتمد أساسًا على القراءات الإنجيلية، والكنسية تُعلِّمنا في فترة الصوم المقدَّس أن نقرأ النبوات ويمكنك أن تأخذ سفرًا واحدًا مثل إشعياء، إرميا، أو تأخذ مجموعة أسفار مثل: أسفار الأنبياء الصغار، لكن يجب أن تقرأ يوميًّا، وليست قراءة فقط، بل ادرس وافهم وعش وقراءة النبوات مفيدة جدًّا إذ تكشف مقاصد الله في حياتك، كما يمكنك أن تأخذ صاحب السفر كشفيع لك في أيام الصوم مع أوقات القراءة. 3- الغذاء النسكي:- نُسكياتك هامة جدًّا في الصوم، الانقطاع شيء مهم لتقوية الإرادة أيضًا الطعام النباتي هو طعام هادئ الطاقة وهو طعام صحي ومفيد للإنسان أيضًا الميطانيات (سجدات التوبة) من القلب وليس بالجسد فقط، وهي مُرتبطة بالصلوات، فيها الصلاة القصيرة: ”يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ“ احرص أثناء سجودك في الميطانيات أن ترشم ذاتك بعلامة الصليب. يمكنك أن تبدأ بـ 12 ميطانية في أول يوم، وتزداد تدريجيًّا كل يوم مع الصوم وتقدمها بروح الصلاة هذه الميطانيات هي وسيلة مُساعدة لتركيز الذهن، فيها تعب وبذل، وهذا التعب يُذكرك بأتعاب المسيح من أجلك أيضًا فترات الاعتكاف هي جزء هام من نُسكياتك خلال الصوم، ويُستفاد منها كفترات تأمل وقراءة وصلاة أو ترنيم وتسبيح فترة الصوم يا إخوتي تحكمها الآية التي تقول: «كُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (1كو 9: 25)، وأيضًا ينطبق عليها الآية: «الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاجِ» (مز 126: 5)، الذين يزرعون بدموع التوبة في فترة الصوم يحصدون بالابتهاج في القيامة المجيدة. وللصوم بركات كثيرة: استجابة الصلوات: لأنك عندما تحيا حياة الصوم، تشعر بالانسحاق والخشوع وتخرج صلواتك من داخلك عميقة وتدخل فيها روح الإيمان، صلوات مرفوعة من قلب نقي. بركات أخرى هي: أن يصير الرب لذَّةً للإنسان، فأنت تصوم عن الطعام لكي تتحوَّل لذَّة الطاعة في داخلك إلى لذَّة للرب، ويكون المسيح هو لذَّتك، وكما يقول معلِّمنا داود النبي: «تَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ» (مز 37: 4). بركة ثالثة: أن الإنسان يشعر بارتفاعه، وكما يقول داود النبي: «لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ!» (مز 55: 6). يرتفع فوق الماديات، وحتى فوق احتياجات الجسد، ويشعر أن رباطات الأرض تصير ضعيفة، ويشعر أنه يقترب من السماء ويحيا بهذه الروح. بركة رابعة: إن الإنسان ينال الصحة الجسدية: الطعام النباتي يمنح الإنسان شكلًا من الطاقة الهادئة، فلا يكون الطعام مثيرًا في جسده أو في حياته فيعطيه صحة جسدية، ويقول إشعياء النبي في هذا الأصحاح: «تَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا» (إش 58: 8). أيضًا في الصوم ينال الإنسان استنارة: ولا أقصد للعين الجسدية، ولكن العين القلبية، عندما يقرأ الإنسان الإنجيل يفهم أكثر، وعندما يشارك في التسبيح يعيش أكثر، وعندما يمارس ميطانيات يتمتع أكثر. عمل الرحمة بكل أشكالها يُعتبر وسيلةً فعَّالةً في الصوم للإحساس بالآخر وطوبى للرحماء على المساكين لأنه ليس رحمة في الدينونة لمَنْ لم يعمل رحمة. أيام الصوم أيام ثمينة وغالية فاهتم بها واستفد منها لأنها بالحقيقة كنز روحي يدوم معك السنة كلها. قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد
24 أكتوبر 2025

“شهد الحب”

”هل يدفعك الشوق والحب المقدَّس للمسيح إلى القراءة في الكتاب المقدَّس؟ إن كان ذلك فطوباك وإن لم يكن فما زلت بعيدًا عن الطريق“ (القمص بيشوي كامل) «لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا. فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرَ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ» (عب 4: 12 – 16) الكتاب المقدَّس شهد وزاد في الطريق الروحي لأنه: هو كلام الله (رسالة الله وحديثه للإنسان). هو موضع لقاء (مكان يلتقي فيه الإنسان مع الله). هو تاريخ البشرية (حياة البشر على الأرض). هو قانون الدينونة (دستور يوم الحساب الأخير). لقد صار حب الله لك شهدًا في آيات الكتاب المقدَّس كما عبَّر داود النبي عنها قائلًا « أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ» (مز 19: 10) ولكي تشعر بأهمية الكتاب المقدَّس وضرورة وجوده، يلزم أن تجيب على هذه الأسئلة الثلاثة بالترتيب: 1 – هل ”تعي“ أهمية وجود الكتاب المقدَّس في الحياة البشرية؟ 2 – هل لك ”اقتناع“ بضرورة قراءة الكتاب المقدَّس شخصيًّا؟ 3 – هل لديك ”إيمان“ بقدرة الكتاب المقدَّس، وقوة تأثيره؟ فإذا جاءت إجابتك نعم على هذه الأسئلة الثلاثة فلِمَ لا تستفيد من هذه القوة وتستأثرها لصالحك؟! يقول القديس إمبروسيوس [ نخاطب الله إذ نُصلِّي، ونَصْغَى إليه إذ نقرأ الكتاب المقدَّس] وهذه أمثلة: داود النبي يقول «لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي، لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي» (مز 119: 92) الرهبان قديمًا كانوا يقرأون سفر المزامير كل يوم (الأجبية حاليًا) الكنيسة قديمًا كانت تقرأ الكتاب كله خلال أسبوع الآلام يوحنا الذهبي الفم كان يقرأ في رسائل بولس كل يوم الأنبا أبرآم صديق الفقراء كان يقرأ الكتاب كله كل 40 يومًا والسؤال الآن ما الذي يمنعني عن الاستفادة من الكتاب المقدَّس؟ سنحاول أيها القارئ الحبيب أن نحلِّل معًا بعض المشاكل والمُعوِّقات التي تعوِّق استفادتنا من الكتاب المقدَّس، وبنعمة المسيح نحاول أن نستعرض حلولًا لهذه العقبات. 1 – مشكلة الوقت:- لعلك تقول ”مشغولياتي اليومية كثيرة ومتنوِّعة، مما يسبِّب ضيق شديد في الوقت، ولذلك لا أجد وقتًا للقراءة اليومية أو الدراسة وعادة أترك الأمر للظروف“. أجيبك هذا مُعطِّل وهمي لكل العبادات الروحية، وهو عادة وسيلة يغطِّي بها الإنسان على كسله وتوانيه، فالذي يقول إنه ليس لديه وقت لقراءة الكتاب المقدَّس، يمكنه أن يقول بنفس المنطق أنه ليس لديه وقت يذهب فيه إلى الملكوت وإن لم تكن قراءة الإنجيل مستطاعة لديك، فأنت بذلك تجعل قلبك مسكنًا خاليًا وجاهزًا لسُكنى عدو الخير إذ لا يوجد فيه تأمل ولا قراءة ولا أفكار روحية ولا انشغال بالسماويات نصيحتي لك لا بد أن تجد وقتًا لنفسك ولكتابك المقدَّس اجمع فُتات الوقت الضائع في كل يوم وسوف تجده ليس بقليل فكِّر وحاول، وقطعًا سوف تجد وقتًا واعلم أن الله ليس مُحتاجًا إلى هذا الوقت الذي ستقرأ فيه بل أنت المحتاج إليه أولًا ودائمًا، كما نُصلِّي في القداس الإلهي (الغريغوري) [لم تكن أنتَ مُحتاجًا إلى عبوديتي، بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك] إليك ثلاث خطوات عملية للتغلُّب على مشكلة الوقت:- 1 – مشكلة الوقت:- اختر وقتًا مناسبًا للقراءة: من أجمل فترات القراءة هي أول النهار، حيث تأخذ بركة تدوم اليوم كله البعض يختار وقت ما قبل النوم، وهذا وإن كان مناسبًا للبعض إلَّا أن وقت النوم عادة ما يكون الإنسان مرهقًا، ومن ثم تكون الاستفادة قليلة. اختر وقتًا ثابتًا للقراءة: ابدأ على سبيل المثال بعشر دقائق تزداد تدريجيًّا ولا تربط هذا الوقت المُحدَّد بأي عادة أخرى (مثل القراءة قبل المذاكرة المسائية وعندما تبدأ الإجازات أو تنتهي فترة الدراسة لا يكون لقراءة الكتاب وقت ثابت)، بل اجعله عادة تتربَّى فيك. اختر وقتًا كافيًا للقراءة: ضع دائمًا في قلبك أن تمتلئ روحيًّا وتشعر بمعيَّة الله من خلال قراءاتك. 2 – مشكلة الكم:- لعلك تتساءل كم أصحاح أقرأ كل يوم؟ هل أكتفي بقراءة أصحاح واحد أن اثنين (أصحاح من كل عهد)؟ هل أُركِّز وأكتفي بجزء من أصحاح أو عدة آيات فقط؟ نصيحتي لك إن تحديد كم القراءة لا بُد أن يكون تبعًا لحالة الإنسان الروحية، وذلك تحت إرشاد أب الاعتراف ولكن للمبتدئين يُنصَح دائمًا بقراءة أصحاح من العهد القديم، وأصحاح من العهد الجديد كل يوم ويمكن قراءة الكتاب كُله في سنة بواقع أصحاحين من كل العهد القديم + أصحاح من العهد الجديد كل يوم وللمتقدِّمين على الطريق يمكنهم قراءة سفر (أو عدة أسفار صغيرة) كل شهر، وذلك من أجل التركيز ويمكن القراءة بحسب المناسبات الكنسية، مثلًا في أوقات الأصوام أقرأ من أسفار العهد القديم: في صوم الميلاد أحد أسفار موسى الخمسة. في الصوم الكبير أحد أسفار الأنبياء. في صوم الرسل أحد الأسفار التاريخية. في صوم العذراء أحد الأسفار الشعرية. 3 – مشكلة الكيف:- لعلَّه في ذهنك ”كيف أقرأ الإنجيل؟ هل قراءته تختلف عن قراءة باقي الكتب؟ هل يستلزم ذلك وضعًا معينًا أو تهيئة معينة؟ هل أكتفي بالقراءة بالعين أم بصوت مسموع؟ هل أكتب الآيات التي تجذبني في نوتة خارجية، أم أكتفي بأن أضع تحتها خطًا في الكتاب المقدَّس؟. نصيحتي لك أن تضع في قلبك دائمًا أن قراءة الكتاب المقدَّس هي للفهم والحياة بالقلب والفكر والإرادة والقدرة هي قراءة للفهم وليس للفحص أو المحاجاة أو الاستذكار. والمرتِّل يقول: «لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز 119: 96) فهم الكتاب المقدَّس ليس ذلك الفهم الذي يتأمل في جمال الكلمات ويشرح معانيها ولكنه الفهم النابع من الخبرة واختبار المسيح في ياتك. هذا الذي بدوره يتحوَّل إلى حياة، ويجعل للإنسان صلةً حيَّةً بالمسيح: بالروح لأن هذا الكلام هو روح وحياة (يو 6: 36). بخشوع اكشف عن عينيَّ أنت في حضرة الله. باتضاع فأرى عجائب من شريعتك. بإرشاد الروح القدس على فهمك لا تعتمد. يُفضَّل أن تربط بين القراءة والكتابة في دراستك الكتابية مثل وضع عناوين جانبية لكل جزء تقرأه وضع خطوطًا تحت الآيات المختارة (يُفضَّل استخدام الألوان) كتابة الآيات المختارة في كراسات خاصة أو نوت صغيرة التعليق بتأملات وصلوات على هذه الآيات كتابة آية اليوم في كارت صغير يكون معك طول اليوم. 4 – مشكلة المداومة والاستمرار:- لعلك أيضًا تتساءل أنا أقرأ الكتاب ولكن ليس كل يوم، أنا أواظب على القراءة وقت الدراسة أمَّا فترة الإجازة فتمر دون فتح الإنجيل فماذا أفعل؟ ضع في ذهنك أن نقطة الماء إذا نزلت بمداومة على صخرة، فإنها تحفر فيها مجرًى وطريقًا، وكلمة الله هي تلك القطرة التي بمداومة القراءة لا بد أن تحفر في قلبك طريقًا يُغيِّر من حياتك بجملتها، فالقراءة والفهم والمعرفة هي للعمل والسلوك قبل أن تكون للكلام والوعظ والأحاديث والتأملات فضلًا عن أن السبب الرئيسي للضعف الروحي والهزيمة المستمرة أمام الخطية يعود إلى إهمال كلمة الله، فالذي لا يداوم على قراءة كلمة الله تذبل حياته الروحية وتجف ويقع في خطايا عديدة ويُساق إلى الدينونة، كما يقول ذهبي الفم [إن علَّة جميع الشرور هي عدم معرفة الكتب المقدَّسة]. نصيحتي لك إن شعرت بصعوبة في المداومة والاستمرار على قراءة كلمة الله، أن ترتبط بمجموعة في القراءة والدراسة، فذلك يشجِّع كثيرًا على الاستمرار وعدم الإهمال، لأن فكرة درس الكتاب في مجموعات (10 – 12 فرد) تكون مشجِّعةً على الاستمرار. 5 – مشكلة الفهم والمعرفة:- تتساءل أيضًا ”كثيرًا ما أقرأ ولا أفهم، وأحيانًا أستصعب الجزء الذي أقرأه، وهناك أجزاء من الكتاب المقدَّس لم أحاول التطرّق إليها، لأنني أسمع عن مدى صعوبتها بالإضافة إلى أني لا أفهمهما لماذا؟“. أجيبك عزيزي القارئ إن السبب في ذل هو تقصيرنا أولًا وأخيرًا فهل تُصلي وتطلب من الرب قبل أن تقرأ؟ وإذا تعسَّر عليك أمر، هل تُصلِّي من أجله ليكشفه الرب لك؟ وهل تُعطي وقتًا كافيًا في الجزء الذي تقرأه؟ وهل تختار السفر المناسب لحالته الروحية والمناسبة الكنسية؟ وهل تستعين بقراءة التفاسير وسير الشخصيات الكتابية؟ وهل تستعين بالجداول والخرائط والأشكال التوضيحية التي تساعدك؟ وهل تسأل الآباء والإخوة فيما استعصى عليك؟ إليك بعض الكتب المساعدة لكَ في الفهم والمعرفة الكتاب المقدَّس بشواهد أو بالخلفيات التوضيحية قاموس الكتاب المقدَّس (كلمات أبجدية) أطلس الكتاب المقدَّس (آيات أبجدية) مُرشد الكتاب المقدَّس (مقدِّمات للأسفار) وتوجد تفاسير باللغة العربية كثيرة منها ما هو مرجعي ودراسي ومنها ما هو سهل ومختصر مثل الموسوعة الكنسية التي تصدرها كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة. 6 – مشكلة النمو والتقدُّم:- أقرأ في الكتاب ولا أشعر بأي نمو في حياتي فخطاياي ما زالت كما هي أقرأ ولكنني سريعًا ما أنسى ما قرأته ماذا أفعل؟ يقول الله عن كلمته «اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (مت 24: 35)، وهذا معناه أن كلمة الله ذات مفعول حتمي ويوضِّح الرب قصده من كلمته فيقول: «هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِيمَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إش 55: 11) على هذا الأساس فإن مجرَّد قراءة الكتاب هو قوة، وأيضًا كشف لطريق حياتي «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مز 119: 105) ولكي تشعر بنمو في حياتك الروحية: حاول أن تحفظ بعض الأجزاء والآيات التي تفيدك في حياتك العملية خاصة وقت التجارب. إذا جلست لمحاسبة نفسك، فافتح كتابك، واطلب من الله أن يكشف لك نفسك على ضوء كلمته. ادرس الكتاب بحب، فهو رسالة الله لك أنت شخصيًّا قبل أن تقرأ صلِّ «آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ»وامنحني نعمةً ونموًّا. 7 – مشكلة الاستخدام:- بقي لك أن تسألني، فيم أستخدم معرفتي بالكتاب المقدَّس؟ ما هي الفائدة التي تعود عليَّ من قراءة الكتاب المقدَّس؟ إن أسوأ استخدام للكتاب المقدَّس هو أن نجعله مصدرًا لاقتباس الآيات وحسب إن الكتاب المقدَّس مرشد عملي لحياة الإنسان فهو يبني شخصية الإنسان ويُكوِّنها لأن مَنْ يقرأ عن أبطال الإيمان وسير حياتهم يصير كواحد منهم، تمامًا كمَنْ يقرأ عن الرياضيين فيصير واحدًا منهم إن هذه القراءة المقدسة تُكوِّن جزءًا كبيرًا من شخصية القارئ وتُقدِّس فيه المشاعر والمبادئ والصور هذه القراءة المقدسة تُقدِّس معارف الإنسان وتبني روحياته، وتساعده كثيرًا في الصلاة وسير حياتهم في خدمة الآخرين وتقديم الكلمة المعزية لهم في كل مناسبات الافتقاد ويجعل الإنسان في حضرة الله على الدوام يُعزِّي الإنسان في طريق الحياة في مختلف المواقف، ويجعل كلمة الله لا تفارق فمه، لأنها أحلى من الشهد. أخيرًا أود أن أُقدِّم لك بعض التداريب الخاصة بقراءة الكتاب المقدَّس: كتابة فصول قداسات الآحاد في كراسات خاصة مع تأملات حولها. حفظ آيات على الحروف أو المواقف. القراءة بهدف ”كعناية الله بالإنسان“ أو استخراج الصلوات الكتابية. رسم الخرائط وتصميم الجداول والأشكال التوضيحية. دراسة موضوع تحت عنوان: ”ماذا يقول الكتاب عن ؟“. البحث الخاص أو المشترك مع بعض الإخوة والأصدقاء. كل عمل تعمله يكون لك شاهد عليه من الكتب المقدَّسة. سأتركك الآن عزيزي مع بعض الأقوال ”للقمص بيشوي كامل“ عن الكتاب المقدَّس: دراسة الكتاب المقدَّس هي اشتياق للاستماع إلى الله. دراسة الكتاب المقدَّس هي أقوى عامل للتوبة. عليك أن تقيس قراءاتك بهذا الترمومتر لعلك تستطيع أن تُدرك هل أنت حار أم فاتر؟ إن الذي سيسهل لنا طريق الحب ويجعلنا ضمن جماعة المحبين لله هو الاستزادة المُتعطِّشة لكلمات الإنجيل. الإنجيل هو كلمة الآب المقدَّمة لأبنائه. فكيف نستعذب قراءته إن لم نكتشف أبوَّة الله لنا؟! كلمة الله تُليِّن القلب، وتُذيب قساوته، وتُعلِّم الاتضاع والمسكنة والتوبة والبحث عن خلاص النفس. إهمال الكتاب المقدَّس كارثة للسائر في غُربة هذا العالم. إنه لا بُد أن يضلَّ الطريق. وأخيرًا لا تنسَ أن السيد المسيح انتصر في التجربة على الجبل بآيات الكتاب المقدَّس وعلَّمنا أسلوب النصرة على محاربات عدو الخير «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ» (في 1: 27). قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل