بالتجسد ... عرفنا الله

11 ديسمبر 2023
Large image

لا شك أن هناك تناقض جذرى بين طبيعة الله وطبيعة الإنسان . فالله روح بسيط خالد يملأ كل مكان سرمدى ( أزلي أبدى ) غير محدود ولا مدرك ولا متغير بينما الإنسان غير ذلك تماماً . إنه مخلوق على صورة الله في الحرية والبر والعقل ويتمتع بعنصر الروح التي تفكر فيا وراء المادة والطبيعة ... لكنه محدود وله بداية .وهذا التسامي الإلهى يجعل الله فوق إدراك البشر من جهة العقل أو الحواس، ولهذا تميل كنيستنا القبطية ، واللاهوت الشرقي دوماً إلى إستخدام الإسلوب السلبي في التعبير عن إهنا العظيم أي الأسلوب الذي ينفى عن الله ما لا يتناسب مع صفاته أكثر مما يورد من صفات إيجابية عنه تعالى، فنقول في القداس الغريغورى مثلاً . « الذي لا ينطق به ، غير المرئى ، غير المحوى، غير المبتدىء، الأبدى، غير الزمني الذي لا يحد ، غير المفحوص، غير المستحيل ، خالق الكل ، مخلص الجميع » . وهنا نلاحظ التقي المتكرر، لما لا يتناسب مع الله ، وإثبات لبعض الصفات القليلة التي ينفرد بها الله كالأبدى ، الخالق ، المخلص .
من هنا لزم التجسد :
لأنه إذا كان الله متسامياً فوق الإدراك البشري ، بحيث أن من يدخل إليه ما يسميه اللاهوتيون ( الضباب الإلهى ) ( Divine Darkness) ... لأن نور الله يبهر العين فتبدو عمياء لا تراه . نقول ، إذا كان الله متسامياً فوق الطبيعة البشرية إلى هذه الدرجة غير المحدودة ، فهل تبقى الأمور هكذا ؟ كيف يتعرف إليه الإنسان الضعيف الحسي ؟ كيف يقترب إليه ؟ وكيف يتصاعد إلى عرشه الأعلى وهو تراب كثيف ورماد خاطيء؟ إنها بالحقيقة مشكلة هامة !
محاولات يائسة :
ولقد حاول الكثيرون منذ سقوط آدم أن يقتربوا إلى الله ، فارتدوا أمام القول الرهيب : الإنسان لا يرانى و يعيش » ( خر ۳۳ : ۲۰ ) . ولما حاول موسى أن يرى مجد الرب ، خبأه الرب في مغارة ، وستر عليه بيده ، وأجاز «جودته » أمامه ، ولما إكتشف منوح أبو شمشون أنه رأى الرب في رؤيا صرخ ق خ قائلاً: « نموت لأننا رأينا الله » (قض ۱۳ : ۲۲ ) . وهكذا عاشت البشرية أجيالاً تلهث وراء هذه الرؤيا دون جدوى . وكان الله يتكلم إلى البشر قديماً عن طريق أنبيائه الذين يلهمهم بكلامه ويتراءى لهم في صور محسوسة للحظات كإمتلاء الخيمة بالضباب ، أو الصوت القادم من العليقة المشتعلة ، أو الرؤى والأحلام . وهكذا بقى الله عالياً في سمائه ، والإنسان هابطاً فى طين الأرض وظلمة الحسيات .
وجاء الحل :
وذلك حين تجسد الكلمة الإهية فى صورة إنسان كقول الرسول الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في إبنه ، الذى جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين ) ( عب ۱ : ۱ ، ۲ ) . ولنلاحظ هنا الفرق بين حرف الجر «ب» و « فى » . فالله كان يكلمنا بالأنبياء وأخيراً كلمنا في إبنه . أي أنه أعلن نفسه لنا جسدياً في صورة إنسان مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية . وهكذا صار الإله غير المرئى مرتباً ، وغير المحسوس محسوساً، دون أن يكف عن كونه الإله الروح الماليء كل مكان وزمان ، والمتعالى على كل الأذهان .
المعلم الصالح :
و يشبه القديس أثناسيوس إهنا في تجسده بالمعلم الصالح ، الذي لا ينتظر من تلاميذه أن يرتفعوا إلى مستواه ، بل ينزل هو إلى مستواهم ليعرفهم مقاصده وتعاليمه . وهذا هو الوضع المنطق والمقبول . أما أن يبقى الله في علياء سمائه، وينتظرنا حتى تتصاعد إليه رغم ضعفنا وترابيتنا ، فهذا هو عين المستحيل من هنا تجسد الرب ليقترب إلينا نحن الضعفاء ، وليتحدث إلينا باللغة التي نفهمها ، حتى يعنن لنا حبه ، و يعرفنا بشخصه ، و يقودنا بنعمته إلى سمائه .
نيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
عن كتاب أسئلة حول التجسد

عدد الزيارات 86

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل