تأملات ومعاني في عيد الختان

16 يناير 2024
Large image

تحتفل الكنيسة كل عام بعيد ختان ربنا يسوع المسيح، في اليوم الثامن لميلاده (6 طوبة).. وقد قبل السيِّد المسيح الختانَ في جسده، لكي يتمِّم الناموس عن الإنسان الذي عجز عن تنفيذ أغلبيّة وصايا الناموس.. وهكذا خاض المسيح بنجاح كلّ خطوات المسيرة التي كان على الإنسان أن يجتاز فيها، لكي يبارك هذه المسيرة للإنسان، ويعاونه على اجتيازها بنجاح..
+ إذا عُدنا بالتاريخ إلى الوراء، نجد أنّ بداية الختان كانت مع أبينا إبراهيم.. إذ أمرَه الربّ أن يُختَتَن وهو في التاسعة والتسعين من عمره (قبل ميلاد إسحق بسنة).. ليكون هذا العمل عهدًا بالدم في لحمه ولحم نسله من الذكور.. فختَنَ إبراهيم نفسه، وختَن إسماعيل، وختن كلّ عبيده.. ثم ختن إسحق بعد مولده.. تنفيذًا لقول الرب: "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يُختَن منكم كل ذَكَر، فتُختَنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم.. ابن ثمانية أيام يُختَتَن منكم كل ذكَر في أجيالكم.." (تك17)..
وهنا يظهر أيضًا بوضوح أنّ عمليّة الختان كانت تخصّ الذكور فقط، ولا توجَد أدنى إشارة لما سُمِّيَ فيما بعد بختان الإناث.
+ نعود لشريعة الختان.. ونلاحظ أن عمليّة الختان هي عهد (وقد تكرّرَت كلمة "عهد" في ذلك الأصحاح 10 مرّات).. فالله دائمًا يريد أن يدخل معنا في عهد.. عهد محبّة وعهد حياة. ولأنّ الدمّ يشير إلى الحياة، فكانت عهود الله مع الإنسان دائمًا بالدم.. كما أن الختان يتمّ بقطع غُلفة لحميّة من على عضو التناسل، الذي ينقل الحياة من جيل إلى جيل.. فمن اختيار الله لهذه العملية لتكون هي علامة العهد، نتأكَّد أن الله يريد يكون العهد بيننا وبينه هو عهد حياة، يهبها لنا، لنتمتّع بها معه..
+ ونلاحظ أيضًا أن الختان كان يتمّ في اليوم الثامن لمولد الصبي، كما أنّه في هذا اليوم يأخذ الطفل اسمه الجديد.. واليوم الثامن يشير إلى الحياة الجديدة، فبعد اكتمال أيام الأسبوع السبعة يأتي الأسبوع الجديد في اليوم الثامن.. وفي اليوم الثامن أيضًا قام المسيح من الأموات، ليهبنا حياة أبديّة فيه..
وهنا إشارة واضحة أنّه بالختان يبدأ الإنسان حياة جديدة وعهدًا جديدًا، باسم جديد وعلاقة جديدة مع الله.
+ مبكِّرًا جدًّا في العهد القديم، لفت الله نظر شعبه إلى المعنى الروحي العميق للختان، وهو إزالة الخطيّة التي تفصلنا عن الله.. فالخطيّة هي الغرلة أو الغُلفة التي تحجز الإنسان عن التواصُل مع الله والانسجام معه.. ولذلك فإنّ إزالة هذه الغُلفة أمر واجب وأساسي، لاستعادة الشركة مع الله..!
قد تكون الغُلفة على العين فلا ترى الله ولا الأمور الروحيّة،
وقد تكون على الأُذُن فلا تسمع صوت الله،
وقد تكون الغُلفة على القلب فلا يحسّ بالله ولا يتلامس مع محبّته..
وهناك نصوص كثيرة جميلة في العهد القديم تؤكِّد هذا المعنى، منها:
* "اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تُصَلِّبوا رقابكم بعد" (تث10: 16).
* "..ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك، لكي تحبّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك لتحيا" (تث30: 6).
* "أذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا..." (إر6: 10).
* "كل بيت إسرائيل غُلف القلوب" (إر9: 26).
لذلك يؤكِّد معلّمنا بولس الرسول بالروح القدس أنّ "ختان القلب بالروح.. هو الختان" (رو2: 29).
+ على المستوى المسيحي في العهد الجديد، نجد أنّ الختان الجسدي لم يعُد له أيّة قيمة دينيّة.. لأنّه كان رمزًا للعهد الذي تحقّق كاملاً بدم المسيح على الصليب.. ومن هنا فقد بطلت كلّ الرموز القديمة باستعلان الحقيقة في المسيح.. ولكن بقِيَ المعنى الروحي للختان. وتؤكِّد هذا المعنى نصوص عديدة في الإنجيل، منها:
* "ليس الختان شيئًا، وليست الغرلة شيئًا، بل حِفظ وصايا الله" (1كو7: 19)
* "في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبّة" (غل5: 6).
* "في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غل6: 15).
+ من المهم أن نعرف أيضًا أنّ الختان في العهد القديم كان رمزًا للمعموديّة في العهد الجديد، وهذا ما شرحه بوضوح القديس بولس الرسول بالروح القدس في رسالته إلى أهل كولوسي:
"وبه (بالمسيح) أيضًا خُتِنتم ختانًا غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشريّة بختان المسيح. مدفونين معه في المعموديّة، التي فيها أُقِمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتًا في الخطايا، وغَلَفِ جسدكم، أحياكم معه مُسامحًا لكم بجميع الخطايا" (كو2: 11-13)..
فبالمعموديّة قد خلعنا عنّا غُلفة الخطايا ولبسنا برّ المسيح..!
+ إن كان الختان في العهد القديم هو دخول في عهد وشركة مع الله، وبدون الختان لا يمكن التمتّع بمزايا هذه الشركة.. هكذا في العهد الجديد بدون المعموديّة لا يمكن الدخول لبقيّة الأسرار، والتمتُّع بشركة الروح القدس.. فنرى مثلاً أنّه في أحداث خروف الفصح كانت وصيّة الله: "كل عبد رجل مبتاع بفضّة تختنه ثم يأكل منه... أمّا كلّ أغلف فلا يأكل منه" (خر12: 44، 48).. هكذا لا يمكن لمَن لم يدخل في عهدٍ مع الله بالمعموديّة أن يتقدّم للتناول من الأسرار المقدّسة، التي هي خروف الفِصح الحقيقي المذبوح لأجل خلاص العالم (1كو5: 7).
+ على المستوى الروحي الشخصي.. ختان القلب بالروح (رو2: 29) هو جرح القلب بمحبّة المسيح، عن طريق الروح القدس، فتصير النفس مجروحة بالحُبّ الإلهي.. إذ أنّ الختان يتمّ عن طريق جرح يُعمَل في الجسد..!
+ عندما ناول السيّد المسيح الكأس، قال لهم: هذا هو العهد الجديد بدمي، أو هذا هو دمي الذي للعهد الجديد.. وهذا يعني أنّ تناولنا من الدم الإلهي كفيل بأن يجرح قلبنا بمحبّة المسيح الذي سفك دمه من أجلنا، حتّى أنّ القديس بولس الرسول يقول أنّ محبّة المسيح قد أنسكبت (سُفِكَت) في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رو5).
+ إذا كان الختان في العهد القديم بجرح صغير في الجسد، لخلع غُلفة صغيرة، من أجل الارتباط بالله.. فإنّ ختان المسيح في العهد الجديد بالمعموديّة يتمّ فيه خلع جسم الخطيّة بالكامل عن طريق الموت مع المسيح، أو الشركة في موت المسيح، فنقوم معه في خليقة جديدة، ونحيا للبِرّ (رو6).. ولذلك في احتفالنا بعيد الختان، يلزمنا أن نجدِّد عهد المعموديّة بالتوبة.. فنقطع من حياتنا كل خطيّة تفصلنا عن الله، أو تحجز النعمة عن التدفُّق لحياتنا.. ونصلِّي من الأعماق أن يستخدم الله سِكِّين كلمته ليختن قلوبنا وحواسّنا، فتعود لها براءتها ونقاوتها الأولى، وتصير مؤهَّلة للتمتُّع بالشركة مع الله.
+ أخيرًا.. جاء في نبوءة إرميا (ص31)، التي استشهد بها ق. بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين: "هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لا كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا" (عب8: 8-11). وهنا تأتي كلمة "أكتبها" حرفيًّا "أحفرها".. فهذا هو مضمون العهد الجديد، أن تكون الشريعة محفورة في قلوبنا، وهذا يتمّ بدم المسيح الذي للعهد الجديد.. فدم المسيح هو الذي يحفر الشريعة الجديدة داخل قلوبنا..
وما هي الشريعة الجديدة سوى وصيّة المحبّة التي أعطاها لنا المسيح، أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا هو، وبذل نفسه لأجلنا..!
+ من أجل هذا يقول ق. بولس الرسول: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لا لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ" (2كو5: 14-15). فمحبّة المسيح قد جَرحت قلوبنا، فلا نستطيع بعد الآن أن نعيش لأنفسنا، بل لمن أحبّنا وحاصرنا بحبّه.. لذلك في عيد الختان، نذكُر حُبّ المسيح الذي جرح قلوبنا، فتعلّقنا به، وأحببناه، ونجري وراءه مسبّحين إيّاه إلى الأبد..!
القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.

عدد الزيارات 231

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل