كيف نصوم الصوم الأربعيني ؟

26 مارس 2024
Large image

نود أن نجيب على هذا السؤال فى اختصار وتركيز مشيرين إلى العناصر
الهامة الآتية :-
1- بجدية وإخلاص قلب
ليس الصوم مجرد شكليات، إنه مضمون قبل أن يكون شكلا ، إنه حياة قبل أن يكون طقسا وترتيباً ، فالامتناع عن اللحم والشحومات والتسليات هو الجانب السلبي للصوم ، وأما الجانب الإيجابي فهو الحياة الروحية النشطة التي فيها التوبة وقرع الصدر والندم والمطانيات، فيها الصمت والهدوء ، وفيها النسك والتقشف ، فيها فحص النفس والتأمل الباطني وفيها أيضا التعمق في كل ما يختص بالحياة الداخلية إنه من الأيسر للإنسان أن يحول كل ما هو روحى إلى ما هو شكلى ثم يبحث بعد ذلك عن الروحانية وراء الشكليات ، أما الصوم الكبير فهو قوة روحية ونبع فياض لكل من تلامس مع جوهره ومضمونه السرى . إن الكنيسة الكاثوليكية والهيئات البروتستانتية فى الغرب اختصروا الصوم ثم تخلصوا منه نهائياً فى أماكن كثيرة من العالم وقد نعيب عليهم هذا الضعف والهزال الروحي ، ولكن إذا كانت الأرثوذكسية تفتخر بعدم تعديلها مواعيد الأصوام فإنها تحتاج في هذه الأيام أن تتمم التزام الصوم بجدية وعمق إن أخطر ما يهدد الجدية في الصوم المظهرية والشكلية والفريسية والاكتفاء بما هو خارجي دون التعمق في الداخل يقول الرب يسوع " وأما أنت فمتى صمت فـادهن رأسك واغسل وجهك لكى لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذى فى الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية " ( مت ٦ : ١٧، ١٨) .أن نأخذ الصوم بجدية هذا يعنى أن ننظر إليه على أنه تحد روحى يستلزم تهيئة واستعداداً وصلاة ثم فحصاً وعزيمة وتصميما ثم نضالاً ودأبا وجهادا للنصرة على أعداء المؤمن الثلاث الشيطان والعالم والذات
٢ بتوبة وتذلل مع فرح داخلى
يقول الوحى على لسان يوئيل النبى " ارجعوا إلى بكل قلوبكم وبالصوم وبالبكاء والنوح ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف ورحيم " ( يوئ ۲ : ۱۲ ، ۱۳ ) ، ويقول داود النبي " أذللت بالصوم نفسى (مز ٢٣:٣٥) وعندما تاب أهل نينوى وقدموا صوماً وتذللا قبلهم الرب ، وعندما صام آخاب الملك الشرير وقدم توبة وندما رضى الرب عنه . فالصوم الكبير هو مجال متسع للتوبة ، لهذا نجد قراءات الكنيسة في أغلب مناسبات هذا الصوم تقدم نصوصاً وشروحات عن حياة التوبة الأسبوع الأول دعوة إلى احتقار أباطيل العالم ورفض لمحبة المال ،والأسبوع الثاني دعوة إلى الصلاة والأمانة وعدم الريـاء ومواجهة العدو في كل تجاربه ، والأسبوع الثالث سيرة الابن الضال كأحسن مثال لحياة التوبة ، أما الأسبوع الرابع فأننا نقابل السامرية التي قدمت توبة مذهلة وتغيرت حياتها بفعل الكلمة وإنجيل الخلاص ، وفى الأسبوع الخامس تبرز لنا الكنيسة أهمية الإيمان في التجديد وخطورة النكسة الروحية فى التوبة عندما تقدم لنا نموذج المخلع ، وأما أحدالتناصير فهو أسبوع توبة ، وأما أحد التناصير فهو أسبوع توبة المعمودية والتوبة المقصودة هنا هي التغير الكامل في الداخل والأعماق والأهداف ويقول اللاهوتي شممان إن أعمق تغير يحدثه الصوم الكبير في النفس البشرية هو أنه يغير اتجاه الشخص واتجاه الجماعة فبدلاً من أن يكون الخبز ولقمة العيش محور اهتمامهم يصبح الكلمة هو مصدر حياتهمولكن يلزمنا أن نشير إلى أن التوبة فى المسيحية خالية من الحزن المرير وفي هذا يقول المطران جورج خضر : " إن التوبة والتذلل يلزم أن يرفع عنها الحزن المرير لأن المسيح رفع عنا حزن الخطية وعقوبتها ، فالصوم في المسيحية ليس تكفيرا ولا قصاصاً ولا نحيباً وإنما هو وسيلة وطريقة صلاة واستدعاء للروح وحنين إلى الفردوس ومنطلق من قيامة المسيح ومرتقب لهذه القيامة لأجل هذا طلب منا المسيح ألا نكون عابسين بل أن ندهن رؤوسنا ، أن نمتلئ من بهجة الخلاص وفرح الروح ، فرح العريس الذي يحضر مع أبيه بفعل روحه القدوس ، يكفينا في توبتنا أن نمتلئ فرحاً وعزاء وسلاماً عندما نسمع مع المرأة الخاطئة القول الإلهى " مغفورة لك خطاياك اذهبي بسلام " .
٣- باعتكاف وصمت وهدوء وتقشف
الصوم أسلوب حياة ، إنه سعى نحو الحياة الباطنية متخلصة من كل مشتت خارجي ، المجتمع الخارجي يسعى إلى تبديد قوانا الجسمية والنفسية والعقلية والروحية ، والحياة الروحية هي سعى نحو تجميع هذه القوى وإخضاعها للروح ، بدون تفهم ، معنى الصوم الكبير أنه رحلة إلى أعماق الإنسان فإن الصوم يفقد معناه ويبتعد كثيرا عن جوهره الأصيل الصوم الكبير مجال واسع للتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الناس والأشياء ، فالابتسامات السطحية والحياة القائمة على " معلهش ، صهين ،کله زى بعضه ، الدنيا ماشيه كده وغيرها من الشعارات التي نتبعها في حياتنا وتشير إلى النفاق والغش والدبلوماسية والخلو من العمق والصدق والالتزام . هذه كلها لا تنكشف إلا فى الهدوء " بالرجوع والسكون تخلصون ، بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم " ( أش ٣٠ : ١٥ ) الصوم الكبير زمن للنسك والتقشف ورفض للمسرات مثل الملاهي والمأدب والزيارات الكثيرة للمجاملات وسعى نحو الانضباط الداخل لكي تفحص الحياة الباطنية فحصاً دقيقاً ، ومن خلال هذا الفحص تكتشف كل الصفات وتقدم النفس التوبة وتطلب النعمة للتغير والتحول ، في الصوم الكبير مجال للسيطرة على كلامنا وثرثرتنا إن ألفاظنا في طوفان الأحاديث قد فقدت معناها وبالتالى قوتها المسيحية تعيد إلى الكلمة قدسيتها وسلطانها ، إن الصوم يضبط اللسـان حتى لا ندان " بكلامك تتبرر وبكلامك تدان " ، الثرثرة غالباً ما تأتى من العجب والزهو الباطل والرغبة في مديح الناس ، الثرثرة تفتح أبواب النفس وتجعل الحرارة والخشوع يهربان من القلب " الثرثرة تفتح أبواب النفس وتجعل الحرارة والخشوع يهربان من القلب ، الثرثرة تخرج الإنسان عن نفسه والأحاديث الباطلة تغرس الخصومات والنزاع وتجلب البلادة ، وكثرة الكلام لا تخلو من معصية ، الصمت كما علمنا آباؤنا . القديسون هو قوة عظيمة نستعين بها فى محارباتنا الروحية ، هو سلاح للنصرة وعلامة الحكمة الروحية وسر الحياة الباطنية فى الصوم الكبير نتذوق ثمرة الصمت الشهية فنتدرب على التجمع الداخلي وبطلان التمزع والتشتت، العالم الآن يحتاج إلى شهادة لا بالوعظ والكلام الكثير بل بقديسين يحملون نورا وفرحا وعمقاً وجدية وحبا ولهم سر الصمت وقوة الهدوء كدلالة أكيدة على حضور الله فيهم
٤- بعطاء وبذل
تقول مديحة الصوم الكبير الشهيرة " طوبى للرحماء على المساكين ، فإن الرحمة تحل عليهم ، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم " وليس غريباً على الصوم أن يقترن بعمل الرحمة ، في هذا يقول زكريا النبي : " هكذا تكلم رب الجنود قائلا احكموا حكم الحق واصنعوا الرأفة والمراحم كل إنسان إلى أخيه ، لا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا البائس ولا تفكروا شرا الواحد على أخيه " ( زك ٧ : ٨ ) . وهناك قول رائع لأشعياء النبى وإيضاح جميل لمعنى الصوم وفهم أصيل لارتباطه بالرحمة والبذل : " أليس هذا صوماً أختاره : حل قيود الشر، فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير ؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك ، إذا رأيت عريانا أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك " ( اش ٥٨ ، ٣ - ٧ ) وقديما كان آباؤنا يصومون ليعطوا أكثر للفقراء والمحتاجين لأن " الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم " ( يع ۱ : ۲۷ ) ، والرسول بولس يعبر عن العطاء للفقير بالذبيحة المقبولة إذ يقول : " ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأن بذبائح مثل هذه يسر الله " ( عب ١٣ : ١٦ ) فإذا كان الصوم بذلاً داخلياً فإن الرحمة والعطاء تعبير أكيد عن الحركة الروحية الداخلية الحادثة بفعل الصوم والنسك المسيحي الأصيل .
ماذا يحدث لو لم أصم ؟
المسيحى الحقيقى عضو في جسد المسيح السرى الذى هو الكنيسة ، وهو لا يشذ عن الجماعة لأن العضو إذا خرج عن الجسد يفسد ويسبب للجسد آلاماً مبرحة المؤمن يصوم لأن الكنيسة تصوم ، فهو منها ومعها وفيها ، الذى لا يصوم الصوم الأربعيني يخطئ إلى نفسه ويخطئ إلى الكنيسة أيضا لأن الروحانية الأرثوذكسية ليست روحانية فردية وإنما هي روحانية شركة ، وقديما كانت كنيسة الرسل تحيا حياة الشركة هذه إذ كان المؤمنون يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات ، وإذ هم يكسرون الخبز فى البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب ، وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس " افرزوا لى برنابا وشاول ولما صلوا تزعزع المكان وامتلأ الجميع من الروح القدس " ( اع ٢ ، أع ٤ ) .في هذا يقول المطران جورج خضر " إن الكنيسة بأسرها كجسم واحد يجب أن تكون مصلوبة عن أهواء الجسد عن طريق قمع جموحه وشراسته وأن تأخذ بعين الجد قضية آلام ربها " . ويعلمنا الرسول بولس عن الجماعة في الجهاد الروحي قائلاً : " فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائباً أسمع أموركم أنكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معا بنفس واحدة لإيمان الإنجيل " ( فی ۱ : ۲۷). من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم أهمية الشركة فى الصلاة ، والصوم ، والتناول ، والعبادة كلها ، ذلك لأن الاختبار الروحى أرثوذكسيا وإن كان له البعد الشخصي الذي يركز على العلاقة الشخصية بين المؤمن والله ، ألا أنه يتميز بالطابع الكنسى الذى في إطاره لا يستطيع المؤمن أن يخلع نفسه عن وحدة المؤمنين العابدين الذين يصلون عنه ويصلى هو معهم وعنهم والجميع يلفهم جو روحى وجهاد مشترك.
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن كتاب الصوم الكبير لاهوتيا و كنسيا وروحيا

عدد الزيارات 29

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل