ثانياً: عيد الختان

14 يناير 2019
Large image

أما بخصوص زمن التعييد لهذه المناسبة المقدَّسة، فالمعروف أنه كان مرتبطاً بعيد الميلاد ارتباطاً جوهريًّا، بحيث لم توافق الكنيسة منذ البدء على أن تخصِّص له عيداً منفصلاً عن الميلاد. وزمن عيد الميلاد لم تحدِّده الكنائس كلها في زمن واحد.
فمعروف أن كنيسة روما في الغرب كانت تُمارس عيد الميلاد، وربما عيد الختان منذ زمن بعيد، كما يقول العلامة ترتليانوس، إذ عَثَرَ عُلماؤها في القرون الأُولى على أرشيف الحوادث المدنية التي حوت ذكر حوادث الاكتتاب أيام أوغسطس قيصر، وفيها اسم يسوع ونسبه وميعاد ميلاده وخلافه، والتي منها استدلَّت الكنيسة على ميعاد ميلاد المخلِّص، وبالتالي حدَّدت زمن عيد الميلاد والختان:
[أو كيف يُسمح للمسيح أن يدخل إلى المجمع إذا كان غير معروف سابقاً أو كان ظهوره مفاجئاً ولا يُعرف من أي سبط هو ومن أي بلدٍ ومَنْ هي عائلته؟ وأخيراً تسجيله في الاكتتاب الذي عمله أوغسطس قيصر، وهو الشاهد الصادق على ميلاد الرب، المحفوظ في أرشيف روما. كذلك وبكل تأكيد كان هناك شهود يتذكَّرون إن كان قد اختتن على أيديهم أم لا حتى يُسمح له بالدخول إلى أماكنهم المقدَّسة.]([6])
ويؤكِّد هذه الحقيقة القديس يوحنا ذهبي الفم في عظته التي ألقاها في 25 ديسمبر سنة 376م، حيث يُعلن فيها ضمناً بدء ممارسة كنيسة أنطاكية لعيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس، اعتماداً على مراسلات جرت له مع كنيسة روما التي كانت قد سبقت أنطاكية في تحديد زمن العيد بوقت كثير. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
[والحقيقة أنه لم يمضِ حتى الآن سوى عشر سنوات منذ أن تعرَّفنا بوضوح على هذا اليوم (يوم الميلاد 25 ديسمبر). وبالرغم من ذلك، ها هوذا قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم وكأنه قد تسلَّم لنا منذ البدء. وهكذا لا يخطئ الإنسان لو هو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا هوذا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة ...
وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة فقط ... (وهنا يبدأ يوحنا يقص قصة الأرشيف المدني في روما كمصدر تعرف منه رجال الكنيسة على هذا اليوم) ... ومن هؤلاء الذين كانت لديهم معلومات دقيقة عن الموضوع في روما قد تسلَّمنا بدورنا تحديد هذا اليوم، لأن قاطني هذه المدينة كانوا متمسِّكين بهذا اليوم منذ البدء، ومن التقليد القديم، وهم الذين أرسلوا لنا هذه المعلومات].
أما في كنيسة مصر، فنستقي تحديد بدء عيد الميلاد (ومعه عيد الختان) من مصادر متعددة، وأهمها الآتي:
أولاً: الدسقولية (أي تعاليم الرسل) وهي من مدونات القرن الثالث:
18: [يا إخوتنا تحفَّظوا في يوم الأعياد التي هي عيد ميلاد الرب، وأكملوه في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين، الذي هو اليوم التاسع والعشرون في الشهر الرابع الذي للمصريين. ومن بعد هذا الإبيفانيا، فليكن عندكم جليلاً لأن فيه بدأ الرب أن يظهر لاهوتيته في معموديته في الأردن من يوحنا. واعملوه في اليوم السادس من الشهر العاشر الذي للعبرانيين الذي هو الحادي عشر من الشهر الخامس الذي للمصريين. وليتقرَّب في الميلاد والغطاس ليلاً لا لكراهية الصوم بل لتمجيد العيد].
ويُلاحَظ هنا أنه ذكر كلمة ”يوم الأعياد“، مما يفيد أنه في يوم واحد كان يُقام عيد للميلاد والغطاس معاً. كذلك فإن تشابه العيدين في طقسهما المسائي يوحي بذلك.
ثانياً: القديس أثناسيوس الرسولي:
وينقل عنه العالِم كوتيلييه من إحدى مخطوطاته التي لم يُذكر اسمها قول أثناسيوس:
[لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ من العذراء القديسة مريم في بيت لحم في 29 من شهر كيهك، بحسب المصريين، في الساعة السابعة، الموافق الثامن من يناير.]([7])
ثالثاً: من كلمندس الإسكندري، حيث يبدو كلمندس متردِّداً في قبوله:
[والأمر العجيب أنه توجد جماعات حدَّدت بالفعل سنة ميلاد الرب وأيضاً اليوم الذي وُلِدَ فيه المخلِّص وهي السنة الثامنة والعشرون لأوغسطس قيصر، في اليوم الخامس والعشرين في الشهر التاسع([8]) (ديسمبر) (الموافق 28 كيهك).
كذلك نعلم أن أتباع باسيليدس يعيِّدون أيضاً ليوم عماده، ويمضون الليل كله ساهرين في القراءات، ويقولون إن عماد الرب كان في السنة الخامسة عشر لسلطنة طيباريوس قيصر، في اليوم الخامس عشر من شهر طوبة.]([9])
وهكذا تأتينا هذه الأخبار المبكِّرة جدًّا بخصوص تعييد العيدين: الميلاد والغطاس، كل بمفرده في مصر، ولكن ليس مؤكَّداً إن كان هذا من قبل الكنيسة الرسمية الأرثوذكسية الجامعة. ولكن الإشارة هنا إلى أن تعييد العماد بمفرده كان لبعض الجماعات المنشقة مثل باسيليدس.
رابعاً: عن كاسيان: سنة 360 - 450م:
ثم يعود كاسيان ويؤكِّد لنا أن الكنيسة في مصر كلها كانت لا تزال في أيامه تعيد لعيد الميلاد والغطاس معاً في عيد الإبيفانيا، حيث تأتي كلمة ”الإبيفانيا“ بصيغة الجمع، أي تشمل عدَّة ظهورات:
( أ ) الظهور في الجسد «الله ظهر في الجسد».
(ب) ظهور النجم للمجوس، وهو إشارة إلى استعلان الله للأُمم.
( ج ) استعلان بنوَّته لله في العماد بصوت السماء.
( د ) استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل.
[وفي إقليم مصر، هذه العادة قديمة بالتقليد حيث يراعى أنه بعد عبور ”الإبيفانيا“ التي يعتبرها الكهنة في هذا الإقليم الزمن الخاص بمعمودية الرب، وأيضاً ميلاده بالجسد، وهكذا يعيِّدون لكلا التذكارين أي لكلا ”السرّين“، ولا يعيِّدونهما منفصلين كما هو في أقاليم الغرب. ولكن في عيد واحد في هذا اليوم.]([10])
ونفس هذه الحقائق يسجِّلها إبيفانيوس أسقف قبرص.
والمعروف لدى العلماء أن أول مَنْ عيَّد ”الإبيفانيا“ للميلاد والغطاس معاً هي كنيسة الإسكندرية منذ العصر الرسولي، ويُقال إن هذا التقليد مسلَّم للكنيسة من القديس يعقوب أخي الرب. ومنها انتقلت إلى روما والغرب. وهناك حدث في الربع الأخير من القرن الرابع، انفصال العيدين، وعيَّدت كنائس الغرب للميلاد في 25 ديسمبر. ومن الأمور الطريفة أن في عيد الغطاس عند الغرب، لا تزال الكنيسة هناك تحتفظ بتذكار زيارة المجوس!!([11])
كذلك من الأمور الطريفة أن الغرب احتفظ باسم عيد ”الإبيفانيا“ في نطقه اليوناني، أما الميلاد فبنطقه اللاتيني؛ مما يفيد أن عيد الإبيفانيا مأخوذ بطقسه واسمه من الشرق، أما التعييد للميلاد منفرداً عن الغطاس فهو من ترتيب الغرب.
خامساً: البابا الإسكندري تيموثاوس الأول (378 - 384م):
يسجِّل لنا المؤرِّخ جناديوس في كتابه عن التاريخ الكنسي، أن البابا الإسكندري تيموثاوس هذا ألَّف كتاباً على ميلاد ربنا بحسب الجسد. ويظن المؤرِّخ أنه كُتب أو قُرئ في عيد الإبيفانيا([12]).
ومن هذه الإشارة يبدو واضحاً أن كنيسة الإسكندرية كانت تعيِّد للميلاد متميِّزاً عن الغطاس، ولو أن ذلك كان في يوم واحد وعيداً واحداً، وكانا يُسميان معاً بالإبيفانيا. ويُعتبر هذا الكتاب الذي ألَّفه تيموثاوس بابا الإسكندرية الثاني والعشرون عن الميلاد أول مؤلَّف كنسي عن الميلاد قاطبة.
وهكذا كما ابتدأ الميلاد يأخذ مجاله المتميِّز كعيد قائم بذاته منذ القرن الثاني في مصر، هكذا ابتدأ عيد الختان يأخذ وضوحه المتميِّز معه جيلاً بعد جيل؛ لأن الكنيسة بدأت تهتم بتسجيل كل حوادث الإنجيل مبكِّراً جدًّا، فنحن نقرأ للقديس مار أفرآم السرياني (الذي تنيَّح سنة 373م) تحديده أيضاً لعيد البشارة هكذا:
[لأن في العاشر من مارس كان الحبل به وفي السادس من يناير كان ميلاده.]([13])
سادساً: البابا كيرلس الكبير عمود الدين (412 - 444م)،
والأسقف بولس من ”أميسا“:
مذكور في تسجيلات مجمع أفسس سنة 431م، أن الأسقف بولس من أميسا ألقى عظة في حضور البابا كيرلس الكبير الإسكندري عن ميلاد ربنا يسوع المسيح، حدَّد فيها ميلاد المسيح باليوم التاسع والعشرين من شهر كيهك (الذي كان يوافق 25 ديسمبر)([14]).
وعنوان العظة كالآتي:
[عظة لبولس أسقف أميسا ألقاها في اليوم التاسع والعشرين لشهر كيهك في الكنيسة العظمى بالإسكندرية بحضرة المطوب كيرلس على ميلاد ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح].
ومن هذه العظة يتضح أن عيد الميلاد كان له وجود مستقل عن عيد الغطاس في زمن كيرلس الكبير! وكان قد تحدَّد له يوم معيَّن خلاف يوم الإبيفانيا.
ولكن المعروف أن هذا تم بحذر شديد، لأن التقليد المألوف الجاري في الكنيسة كان يعتبر أن عيدي الميلاد والغطاس يكوِّنان مفهوماً واحداً ”لطبيعة الله الكلمة المتجسِّد“.
كذلك فمجرد تقسيم العيدين يُعتبر تقسيماً لمفهوم طبيعة المسيح، الأمر الذي أثار حفيظة شعب القسطنطينية عندما أجرى غريغوريوس النـزينـزي (اللاهوتي) هذا التقسيم وجعل الميلاد منفصلاً عن الغطاس، فهاج الشعب محتجاً معتبراً ذلك إساءة لمفهوم لاهوت المسيح.
تحديد عيد الختان:
ومن الأمور الثابتة في الكنيسة أن الإشارة إلى عيد الختان كانت قديمة في الكنيسة، وكانت تستتر تحت كلمة ”الأوكتاف Octave“ أي ”الثامن“، وهو اليوم الثامن من بعد الميلاد، أي الموافق للختان. وقد اختير هذا الاصطلاح تحشُّماً واحتراماً لجلال المختتن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنيسة كانت تعتبر الختان مكمِّلاً للميلاد، فلا يصح أن يُعيَّد للختان عيداً منفصلاً عن الميلاد، فأضافت ”اليوم الثامن“ أي ”الأوكتاف“ إلى عيد الميلاد بالرغم من إقامة تذكاره في يوم آخر غير يوم الميلاد.
وهذا الأمر سبق أن لاحظناه أيضاً في تمسُّك الكنيسة بالجمع بين عيدي الميلاد والغطاس معاً، باعتبارهما يكوِّنان مفهوماً واحداً لمسيح واحد مولود في بيت لحم وفي الأزلية، بحيث لا يمكن فصل ميلاده في بيت لحم عن ميلاده الأزلي.
وقد ظلَّ هذا الاصطلاح ”الأوكتاف“ معمولاً به في الكنيسة مدَّة طويلة، حيث بدأ قليلاً قليلاً يأخذ اسمه الطقسي ”عيد الختان“ بوضوح. ومن قراءات اليوم الثامن من بعد الميلاد، تظهر الفصول الخاصة بختانة المسيح، وذلك في أقدم القطمارسات أما أقدم وثيقة في الكنيسة بلغت إلى علمنا حتى الآن، فهي تحمل عظة عن ”عيد الختان“، وهي من أعمال ”زينو“ أسقف فيرونا من القرن الرابع([15])، قيلت في ”أوكتاف“ الميلاد، أي في اليوم الثامن من الميلاد.
المتنيح القمص متى المسكين

عدد الزيارات 1769

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل