"أعظم قوة"

14 يونيو 2024
Large image

من الكلمات المبھرة في الحیاة الإنسانیة كلمة "القوة" وھي كلمة واسعة المعاني وعدیدة الأبعاد والمجالات فھناك قوة العلم والمعرفة والمعلومات وھناك قوة المال والثروة والكنوزوھناك قوة البدن والصحة والعضلات وھناك قوة الفكر والأدب والفلسفات وھناك قوة النسك والزھد والتقشف وھناك قوة السیطرة والاستحواذ والتحكم وغیر ذلك كثیر ونوعیات ربما یصعب حصرھا
وذات يوم تساءلت ما ﻫﻲ أعظم قوة ﻓﻲ حياة الفرد؟!أو حياة اﻟﻤجتمع؟!أو حياة الشعوب
وشغلني السؤال وأنا أقرأ في كتب التاریخ وقصص الزمان، ووجدت أن كل أنواع "القوة" تظھر على مسرح الزمان وتستمر وقتًا ثم تنتھي وھكذا كانت الممالك والإمبراطوریات الكبیرة والجیوش العتیدة وھكذا كان الملوك والأباطرة والطغاة، ومن كان دكتاتورًا في زمنه وانقضى ومن كان متمیزًا ومشھورًا في جیله وانتھى ومن صار علامة في حیاة البشر إیجابًا أو سلبًا حتى أن سلیمان الحكیم یقول في سفر الجامعة "بَاطِلُ الأَبَاطِیلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِه الَّذِي یَتْعَبُه تَحْتَ الشَّمْسِ؟" ( ۱: ۲ ،3)
ویظل التساؤل: ما ھي أعظم قوة في حیاة الإنسان؟ وما ھي ھذه القوة التي تحمي الإنسان من السقوط في الخطأ؟!
إنھا قوة "الغفران" التي ینالھا الإنسان من لله،وھي قوة "التسامح" أو المسامحة التي یقدمھاالإنسان لأخیه الإنسان وقبیل صعود السید المسیح إلى السماء بعد قیامته ظل أربعین یومًا یظھر لتلامیذه قائلاً: "ھكَذَا كَانَ یَنْبَغِي أنَّ الْمَسِیحَ یَتَألَمَّ وَیَقوُمُ مِنَ الأمَوَاتِ فيِ الْیَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ یُكْرَزَ بِاسْمِه بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَایَا لِجَمِیعِ الأُمَمِ" (لو ۲٤: 46،47)
أمام الخطایا یظھر إله الغفران: "إِله رَحِیمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِیرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِیَةِ وَالْخَطِیَّةِ وَلكِنَّه لَنْ یُبْرِئَ إِبْرَاءً" حتى أن موسى النبي یصلي ویقول "إِنَّه شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةُ وَاغْفِرْ إِثْمَنَا وَخَطِیَّتَنَا وَاتَّخِذْنَا مُلْكًا"(خروج ۳: 6-9)إن الإنسان یعیش في عالم ملئ بالجروح والمشاعر السلبیة والإساءات التي تصیبه من الآخرین، وتكون النتیجة ھي إصابته بمشاعر
المرارة والغضب والقلق والخوف والظلم والاكتئاب والانتقام وكل ھذه الجروح والمواقف تسبب له حالة إحباط نفسي یختلف من وقت لآخر وھذا یؤثر على جسده ونفسه وروحه وبالتالي على سلوكیاته وتصرفاته سواء في البیت أو الكنیسة أو المجتمع وتنشأ عنده حالات الكراھیة والیأس والانطواء وغیاب الفرح مع أعراض أخرى مدمرة قاسیة ولا یجدي مع ذلك النسیان أوالإنكار أو الابتعاد ویقف الإنسان حائرًا ماذا یفعل؟! ولیس ھناك علاج أو مخرج من ھذه الحالة إلا بالغفران والمسامحة إن قوة التسامح ھي المنقذالوحید للخروج من ھذه المشاعر السلبیة التي شعرت فیھا النفس بالإیذاء النفسي العمیق ومعروف أن الشریعة في العھد القدیم لا تقتصرعلى وضع حد للانتقام "عَیْنًا بِعَیْنٍ" (خروج ۲۱: 23) ولكنھا أیضًا تنھي عن بغض الأخ لأخیه، كما تحرم الانتقام والحقد نحو القریب (لاویین ۱۹: ۱۸-۱۷) وقد تأمل ابن سیراخ الحكیم في ھذه التشریعات واكتشف الرابطة التي تربط بین غفران الإنسان لأخیه وبین الغفران الذي یلتمسه الإنسان من لله: "اِغْفِرْلِقَرِیبِكَ ظُلْمَه لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَایَاكَ"(سیراخ ۲۸: 2)
والقاعدة واضحة جدًا أمام الإنسان؛ أن الله لا یمكن أن یغفر لمن لا یغفر لأخیه ومن أھمیة ذلك أن السید المسیح وضع ھذه القاعدة في الصلاة الربانیة التي نرددھا كل یوم حتى لا ننساھا إن مسامحة أخیك شرط طلب الغفران الإلھي (لوقا ۱۱: 4٤؛ متى ۱۸: 23) ولذا نجد السید المسیح یفرض على بطرس الرسول ألا یمل من الغفران (متى ۱۸ )، ونقرأ أن إستفانوس الشماس الأول مات وھو یغفر لراجمیه (أعمال ۷ :10) لأن الذي "یحب" علیه أن یعي أن ھناك فعلین یعملھما:
أن یسامح وأن ینسى أیة إساءة إن الإنسان المسیحي یجب أن یغفر دائمًا ویغفربدافع المحبة أسوة بالمسیح (كولوسي ۳: 13) ولا یقاوم الشر إلا بالخیر (رومیة ۱۲: ۲۱ ) إن السید المسیح لم یدعو الخطاة إلى التوبة والإیمان فقط، بل أعلن أنه لم یأتِ إلا لیشفي ویغفرإن مقابلة الخیر بالخیر ھو عمل إنساني، ومقابلة الخیر بالشر ھوعمل شیطاني، أما مقابلة الشر بالخیر فھو عمل إلھي فالغفران عمل صعب على البشر لأنه لیس من طبیعتھم، ولكنه یحتاج قوة إلھیة خاصة نابعة من المحبة التي سكبھا لله في قلب الإنسان المسیحي (رومیة ٥:5)،وبھا یغفر ویسامح ویغسل قلبه ونفسه من الإساءة ومن المرارة، ولذا نصلي یومیًا "قَلْبًا نَقِیًّا اخْلُقْ فِيَّ یَا الَلهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِیمًا جَدِّدْ فِي أحْشَائِي" (مزمور ٥۰)
یا صدیقي: أن تسامح الإنسان الآخر الذي أساء إلیك ھو قرارك بإرادتك ورغبتك واختیارك ولكن اعلم أن مكسبك كبیر للغایة وھو الحصول على قدر أكبر من الرحمة الإلھیة والشفاء الداخلي الذي تحتاجه في حیاتك الحاضرة والآتیة أیضًا كما نصلي في مدیحة الصوم الكبیر طوبى للرحما على المساكین فإن الرحمة تحل علیھم والمسیح یرحمھم في یوم الدین ویحل بروح قدسه فیھم والمساكین ھنا لیس فقط فقراء المال والعوز ولكن أصحاب الشخصیة الفقیرة في السلوك والتصرف والأدب والأخلاق والمعاملة.
لتكن صلاتك: أعطني یارب طاقة تسامح وغفران لكل من أساء إليَّ املأ قلبي بمحبتك فأستطیع أن أحب حتى الذین أساءوا إليَّ في مشوارحیاتي لا تدعني أحمل ضغینة ضد أي أحد علمني أن أسامح وأن أغفر وأن أحب رغم الضعف والفكر والمیول القلبیة الشریرة التي تحاربني وتبعدني عن طاعة وصیتك الغالیة "اِغْفِرُوا یُغْفَرْ لَكُمْ" (لوقا ٦: 37) أوعدك یارب أن أبدأ صفحة جدیدة كلھا تسامح وغفران وتوبة وحیاة نقیة أطلب فیھا نعمتك وروحك القدوس مرشدًا ومعینًا لحیاتي آمین.
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 248

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل