تعتبر العذراء مريم نموذجا في حياة الصبر والاحتمال ، فمنذ ولادتها حتى نياحتها وصعود جسدها الطاهر ، وهي تحيا حياة قوامها الألم ، اذ تحققت فيها النبوءة « وانت يجوز في قلبك سيف » .
منذ الطفولة
إذا ما تتبعنا حياة العذراء ، لوجدنا أنها قاست آلاماً كثيرة . ففي الطفولة الأولى عاشت حياة اليتم ، فقد مات يواقيم أبوها وهي في سن السادسة ، بينما ماتت حنة أمها وهي في الثامنة وهكذا عاشت مريم منذ نعومة اظافرها بلا اب او ام ولكنها عاشت في الهيكل عابدة مصلية خادمة إن اليتم يترك بصمات صعبة على نفسية الإنسان أحياناً ،ولكن العذراء كانت مثالا في تجاوز آلام الطفولة وحرماناتها وهذا نموذج وهذا عزاء لكل طفل يحيا حياتة الأولى بعيداً عن حنان الأمومة وعطف الأبوة إن مريم هي شفيعة كل هؤلاء لأنها فيما قد تألمت مجربة بكل هذه الآلام قادرة أن ترفع لابنها شفاعتها عن كل محروم ومحتاج ومسكين ، مادياً أو نفسياً أو اجتماعياً وعاشت العذراء في بيت يوسف في الناصرة ، في حياة صعبة خالية من الترف والراحة . ولكنها كانت صابرة وفرحة ،مطيعة لخطيبها ، مكرسة كل أوقاتها للعبادة ، حتى استحقت أن يأتيها الملاك مبشراً إياها بأنها قد وجدت نعمة عند الرب، وأنها ستحبل وتلد ابنا تسميه يسوع ، هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهايه (لوقا ۱ : ۲۰-۲۳) وقد أطاعت العذراء صوت السماء قائلة هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك ، ومنذ هذه اللحظة حل الأقنوم الثاني في أحشائها التي طهرها الروح القدس لكي تكون عرشاً للرب يسوع وسماءاً ثانية .
بشرى تحمل طابع المعاناة
والمتأمل في هذه البشرى المفرحة ،يجد أنها تحمل طابع المعاناة أيضا لأنه لم يسمع في البشرية كلها أن عذراء تحبل وتلد وهذا لا بد أن يعرضها لأفكار وهواجس عند يوسف البار ، وقد تتعرض إلى متاعب من البيئة التي تحيا فيها ولكن مريم احتملت واطاعت و خضعت وقدمت نموذجا لحياة الايمان المليء بالالم وبذل الذات ،وبالفعل عندما لاحظ يوسف علامات الحمل على العذراء ساورته الشكوك ، ولكنه إذ كان باراً لم يرد أن يشهرها ، وفيما هو يفكر في هذه الأمور ، لم تتركه السماء في حيرته، إذ تراءى له ملاك الرب في حلم قائلا لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك ، لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس ( مت ۱ : ۲۰ ) وفى الميلاد عانت مریم و تالمت و احتملت إذ صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة ، فصعد يوسف من الجليل من الناصرة إلى اليهودية إلى بيت لحم، لكونه من بيت داود ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى ، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد ، فولدت إبنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود ، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل .
صبر و احتمال عجيب :
من من الناس يرضى ان يضع وليده في مدود للبهائم ؟!
ومن من الناس يقبل أن ينزل الوليد ، فلا يجد ما يغطى جسده الغض سوى قطع بالية قديمة من الأقمشة ؟ ! كل هذا والعذراء تعرف يقيناً أن الذي ولد منها هو المسيا المنتظر طوباك ايتها العذراء ، يا من عشت حياة الصبر ، ولم يكن عندك احتجاج ولا تذمر ولا حتى تساؤل ، بل تسليم كامل للمشيئة الالهية ، وطاعة تامة للمقاصد الأبوية وما أن ولدت العذراء طفلها ، حتى ظهر الملاك ليوسف في حلم قائلا و قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك ، ( مت ۲ : ١٣ - ١٥ ) . وبعد أن أمضت العائلة المقدسة في مصر الفترة المحددة من السماء ، إلى حين موت الذي يطلب الصبى ، عادت العائلة إلى الناصرة وكان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه طوباك ايتها العذراء يا من احتملت السفر الطويل الشاق وطوباك ايتها البتول لانك في كل مسيرة حياتك ، كان الألم الجسدي والنفسي قربانا على مذبح الطاعة شبيه بالمر الذي قدم من المجوس .
أحشائي تلتهب ، ولكني أفرح :
ومن في البشرية كلها يحتمل أن يعلق ابنه على الصليب محتملا أصعب وأمر الآلام لقد كانت احشاء العذراء تتمزق ،وهي واقفة عند الصليب مع مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية ( يو ١٩ : ٢٥ ) قائلة في قلبها "أما العالم فيفرح بقبوله الخلاص ،وأما أحشائي فتلتهب عند نظرى إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه يا ابني وإلهي " إن كل أم متألمة مهما اشتدت آلامها ، عندما ترفع قلبها بالروح نحو الصليب ، وترى مريم في صمتها واتضاعها وصبرها واحتمالها ، تهون عليها كل أوجاعها ، لأن شفيعة البشرية تشفع في كل من يختبر شيئا من اختباراتها الروحية العجيبة ثم استودع يسوع أمه عند التلميذ الذي كان يحبه ، وكانت العذراء مع التلاميذ طيلة فترة الأربعين المقدسة ، ما بين القيامة والصعود، مواظبة معهم على الصلاة والطلبة ، وحضرت يوم العنصرة في بيت مرقس في العلية وبعد خمسة عشر عاما من صعوه الرب ، جاء الرب يسوع بنفسه لياخد روحها الطاهرة بين يديه وكان ذلك يوم الأحد ٢١ طوبة، ورفع الرسل جسدها الطاهر وهم يرتلون مع الملائكة المحتفلين بانتقال أم النور ان الصبر واحتمال الآلام وحمل الصليب ، ليس نذرا رهبانيا فقط ، وانما هو دعوة عامة لكل مؤمن يريد أن يتبع يسوع باخلاص قلب ويسوع رئيس كهنتنا العظيم إذ هو رئيس أحبار رحيم ، قادر أن يرثى لضعفاتنا ويعيننا في تجاربنا ، لأنه اختبر كل أنواع الآلام البشرية .ووعده صادق أمين " تكفيك نعمتى لان قوتي في الضعف تكمل" ان سر الألم هو أحد اسرار الحياة المسيحية ، وهو يمنح كل مختبريه حياة الطاعة الحقة ( تعلم الطاعة مما تألم به ) وهو سر يهيء النفس لتقبل إشراقة المسيح الحلوة وتدفق سر المحبة الصادقة
صلاة : أيتها الشفيعة المؤتمنة عن جنس البشرية إشفعي فينا أمام إبنك الوحيد ،كثيرة هي شفاعتك ومقبولة عنده .ان تألمنا آزرینا بصلواتك ، لأنك تالمت كثيرا واحتملت كثيرا وإن ضعفنا فاسرعى لنجدتنا لأنك أم يسوع وأمنا أيضاً. واسمحى يا من ظهرت في الزيتون ، لتشددى شعب مصر الذي باركه الرب منذ القدم ، أن يكون أبناؤك في كرازة مار مرقس بالبركة ألوف ألوف وربوات ربوات، مؤمنين صابرين في الضيق حارين في الروح ، فرحين في الرجاء آمين
المتنيح نيافة الأنبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والأشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الرابع والثلاثون عام 1976
العذراء وحياة الاحتمال
12 أغسطس 2024
عدد الزيارات 67