بمناسبة صوم العذراء ، كنا في الأسبوع الماضي قد تكلمنا عن زيارة العذراء لاليصابات ، وأخذنا منها درساً عن لقاءات القديسين وفي هذه الليلة نتابع حديثنا عن زيارة العذراء لأليصابات، فنتأمل في تسبحة العذراء ، وبخاصة في عباراتها الأولى تعظم نفسى الرب ، وتبتهج روحي بالله مخلصي » ( لو ١ : ٤٦ )
تعظم نفسى الرب
لما رأت العذراء أن اليصابات ، مدحتها بقولها "مباركة أنت في النساء ، طوبى للتي آمنت بما قيل لها من الرب ، من أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلى " لم تشأ أن تجعلها تسترسل في مديحها بل حولت موضوع اللقاء من مديح لها الى مديح للرب . وأنشدت تسبحتها المشهورة " تعظم نفسى الرب " وهكذا قطعت على اليصابات مديحها لها ، وحولت أفكارها إلى الرب في الواقع اننا نجد فارقا كبيرا جدا بين العذراء التي تأملت عظائم الرب ، وبين أيوب الصديق في حديثه عن عظمته الشخصية : أيوب الصديق وقف يمدح نفسه فقال " رآني الغلمان فاختبأوا،الشيوخ قاموا ووقفوا - العظماء أمسكوا عن الكلام ، ووضعوا أيديهم على أفواههم . صوت الشرفاء اختفى ، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم . لان الأذن سمعت فطوبتي ، والعين رأت فشهدت لي . لأني أنقذت المسكين المستغيث اليتيم ولا معين له . ليست البر فكساني ، كجبة وعمامة كان
عدلى كنت عيوناً للعمى ، وأرجلا للعرج " أما السيدة العذراء ، فلم تعظم نفسها ، انما عظمت الرب كلامها كله كان عن الله ، الذي صنع قوة بذراعه " واسمه القدوس ،
ورحمته التي من جيل إلى جيل ، الذي شتت المتكبرين ، وأنزل الاعزاء ورفع المتضمين ، وأشبع الجياع " كل كلامها كان عن الله ، وليس عن ذاتها . لم تقل انها صنعت شيئا عظيماً ، وانما « القدير صنع بي عظائم » . أرادت العذراء أن تختفى ، لكى يظهر الله . قطعت مديح اليصابات
لها ، لكي تمدح الله كان الله يملأ قلبها وفكرها ووقتها وفمها ، ويشغل اهتمامها .إن العذراء مشغولة بالله ، وبتأمل أعماله ورحمته واسمه القدوس.. لم تحدث اليصابات عن ظروفها . ولم تسرح معها في أحاديث اجتماعية أو عائلية ، إنما حدثتها عن الله ، وكانت مقابلة روحية ليتنا ناخذه تدريباً لنا في حياتنا ، ان ننشغل بالله ، وأن يكون الله هو موضوع احاديثنا ومركز تفكيرنا " تعظم نفسى الرب "تذكرنا هذه العبارة بقول السيد المسيح "أنا مجدتك على الأرض " ( تك ۱۷ ) ، وبقولنا في الصلاة الربية" ليتقدس اسمك " تذكرنا أن يكون الله هو الكل في الكل في حياتنا "ليس لنا يا رب ليس لنا ، لكن لاسمك القدوس اعط مجداً " تذكرنا أيضاً بانشغال القديسين بالله باستمرار . صار الله لهم طعاماً نهاراً وليلا ، صار أنشودتهم ، وأغنيتهم ، وحديثهم ، وهذيذهم اسأل نفسك في أي شيء تشغل وقتك ؟ في الله أم غيره ؟
" تعظم نفسى الرب " ان أردت أن تعظم الرب ، فابعد عن تعظيمك لذاتك ،ولكل ما يمت اليك بصلة الشعب عظم هيرودس الملك ، وقالوا عن صوته " هذا صوت إله" فضربه ملاك الرب بالدود فمات ، لأنه لم يعط مجداً للرب . وشعب أفسس عظموا أرطاميس . والشاعر عظم أباه بقوله : وأبي كسرى علا ايوانه أين في الناس أب مثل أبي
التامل في عظمة الله :
هناك مجالات كثيرة للتأمل في عظمة الله :
الله غير محدود في عظمته ، غير محدود في قوته ، غير محدود من جهة المكان والزمان ، هو الألف والياء ، البداية والنهاية الكون كله لا يسعه ، والزمن لا يحده . هو موجود قبل الزمن ، هو أزلى قبل الدهور . هو غير محدود فى كماله في قدسيته ، في صلاحه ، في جماله موسى رأى شيئاً من جماله ، فأضاء وجهه حتى أن الناس لم يحتملوا رؤيته ، فلبس برقعاً الله غير محدود في علمه ، في معرفته ، في فهمه ، في حكمته شتان بين علمه وعلم البشر كل علوم البشر جهالة عند الله الناس تعرف بعض أشياء عن بعض أشياء ، أما الله فيعرف كل شيء عن كل شيء وعن كل أحد ويعرف بلا واسطة ولا أجهزة ، وبلا
تدرج ، وبكل يقينية ، ويعرف الخفيات، يعرف الغيب ، والمستقبل ،ويقرأ القلوب والأفكار امامه نقول كما قال أيوب " نطقت بما لم افهم ، بعجائب فوقى لم أدركها " حقا "تعظم نفسى الرب" كل صفة من صفات الله : إن تأملتها تتوه وتقول " تعظم نفسى الرب " وتشعر بتفاهة الكون كله وبتفاهة ذاتك أمامه .
ليتنا نتأمل في جوانب العظمة الإلهية ، وما فيها من كمالات . ونحن نعظم الله ، لا لأنه محتاج لتعظيمنا ، انما لأن أرواحنا وأفكارنا والسنتنا تتقدس باسم الله وذكره وصفاته ، وتعلو أرواحنا الى مجال الهى يرفعنا معه الى علو اسمى منا إن الله ليس محتاجاً إلى تمجيدنا ، ولا إلى تمجيد الطبيعة التي تحدث بمجد الله ، وتخبر بعمل يديه ولا إلى تمجيد الملائكة إنما تمجده صفاته وطبيعته ولاهوته . هو ممجد بذاته وان كان التأمل في صفات الله وفى لاهوته أعلى منك ، يمكنك ان تعظم نفسك الرب في خليقته ، في الطبيعة وفي ذاتك مجرد التأمل في زنبقة من زنابق الحقل التي لم يستطع سليمان أن يلبس كواحدة منها ، أو التأمل فى الأفلاك والكواكب والقوانين التي تحكمها وهي معلقة في الأجواء ، أو التأمل في أجهزة الجسد التي تعمل في حكمة عجيبة وفق قوانين رائعة ، كل ذلك وغيره ، نقف أمامه ونقول و تعظم نفسى الرب وان كنا تعظم الرب على الأشياء الحاضرة ، فبالأكثر تعظمه على الأشياء المستقبلة ، على ما لم تره عين ، وما لم تسطع به اذن وما لم يخطر على قلب بشر مجرد إقامة الموتى ، أمر عجيب ، نقف أمامه ونقول" تعظم نفسى الرب " حقاً كيف يقيم التراب ، ويمنحه حياة ..!!
أما العظمة التي تراها في الانسان الذي وصل الى القمر والمريخ فهي أيضاً منحة من الله ، الذي وهب الانسان الذكاء والمعرفة فأمام هذه العظمة تقول « تعظم نفسى الرب » .
أمام عظمة الله ينسحق الانسان ، ويتضع قلبه من أنا ؟ مجرد إنسان بسيط في هذا الكون الضخم ، اعيش في فترة زمنية ضئيلة تقع وسط الدهور ما كياني ؟ وما معرفتي ، وما قدرتي ، أمام الله غير المحدود ، القادر على كل شيء ؟!
امام عظمة الله تشعر بالضآلة ، وبأننا لاشيء وان نظر الينا الله نقول « لأنه نظر إلى اتضاع أمته » وعندما تنسحق نفسك ، ننال من الرب المواهب الله لا يزيد شيئاً بتمجيدك فهو لا يزيد ولا ينقص ولكنك تزداد حباً ، وتزداد خشوعاً ، وتزداد اتضاعاً ، وتزداد عمقاً ، كلما تتأمل عظمة الله ، وتعظم نفسك الرب فتبتهج روحك بالله مخلصك عجيب أن كل هذه التأملات التي تزخر بها تسبحة العذراء تصدر عن فتاة في حوالي الرابعة عشرة من عمرها ، ولكنه عمر مملوء بالروح ، عميق في خبرته ، عمر تربى في الهيكل "تعظم نفسى الرب وتبتهج روحى بالله مخلصي" إن حياة البهجة بالروح موضوع طويل ، نتركه إلى فرصة أخرى .
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن مجلة الكرازة العدد الرابع والثلاثون عام 1976
تعظم نفسى الرب
14 أغسطس 2024
عدد الزيارات 42