صوم يونان

17 فبراير 2019
Large image

(( لما تربع على الكرسى المرقسى الأنبا أفرآم بن زرعة السريانى الثانى و الستون من عدد باباوات الأسكندرية ، الذى كان تاجرا ويتردد كثيرا على مصر ومن ثم استوطن بها ، و نظرا لاتصافه بفضيلة الرحمة و اشتهارة بكثرة العلم والصلاح ، فقد أجمع الأساقفة والمدبرون والعلماء على اختياره ليكون رئيسا دينيا عليهم ، و ساموه باب على الكرسى الأسكندرى سنة 968 للتجسد الألهى . ومن أمره أنه لم يرغب بادئ بدء أن يصوم أسبوع هرقل الجارى ممارسته عند الأقباط ، ولكنه صامه فى مقابل كونه فرض عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام على اسم يونان . و نظرا لتقواه قبل الأقباط ممارسة هذا الصوم بغير تردد . ومما يذكر عن هذا البابا أنه فى أيامه حدثت معجزة نقل جبل المقطم ، وكان معه رجل فاضل هو سمعان الدباغ ، وحصل ذلك فى عهد الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين و كان معاصراً لجميعهم الخليفة المعز . ومما يذكر عن البابا أفرآم أنه أعاد بناء كنيسة مرقوريوس أبى السيفين ، ورمم كنيسة المعلقة بمصر القديمة ، واستمر على كرسى الباباوية ثلاث سنين و ستة أيام و تنيح . و من ذلك الوقت صارت الكنيسة القبطية تمارس هذا الصوم بحسب الترتيب الموضوع للصوم الكبير تماما – واضعة أيامه قبله بخمسة عشر يوما ، ولعل ذلك كان يناسب وقوع حادثة نينوى فى ذلك الوقت – حتى أن كثيرين من الناس الأتقياء يصومون الثلاثة الأيام بلياليها منقطعين فيها عن الطعام ، محبة فى الزهد وتشبها بأهل نينوى كى يرحموا . وبما أننا بشر مائلون إلى الشر منذ حداثتنا ، وحياتنا مهددة بالتجارب ، و نحتاج إلى استمداد العناية الألهية بواسطة الصوم و الصلاة ، لذلك طالبت الكنيسة بنيها بمداومة العبادة المشفوعة بالصوم و التذلل ، و النسك و التقشف ، والابتعاد عن الرذائل التى يبغضها الله ؛ و وجب أن نصوم بقلوب نقية لننال الميراث الأبدى الذى لا يبلى ولا يتدنس و لا يضمحل المحفوظ للقديسين فى السموات .
أما يونان النبى فهو من جت حافر إحدى قرى سبط زبولون شمال الأرض المقدسة ، وقد تنبأ فى ملك يربعام الثانى بن يوآش ملك إسرائيل عندما كان عاموس مزهرا فى خدمته ، ورأى البعض أنه كان قد شرع فى ذلك قبل هذا الوقت فى ملك يهوآحاز عندما كان حزائيل يتمم نبوات اليشع بقساوته على إسرائيل .
أما نينوى فهى كرسى سلطنة الأشوريين ، و كانت مشهورة وقتئذ بعظمتها وفسادها معا ، وقد نجح يونان فى خدمته بين شعوبها . و هى واقعة على ضفة دجلة الشرقية قبالة الموصل ، وتبعد عن بابل 250 ميلا ، وعن خليج فارس إلى الشمال الغربى منه 550 ميلا . وقد ازدهرت هذه المدينة فى ملك سنحاريب وآسر حدون و أشوربانيبال ، وبعد ذلك حاصرها الماديون و البابليون فأخذوها ودمروها .
ونتعلم من سفر يونان أن الله تعالى يطيل أناته و حلمه و صبره على الخطاة ، ويصفح عنهم إذا تابوا إليه توبة صادقة ، فيشملهم بمراحمه و يقبلهم إليه ، لأنه إله رحيم كثير الرحمة بطئ الغضب وجزيل الرأفة و يندم على الشر ، فلا يحقد إلى الدهر ولا يغضب إلى الأبد .
ولدى التأمل فى نبوة هذا النبى يرى الإنسان أن جميع الأنبياء قد تنبأوا عن السيد المسيح له المجد برموز و إشارات ، أما يونان فقد كان آية بنفسه ، لأنه بطرحه فى البحر و مكوثه فى جوف الحوت ثلاثة أيام و ثلاث ليال ، و خلاصه من هذا السجن بدون أن يلحقه فساد ، كان فى ذلك رمزاً حسيا عن المسيح له المجد ، الذى لما جاء إلى العالم لخلاصنا لم يكمل الخلاص إلا بموته و دفنه فى القبر ثلاثة أيام و ثلاث ليال بدون أن يرى جسده فسادا ، كما قيل عنه لم تترك نفسه فى الهاوية و لا رأى جسده فسادا .
أما الفوائد التى نتعلمها و نجنى بها بركات جزيلة من صوم نينوى هذا فهى :
أولا : بما أننا نتلو فى هذه الأيام بنوع خاص الحوادث المتعلقة ، فى التوراة و الأناجيل و المزامير ، بهذه الأمور فمنها نتذكر
( ا ) رحمة الله و حبه و اهتمامه بخلاص جميع الناس ، إذ أنه يريد أن جميع الناس يخلصون و إلى معرفة الحق يقبلون ، و لم يشأ أن يجازى أهل نينوى إلا لما أرسل إليهم يونان النبى ليبشرهم و ينذرهم و يهددهم بالويل .
( ب ) إن يونان لم يهتم بهؤلاء الأمم و بخلاصهم ، و خاف أن يناديهم فيتوبوا فيغفر الله لهم ، و لذلك بادر بالهرب من أمامه وجه الرب إلى ترشيش ، فكانت النتيجة أن الله هيج البحر و الزوابع . و انجلت هذه المصيبة الهائلة بطرحه فى البحر حسب مشورته هو نفسه إلى الذين كانوا معه فى السفينة تأديبا له .
( ج ) إن الله يدعو جميع الناس للتقرب منه تعالى و لا يترك نفسه بلا شاهد بين جميع الأمم . و بهذه الحادثة يعلمنا أن الأمم لها نصيب فى ميراث ملكوته الذى جاء يسوع له المجد و أعده للبشر .
ثانيا : إنه بمباشرتنا هذا الصوم نعيد ما قام بعمله قديما شعب نينوى ، الذى صام بعد ما صدر عليه القضاء من لدن الرب أنه بعد أربعين يوما تنقلب نينوى ، و بصومه جعل الرب يصفح عنه ، و بمثابرته على الصوم النقى و الصلاة الحارة و التوبة الحقيقية استبدل الله بالعدل الرحمة لكون الرحمة فوق العدل .
ثالثا : يتجلى لنا الفرق بين يونان و رب المجد ، فأن الأول ذهب مكرها لينادى أهل نينوى فوجد من يقبل نداءه و تابوا بمجرد إنذاره ، و نحن قد جاءنا السيد المسيح و مكث على الأرض نيفا و ثلاثين سنة ، و كان ينادينا بكلامه المملوء بروح النعمة و المحبة و الحنو ، و يرشدنا بتعاليمه الصادقة ، و يخفف عنا الأتعاب قائلا (( تعالوا إلى يا جميع المتعبين و الثقيلى الأحمال و أنا أريحكم )) و مع ذلك نتوانى عن تلبية ندائه . يونان لم يناد إلا بالخراب قائلا بعد أربعين يوما تنقلب نينوى ، ولم يتجاوز نداؤه يوما واحدا ، أما المخلص فاستمر يدهش العالم بصنع الآيات الباهرة ، و المعجزات العجيبة التى من شأنها نشر السلام و خلاص النفوس مدة تزيد على ثلاث سنين ولم يؤمنوا به . يونان كرز بين أهل نينوى كرازة الحاقد الذى يرغب أن الرب لا يرحمهم ، ويتمم كلامه بقلب المدينة عليهم ، غير مبال بمن فيها من الناس و البهائم الذين لم يعرفوا شمالهم من يمينهم ، و المسيح كان يسعى فى أمر خلاصنا وشفاء مرضانا وقيامة أمواتنا و تطهيرنا من خطايانا ، وحمل أسقامنا كقوله على لسان أشعياء (( أحزاننا حملها و أوجاعنا تحملها و نحن حسبناه مصابا مضروبا من الله و مرذولا ، و هو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا ، تأديب سلامنا عليه و بحبره شفينا )) ، كما أنه منع عنا سلطة إبليس ومع ذلك لم نعتد به ولم نسمع لقوله تعالى كما استمع أهل نينوى ليونان ، (( ولذا فأن رجال نينوى سيقومون فى الدين مع هذا الجيل و يدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا )) . هدانا الله إلى سبيل الخلاص ومنهج التوبة وحسن الفضيلة ، لنحظى بالقربى من الله عز وجل له المجد إلى كمال .

عدد الزيارات 2133

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل