المحبة الأخوية

22 فبراير 2019
Large image

نتكلم عن محبة القريب قدّم السيد المسيح مثل السامري الصالح بعد أن سأله ناموسي: «ماذا أعمَلُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّةَ؟» فأجابه السيد المسيح عن المحبة، محبة الله والقريب، ثم أضاف: «اِفعَلْ هذا فتحيا» (لوقا10: 25-28)، ثم أعطي لنا مثل السامري الصالح ويأتي سؤال أمامنا ونحن نتأمل في هذا المثل: ماذا ستفعل لو كنت مكان أحدهم؟ فقد مرّ عليه أولاً كاهن ولم يعطه اهتمامًا، ومر عليه لاوي من نفس جنسه وأيضًا لم يهتم، ثم مر عليه هذا السامري – الذي حسب العُرف في ذلك الزمان كان يُعتَبَر عدوًا – فإذ به يهتم جدًا بالجريح الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئًا، وهذا الاهتمام ليس وقتيًا ولكنه مستمر. وعندما سأل الرب في المثل «"فأيَّ هؤُلاءِ الثّلاثَةِ ترَى صارَ قريبًا للّذي وقَعَ بَينَ اللُّصوصِ؟" فقالَ: "الّذي صَنَعَ معهُ الرَّحمَةَ"» (لوقا10: 36،37) ويأتي هنا سؤال مهم جدًا من الأسئلة التي شغلت الآباء: أيهما أهم: محبة القريب أم محبة الصلاة؟
أجاب القديس يوحنا الدرجي عن هذا السؤال: "المحبة أعظم من الصلاة، فالصلاة واحدة من الفضائل بينما المحبة هي أمهم جميعًا". الصلاة فضيلة وتأخذ أشكالاً كثيرة (مثل قراءة مقاطع من الكتاب، والترانيم، والأحان)، ولكن محبة القريب – أو ما نسمّيه التضامن مع القريب – فتفوق الصلاة. القديس يوحنا ذهبي الفم له عبارة عميقة جدًا تقول: "لا تنتظر أن يحبك الآخر بل اقفز نحوه بنفسك وقدّم له حبك"، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: "إن حياتنا وهلاكنا هما في يد القريب، فإذا كسبنا القريب فقد كسبنا الله"، وأيضًا العلاّمة اكلمينضس السكندري يقول: "عندما نرى أخانا فقد رأينا الله"، ونقرأ في الفيلوكاليا: "كما أن التفكير في لهيب النار لا يجلب لك دفئًا، كذلك الإيمان بدون محبة لا يحقّق نور المعرفة الروحية في النفس"، أي محبة القريب ربنا يسوع المسيح في تعليمه قدّم لنا مثل السامري الصالح كتعبير عن هذا التضامن الذي يصنع الرحمة (كلمة التضامن فيها نوع من المساندة للطرفين)، ونقرأ في صلواتنا الليلية ونقول: "ليس رحمة في الدينوية لمن لم يستعمل الرحمة"، كما يعملنا الكتاب في المزمور الأربعين: «طوبي لمن يتعطّف على المسكين، في يوم الشرّ ينجية الرب». لنقارن بين تصرفات الثلاثة (الكاهن واللاوي والسامري)، كنا نظنّ أن الكاهن هو الذي سيقدم رحمة، أو على الأقل اللاوي، ولكن جاءت الرحمة من الإنسان البعيد والذي بسبب الرحمة صار قريبًا جدًا وفي معجزات السيد المسيح وهي كثيرة نلمح نفس هذه الفضيلة؛ صنعها السيد المسيح مع المفلوج الذي كان له 38 سنة وليس له إنسان (يوحنا 5)! أيضًا نفس هذه الرباط (محبة القريب) هو ما صنعه السيد المسيح مع المرأة الخاطئة التي لم تجد أحدًا يقف بجوارها إلاّ شخص السيد المسيح (يوحنا 8) يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الإنسان المسيحي: "أيّ مصباح بلا نور؟ وأيّ مسيحى بلا حب؟!". أحد الأدباء قال عبارة جميلة: "بحتث عن الله كثيرًا ولم أجده! وبحثت عن نفسي كثيرًا ولم أجدها! ولكن عندما فتّشت عن أخي وجدت الثلاثة"، كما علمنا الكتاب أن «مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ» (يوحنا الأولى3: 14)، ويأمرنا القديس بطرس: «وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ – قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً»، هذه «المودة الأخوية» هي محبة القريب، ومن يهمل هذه الفضيلة – يقول الكتاب: «أَعْمَى قَصِيرُ الْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ السَّالِفَةِ» (بطرس الثانية1: 5-10) محبة القريب تعني أن يخرج الإنسان من ذاته، ولذلك عندما يبدأ الإنسان أيّ شكل من أشكال التكريس، يكون جهاده الأول من أجل قطع الهوى وإنكار الذات والتحوّل من الذات والأنا إلى الآخر، وهذا لا يحدث إلاّ عندما تسكن فيه روح الله، ويكون داخله كما خارجه.
ماذا تعني لنا محبة القريب؟
أولاً: محبة القريب دليل على أن لك علاقة قوية بالله، يقول القديس أغسطينوس: "المحبة هي العلامة الوحيدة المميِّزة بين أولاد الله وأولاد إبليس". لذلك تبدأ صلوات قداس المؤمنين بالقبلة المقدسة، فالقبلة أسمى تعبير عن الحب، وما تصنعة أيدينا يعبِّر عمّا في قلوبنا، وعندما تتقدّم بهذه القبلة المقدسة نحو الذي بجوارك فكأنك تصالح العالم كله ممثَّلاً في الشخص الذي بجانبك.

ثانيًا: محبة القريب هي مقياس لصدق عبادتنا، العبادة تعبير عن الحب لله، ولكن تندهش معي عندما يتكلم ربنا يسوع المسيح عن أساسيات العبادة (متى 6)، هل بدأ بالصلاة أم بالصوم أم بالصدقة؟ كنّا نظن أن الرب سيبدأ بالحديث عن الصلاة، ولكنه بدأ بالصدقة! فالصدقة هي تعبير عن شعورنا بالآخر، إحساسنا به، محبتنا التي تخرج من قلوبنا تجاه القريب، بعد ذلك يتكلم عن الصلاة التي هي شعور بالله، وأخيرًا الصوم وهو شعوري بذاتي ومذلتي وحقارتي.
الأمر الثالث: محبة القريب مقياس للدينونة، سيقف كلٌ منّا أمام الديان العادل، وسيسألك: كيف عاملت إخوتك في البشرية؟ ما هي المحبة التي قدمتها نحوهم؟ يعبِّر بعض الآباء عن محبة القريب بأنها "مَسْك المنشفة بيد، وغسل الأقدام باليد الأخرى"، وقد تأخذ صورة إطعام فقير أو زيارة مريض أو كساء العريان، ولكن محبة القريب تعلن في الأساس عن إخلاءالذات، والعالم يا إخوتي جائع لهذه المحبة؛ فما الحروب والنزاعات والصراعات في العالم كله إلاّ بسبب غياب هذه الفضيلة.
«لأَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ» (بطرس الثانية1: 11
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 1203

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل