عندما عشت مع الغربيين في جامعاتهم ، وتأملت في روحياتهم ، أدركت أن الروحانية الأرثوذكسية تختلف جذرياً عن تلك التي في الغرب وقد يكون للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية اثرها على حياة الناس وتفكيرهم وتدينهم ولكن اللاهوت أيضا له أثره الأكبر في تشكيل انماط الناس وعلاقاتهم .
فاللاهوت الغربى يقوم على الدراسة والتحليل والبحث والنقد ، حتى اني وجدت طلاب الدكتوراة ينتقدون القديس بولس فيما كتبه عن الرجل والمرأة في كورنثوس الأولى ،وينتقدون نظرة الانجيل نحو الطلاق ويعللون نقدهم هذا بأنه دراسة علمية للظروف الثقافية التي كتب فيها الانجيل ، والتي يظنون أنها قد أثرت على عقلية من كتب ، دون أن يدروا أن ما كتب انما كتب بوحي من الروح القدس فمنهج الكنيسة الأرثوذكسية منهج روحي نسکی اختیاری ، بینما منهج الغرب عقلى تحليل .
هدف الحياة الروحية :
هدف الحياة الروحية عند الغرب ،هو اسعاد الانسان على الأرض ويفسرون الآية و جئت لتكون لهم حياة ، ويكون لهم أفضل بأن الحياة الأفضل هى الحياة الأرضية المتحضرة والمتقدمة اجتماعياً وثقافياً وليس فى تفكيرهم أن الحياة الأفضل هي الحياة الابدية الحاضرة في "الآن"، كما قصدها الرب أما الحياة الروحية عند الارثوذكسيين فهي حياة تبدأ هنا وتمتد في الابدية لهذا يعطيها الأرثوذكسى كل اهتمامه فصلواته ونسكه وعبادته وخدماته هي من أجل أبديته ، التي يترجاها بالايمان ، ويتوقعها بالصبر الغربيون يركزون على عقيدة أن الله صار انسانا ، ليصير الانسان الها ، فيؤلهون الانسانية ويتنافسون فى استعاد آدمية الانسان والأرثوذكسيون يركزون على عقيدة ان الله صار انسانا ثم صلب ومات وقام لكى يحررنا ويبررنا ويقدسنا ويفتح لنا أبواب الفردوس لم أجد استاذاً واحداً غربياً في الجامعات اللاهوتية ، قد اهتم بالنسك والرهبنة والتكريس ولكن الغالبية تهتم بالانسان في حواره مع الله ،وفي حواره مع نفسه ، وفي حواره مع الآخرين والروحانية الأرثوذكسية تركز على جهاد الإنسان ، والغربيون متأثرون بالقديس أوغسطينوس في تركيزه على النعمة الإلهية ولكن الأرثوذكسى لا يتجاهل عمل النعمة في جهاده ، ولكنه يرى أنه لا نعمة بدون جهاد ، ولا جهاد مقبول إلا بعمل النعمة .
يسوع أم الرب يسوع ...؟
والغربيون يكتبون دائما عن « يسوع » ؛ ويكاد اسم الرب يسوع في الكتابات الغربية يقترب من اسم أى شخص عادي ولكن الارثوذكسى عندما يتحدث عن المسيح يقول « ربنا والهنا وتخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد دائما الى الابد امين » ذلك أن تعالى الغربى واعتزازه بإنسانيته تجعله يتصور أن الله الذي صار إنساناً يقترب منه تماماً ، متجاهلا الأقنوم الإلهى المخوف المملوء مجداً والأرثوذكسى يمجد الثالوث القدوس في كل صلواته وتسابيحه وأحاديثه ، لأنه يعلم أن المسيح قبل تجسده كان مع الآب والروح القدس في شركة الحب والمجد والفرح وإنه بعد صعوده جلس عن يمين الآب في المجد الذي له قبل كون العالم عندما سألت أحد أساتذة اللاهوت في أمريكا : لماذا لا تركزون على الثالوث القدوس ، وتكتفون بذكر كلمة الرب أو الله ؟ قال لى ان موضوع الاقانيم موضوع دراسة وبحث وجدل والاسهل أن نقول
الله وكفى ولقد حزنت كثيراً عندما وجدت غالبية الابحاث اللاهوتية الغربية تغفل عمل الآب . مع أن المسيح له المجد عندما جاء أعلن أنه قادم من عند الآب ، وأنه يريد الكل أن يسأل الآب ، لكي يتمجد الآب مع إبنه .
روحانيتنا روحانية ثالوثية فيها اختبار الآب ومحبته ، ونعمة الابن و خلاصه ، وشركة وموهبة وعطية الروح القدس وفاعليته يقول اللاهوتي فلاديمير لوسكي :
Trinitarian theology is thus a theology of union, a mystical theology which appeals to experience, and which presupposes a continuous and progressive series of changes in created nature, a more and more intim-ate communion of the human person with the Holy Trinity "Mystical Theology p 67."
روحانية شركة ، وليست روحانية فردية :
المجتمع الغربي مجتمع فردى بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد أثر هذا على الروحانية نفسها فالغربي يركز على خلاصه الشخصي وتأملاته وأبحاثه ، بينما
الأرثوذكسى يهتم كثيراً بحياة الشركة : Koinonia ، فوظائف الكنيسة: اللتيورجيا، الدياكونية، الكينونيا - هي وظائف جماعية وليست فرديةيقول اللاهوتي فلورفسكي :"ان الكنيسة هي شركة اخوة وانها تجمع القديسين ، انها جماعة متحدة مترابطة . انها تجمع المؤمنين ، وليست بعض الافراد المبعثرين" فالرب صنع فصحه مع التلاميذ ، وفي صلاته الشفاعية طلب من الآب أن يوحد الجميع فى واحد . وأسرار الكنيسة تغرس الفرد في وحدة الألفة والمحبة وشركة العلاقة مع أهل بيت الله أي الكنيسة والمؤمن يخلص من خلال الكنيسة وليس خارجها . والعلاقة الشخصية بين الأرثوذكسى والرب ، موضوعة في إطار وحدة المؤمنين المرتبطين برباط الكمال الذي هو رباط المحبة ووحدانية الروح والوحدة ليست بين الاكليروس والعلمانين فقط ، وانما هي وحدة السمائيين مع الأرضيين . فالعلاقة القوية التي تربط المنتصرين الذين كملوا في الايمان مع المجاهدين الذين لا يزالون يركضون نحو الجعالة ، هي محور من أهم محاور الروحانية الارثوذكسية والكنيسة الأرثوذكسية تنظر إلى السماء والأرض وقد اتصلتا بعضهما البعض ، في اتحاد لا ينفصل . ففي القداس الإلهى عندما تبدأ الصلاة ، يفتح ستر الهيكل ، ويصير كل شيء مكشوف ، وتكون الصلاة علانية . لأن المسيح قد جعل الاثنين واحداً ، أى السمائيين والأرضيين . وتصلى الكنيسة قائلة : ( عندما نقف أمامك وقت الصلاة نحسب كالقيام في السماء ) . وفى القداس الاغريغورى تصلى قائلة " الذي أعطى الذين على الأرض تسبيح السيرافيم . اقبل منا نحن أيضاً أصواتنا مع غير المرئيين ، واحسبنا مع القوات السمائية "
تكامل دون ثنائية أو تضارب :
تبرز في الروحانية الغربية ثنائيات كثيرة مثل: ثنائية الله والانسان الجهاد والنعمة ، الفرد والجماعة ، المادة والفكر ، الجسد والروح ،الزمن والأبدية ولكن في الارثوذكسية لا توجد هذه الثنائيات لأن الكنيسة الأرثوذكسية لم تتأثر بالأفلاطونية التي تعتبر المادة ضد الفكرو الروح . وإنما هي متأثرة بالتجسد الإلهى الذى جعل الكون والمادة والجسد مجالات لتمجيد الله وتقديس اسمه فمنذ أن اتحد اللاهوت بالناسوت فى الله الكلمة ، لم تعد المادة نجسة بل صارت مجالا مباركا تجرى الكنيسة نعم ومواهب الروح القدس من خلالها فالماء والزيت والخمر والخبز ، وسائط ضرورية المارسة الاسرار والجسد هيكل للروح القدس ، والمضجع غير نجس ، وأجسادنا نفسها سوف تقوم في مجد عندما يأتى الرب في مجده ومجد أبيه ، لاننا أبناء نور ، وأبناء قيامة وستسطع أجساد القديسين بالنور والبهاء بعد القيامة والجسد نفسه سيشارك الروح بركات الدهر الآتى ، كما شاركها أتعاب الجهاد في أرض الغربة وعندنا ليس من تضاد بين الزمن والأبدية ، بل هناك تلاحم واتصال لأجل هذا أصبح الزمان داخلا في أعتاب الأبدية ، وأصبحت الأبدية هابطة على تاريخنا ، ساحبة أياه في تخومها اللانهائية .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثلاثون عام ١٩٧٥