البحث عن الحكمة ...
بحث المفكّرون منذ القدم عن الحكمة . وتميزت حضاراتنا الشرقية منذ أمد طويل بالحكماء. وكان الهدف من هذا البحث هو المعرفة ، وان يتصرف الناس بفطنة وحنكة لينجح الإنسان في حياته ، وتكون له المعرفة بالخالق والعالم والأخلاقيات والسلوك الحسن . واتخذت مساعي البحث عن الحكمة في بلاد اليونان قديماً منحىً نظريًا فلسفيًا للبحث في حقيقة وجوهر الأمور، وعندما أسبغ على سقراط لقب الحكيم أجاب : انه ليس حكيماً بل محباً للحكمة "فيلو " باليونانية محب ، " صوفيا " تعني الحكمة وفي العهد القديم نجد إن الحكمة صفة لله وهو وهب الحكمة ، وتميز رجال الاستقامة والصلاة ومحبة الله بالحكمة. فنجد أن يوسف الصدِّيق تميَّز بحكمة من الله جعلته يفسر أحلام فرعون وأحلام جميع عبيده فقال فرعون لعبيده : " هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله ، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك " تك 41 : 37 – 39 . كما تميز موسى النبي بالحكمة والحلم مهذبا أولا بحكمة المصريين ثم بالتأمل في حياته في البرية والصلة بالله ومعرفته لله . نما موسي النبي في الحكمة وأصبح مقتدراً في الأقوال والأعمال واستطاع أن يقود الشعب قديماً للتحرر من العبودية ، وقادهم في البرية بنعمة وحكمة من الله كما يقودنا الرب يسوع في برية هذا العالم عندما نطيعه ونسترشد بحكمته ونعمته ، ليعطينا حكمة ليست من هذا العالم ويصل بنا إلى السماء أما سليمان فطلب من الله عندما تراءى له الرب وسأله ماذا أعطيك فطلب سليمان الحكمة " فأعطني ألان حكمة ومعرفة لأخرج أمام هذا الشعب وادخل لان من يقدر أن يحكم على شعبك هذا العظيم . فقال الله لسليمان من اجل أن هذا كان في قلبك ولم تسال غنى ولا أموالا ولا كرامةً ولا أنفس مبغضيك ولا سألت أياما كثيرة بل إنما سالت لنفسك حكمة ومعرفة بهما تحكم على شعبي الذي ملكتك عليه . قد أعطيك حكمة ومعرفة وأعطيك غنى وأموالا وكرامةً " 2 أخ 1 : 10-12 . وفاقت حكمة سليمان حكمة كل بني المشرق وحكمة كل مصر 1مل 5 : 9 هذه الحكمة تجلّت في حسن قيادته وتصريفه للأمور وفي تبصّره وتميّزه .
الحكمة المسيحية والفلسفة ....
الحكمة المسيحية تهدف إلى معرفة الله ، وصفاته وملكوته وخلقه للعالم ومخلوقاته والنفس البشرية والفضيلة والسلوك الحسن، والإيمان الذي يجعل الإنسان مميزاً للخير والشر سالكاً في وصايا الله . والفلسفة تهدف إلى تكوين رأي صحيح عن الكون وخالقه والنفس البشرية ومعايير الفضيلة عن طريق أعمال العقل والتفكير ، ومع اعتراف الفلسفة بمحدودية العقل فان الفلسفة لا تضاد ولا تناقض الحكمة المسيحية والوحي الإلهي ومع هذا فنحن لا نطمئن لكل رأي للمفكرين والفلاسفة ، بل يجب دراسة هذه الآراء لمعرفتها ، لان الناس ومنهم المفكرين والفلاسفة مختلفون باختلاف بيئتهم وملكاتهم الفكرية وتجاربهم وظروفهم الاجتماعية وثقافتهم السائدة واتجاهاتهم ، فان ذلك يودي إلى اختلاف النتائج التي يتوصلوا إليها في بحوثهم ولهذا يجب أن يكون لنا التميز والبصيرة الروحية للتمييز بين الحكمة والفلسفة التي تؤكد وجود الله ومحبته أوالتى تلحد به في غرور وكبرياء .
إننا كمسيحيين لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله ، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله والتي نتكلم بها أيضا لا بأقوال حكمة إنسانية بل بما يعلّمه الروح القدس ، لأنه من عرف فكر الرب فيُعلّمه أما نحن فلنا فكر المسيح . الحكمة المسيحية وديعة روحية مملوءة رحمةً وأثمارًا صالحة عديمة الريبة والرياء يع 3 : 17 .إننا بالوحي المقدس وبالإيمان بالله يكون لنا التمييز والمعرفة لنميز بين السفسطة والفلسفات الكاذبة وبين البحث الجاد للوصول للحقيقة والارتقاء بالفكر.
مصدر الحكمة الحقيقية...
الله هو كليّ الحكمة والمدخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم واهب الحكمة وهو الذي يعطي الإنسان قلباً قادرا على التمييز بين الخير والشر " عنده الحكمة والقدرة والمشورة والفهم " أي 12 : 13 وفي حثه لنا لاقتناء الحكمة يقدمها لنا ويطوِّب الساعين إليها " طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم لان تجارتها خير من تجارة الفضة وربحها خير من الذهب الخالص ، هي أثمن من اللآليء وكل الجواهر لا تساويها في يمينها طول الأيام وفي يسارها الغنى والمجد ، طرقها طرق نعم وكل مسالكها سلام . هي شجرة حياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط " أم 3: 13 ،18،أم8: 11
والسيد المسيح هو اقنوم الحكمة المتجسد ،هو العقل الإلهى ، الذي يهب الحكمة للمؤمنين به الساعين إلى الكمال والحكمة والمعرفة ، وهو الذي دعانا أن نكون به حكماء ونتعلم منه " ملكة اليمن جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان وهودا أعظم من سليمان هاهنا " مت 12 : 42 . وقدّم الرب يسوع نفسه بان الحكمة التي كانت تنادي في العهد القديم من يريدها أن يأتي إليها ليرتوي " إن عطش احد فليقبل إلي ويشرب " يو 7 : 37 . ولنكتشف انه حكمة الله خالق العالم الذي به كل شيء كان وبغيره لم يكن شيء من كان فيه كانت الحياة والحياة كانت نوراً للناس والنور أضاء في الظلمة. ويطالبنا الله أن نسير في النور والحكمة لهذا نجد الأشرار يسلكون في الظلام ويهربوا من النور لئلا توبخ أعمالهم والروح القدس هو روح الله واهب الحكمة والفهم والمشورة والمعرفة ومخافة الرب . الروح القدس يعطي الاستنارة لعيون أذهاننا وهو قائد الكنيسة عبر تاريخها الطويل ومعطي الحكمة التي لا يستطيع العالم أن يقاومها أو ينقضها.
كونوا حكماء .....
انها دعوة الله لنا أن نكون حكماء ، وإذ نريد الحكمة ونجدّ في أثرها علينا أن نسلك بالحق والاستقامة ونجدّ حياة التوبة " أن الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحلّ في الجسد المسترق بالخطية " مك 1 : 14 . علينا أن نعرف الله ونحفظ وصاياه ونسلك بها " يا ابني إذا رغبت في الحكمة فأحفظ الوصايا فيهبها لك الرب " سير 1 : 33 ليست الحكمة علم الشر وحيث تكون مشورة الخطاة فليست هناك فطنه ، إننا إذ ابتعدنا عن الله وحكمته يظلم فكرنا " إن الذين أهملوا الحكمة لم ينحصر ظلمهم لأنفسهم بجهلهم الصلاح لكنهم خلفوا للناس ذكر حماقتهم بحيث لم يستطيعوا كتمان ما زلوا فيه " مك 10 : 8 التواضع والتعلم من المسيح وحياته وتعاليمه وممارسة أسرار الكنيسة في وداعة تمنح حكمة حتى للجهلاء " تأتي الكبرياء فيأتي الهوان ومع المتواضعين حكمة " أم 11 : 2 نعم إننا في وداعة وتواضع الأطفال المتكلين على أبيهم السماوي الطالبين عونه نأخذ منه حكمة " في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال أحمدك أيها ألآب ربّ السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال . نعم أيها الأب لأنه هكذا صارت المسرة أمامك كل شيء قد دفع إلي من أبي.
وليس احد يعرف الابن إلا الأب ولا احد يعرف الأب إلابن ومن أراد الابن أن يعلن له . تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني . لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم. لان نيري هيّن وحملي خفيف " مت 11 : 25 – 29 إننا مطالبون بالصلاة الواثقة في محبة الله ، لنأخذ منه حكمة كيف نتكلم ونسلك في مختلف المواقف " فان كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطي له ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة " يع 1 : 5،6 كلما كانت لنا مخافة لله ، ونكرمه كاب لنا ونظهر بنوتنا له بحرصنا على إرضائه " مخافة الرب رأس المعرفة أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب " أم 1 : 7 .
إننا نتعلم من الحكماء والمعلمين الروحيين ومن كتب الآباء المتصفة بالروحانية والسلوك المستقيم وسير الآباء القديسين، فعندما سئل الأنبا انطونيوس الكبير عن ما هي أعظم الفضائل قال انه الإفراز أي التمييز والحكمة، ليعرف الإنسان ان يميز بين الخير والشر فالحكمة تتخلل كل فضيلة وسلوك لتجعله فاضلاً، الحكمة تجعلنا نسلك في اعتدال دون تطرف وأعمال الفكر وطلب العون من روح الله ، ليكون لنا دقة التعبير وسلامة التدبير وعدم التسرع ودراسة الأمور من جوانبها المختلفة ومعرفة آراء الدارسين والمرشدين للخروج بأفضل الحلول لمواجهة مشكلات الحياة وإيجاد الوسائل السليمة لحل المشكلات إن التأمل والدراسة لمعرفة حقيقة الأشياء لا الأخذ بظواهرها مع طلب قيادة روح الله يجعلنا نسلك في حكمة " أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك " مز 104 : 24 .
النجاح في الحياة العملية ....
إننا في بحثنا عن الحكمة وصلواتنا إلى الله من اجلها ، نسعى إلى تطبيق الحكمة في سلوكنا العملي ، وفي أقوالنا وتصرفاتنا لنصل إلى الحياة الناجحة التي ترضي الله وتجعلنا نوراً في العالم وملحاً في الأرض. فيكون لنا فطنة وتمييز في علاقتنا مع العالم والمجتمع وأنفسنا والله. وتكون لنا النظرة الفاحصة، نعرف التميز بين الغث من السّمين . لا نشترك في أعمال الظلمة . نعرف النفس البشرية ودوافع تصرفات الآخرين ونسلك بنا على معرفتنا وإيماننا في اعتدال وفي أدب وتواضع وبر ، ونستلهم من الكتاب المقدس كيف نسلك بحكمة من جهة كل احد " من هو حكيم وعالم بينكم فلير أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة ، ولكن إن كان لكم غيرة مُرّة وتحزّب في قلوبكم فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق . ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية ، لأنه حيث الغيرة والتحزب هناك التشويش وكل أمر رديء. وأما الحكمة التي من الله فهي أولا طاهرة ثم مسالمة مملوءة رحمة وأثمار صالحة عديمة الريبة والرياء " يع 3 : 13 - 17 .
بالحكمة والتمييز نعرف متى نتكلم ومتى نصمت كما يعلمنا قداسة البابا شنودة الثالث المعلم الحكيم حسب الحكمة المعطاة له من الله ، وعندها نتكلم بكلام حكمة وعزاء ومنفعة للآخرين، نعرف متى نكون ودعاء نتعامل في طيبة قلب ، ومتى نكون حازمين في مواجهة الأخطاء. متى تكون الطيبة ليس مدعاة للتسيب والتراخي ، ومتى يكون الحزم والشدة ليس ضد الرحمة والحب ، إن الطبيب الماهر يعرف متي يستخدم العلاج والمسكنات ومتى يستخدم المشرط للبتر والاستئصال ، فالحياة الروحية ليس قوانين عمياء بل هي حياة روحية منقادة بالروح في محبة الله ، هدفها السعي إلى نقاوة القلب والقداسة والاتحاد والشركة مع الله لنصل إلى النجاح في الحياة والملكوت السماوي .
الحكمة تجعلنا نحيد عن التطرف ونسير باعتدال ، مما يبعدنا عن التطرّف اليميني والمغالاة في أمور نظنها حميدة ، أو بالتطرف يساراً بالاستسلام للكسل وحياة الرخاوة والخطية والهلاك الأبدي. الحكمة إذا سراج النفس الساعية للكمال للمعرفة والفضيلة. إن شاول أول ملوك إسرائيل اظلم عقله وفقد الحكمة ولم يصغ لصوت الطاعة فظنَّ انه بتقديم عمل جيد وهو ذبيحة لله يسلك بحكمة فهلك ونُزع منه الملك في تمييز وحكمة تعطى كل جوانب حياتك حقها ، أعطِ لروحك حقّها في الصّلاة والصوم ومحبة الله والفضيلة ، وأعطِ لعقلك حقّه في القراءة والاطلاع والتأمل ، ولجسدك حقه في التغذية والتقوية والنمو فلا يمرض ولا يتمرد عليك تعطي الله حقه في العبادة ، وللآخرين حقهم في الاحترام والتعاون ، ولأهلك حقهم في الخدمة والبذل ، ولنفسك حقها في النمو والخلاص. وللمجتمع والعمل حقه في الأمانة والأخلاص والسعى لراحة الأخرين وأسعادهم فى حكمة ودون تصارع أو منافسة غير شريفة.
يجب أن نحترس من حكمة أهل العالم ووسائلهم التي تتميز بالمكر والدهاء والكذب أو الخداع والبعد عن الله ، كما خدعت الحية قديما أبوينا " تكونان كالله عارفين الخير والشر " تك 2 : 5 ، " فقد توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمة وعاقبتها طريق الموت " أم 14 : 12 . لقد سلكت الملكة إيزابيل قديما طريق المكر والكذب لكي ينال زوجها حقل نابوت اليزرعيلي فدبرت حيلة استولى بها على الحقل وادعت كذبا انه جدَّف على الرب ، فتمّ رجم نابوت ظلماً فجاءها صوت الرب على يد إيليا النبي بالهلاك لها ولزوجها ( أمل 21 : 5 – 15 ) . إن العالم في حكمته المرضية لم يعرف ، فصلب رب المجد. واما الرب يسوع المسيح فانه بتواضعه وبذله خلّص العالم بجهالة الصليب فلنفحص أفكارنا ونتوب عن خطايانا وأخطائنا ونطلب في إيمان حكمة من الله ، لنعرف كيف نسلك بتدقيق كحكماء وليس في جهل مفتدين الوقت لان الأيام شريرة " لا تشاكلوا هذا الدهر . بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " رو 12 : 2 لا نكون حكماء عند أنفسنا بل حكمتنا هي من الله وقيادة روحه القدوس واهب الحكمة للجهلاء ومقوّي الضعفاء ورافع البائسين ، محرّر المأسورين ، والذي يقودنا في كل حين في موكب نصرته .
هبنا حكمة ونعمة
البركة والمجد والكرامة لك يــــــــا رب
الحكمة والقدرة والبركة لألهنــــــــــــــا
المدخر فيه كل كنوز الحكمة والعلــــــم
معطي الحكمة للمتواضعين والودعـــــاء
هبنا الحكمة من عندك يا أبا الأنـــــــوار
وأعطنا قلبا حكيمًا لمعرفة وصايــــــــاك
لنسلك في أحكامك باســـتقامة وبـــــــــر
روحك القدوس يمنحنا الحكمة والإفـراز
لنعرف الأشياء الموهـــــوبة لنــــا منك
ونســــــــير كأبناء النــــــــور والـــحق
حررنـــــا مــــن أخطــــــائنا وخطايانا
لنتصــــــــرف حسنا في وداعة الحكمة
وتكـــــون لنــــــــــــــا الثمار الصالحة
والقداســــــــــة ونقـــــــــاوة القلــــــب
بهما نحيـــــــا معـــــك ونعايــن مجدك
القمص افرايم الأنبا بيشوى
واعطنى الآن حكمة
08 أكتوبر 2024
عدد الزيارات 53