هل جربت اللجاجة؟

29 مارس 2019
Large image

إنجيل الجمعة الرابعة من الصوم المقدس يذكر لنا معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية (مت15: 21-31)، وهي معجزة وحوار أيضًا. كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم الشعب المختار، وكانوا ينظرون لكل شعوب العالم على أنهم الأمم، لا يتكلمون لغاتهم، ولا يعيشون عاداتهم، وكانوا يطلقون عليهم بصوره شعبية تعبير "الكلاب" كنوع من المهانة أو المذلة أو عدم التقدير. كما كان هناك استبعاد للمرأة في العهد القديم، فالمرأة لم يكن لها حقوق، ولم يكن لها كرامة. ويقول لنا في الكتاب المقدس: «إلَى خاصَّتِهِ (اليهود) جاءَ، وخاصَّتُهُ لَمْ تقبَلهُ. وأمّا كُلُّ الّذينَ قَبِلوهُ فأعطاهُمْ سُلطانًا أنْ يَصيروا أولادَ اللهِ» (يو1: 11، 12)، لم يقبله اليهود، وكانت النتيجه أن المسيح جاء إلى العالم كله. معجزة اليوم مت في صور وصيدا، وهما مدينتان ساحليتان على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعيش فيهما جنسيات كثيرة وليس اليهود فقط. سمعت امرأة أمميه كنعانية أن المسيح موجود، أخذت تفتش عنه وهي بالطبع ليست مؤمنة ولا هي تعرف المسيح، مجرد سمعت عنه، لكن سياق القصة والحوار الذي حدث يُظهر أمامنا السؤال الذي تطرحه كلمه الله علينا: هل قررت المحاولة؟ هل جرّبت اللجاجة؟ هل كررت المحاولة أم أنك تصلي مرة لأجل أمر ما وانتهت الحكاية؟ هل جربت قيمه اللجاجة؟ اللجاجة صورة رفيعه من صور الصلاة الحقيقية، لأنها معجونة بالإيمان. هذه المرأة تعطينا هذا الدرس، سؤالها كان من قلبها لأن ابنتها كانت مريضة ومجنونة جدًا، ولكم أن تتخيلوا مقدار العذاب والمر الذي تعيشه هذه الأم وهي ترى ابنتها والشيطان يسكنها ويفقدها العقل وتصير مجنونة! حوار هذه المرأة مع السيد المسيح يكشف معدنها ويمكنك أن تقيس نفسك عليها وتكشف معدنك أمام المسيح. والحقيقة السؤال الذي نجيب عنه اليوم يضع أمامنا أربع محطات رئيسية في حياتنا:المحطة الأولى: البحث عن المسيح فتشت هذه المرأة عن الرب يسوع، عن لقاء شخصي بينها وبين المسيح. الناس نوعان: نوع يلجأ للمسيح لجوءًا عابرًا وقت المشاكل فقط، ونوع آخر يلجأ للمسيح ليله ونهاره، واعتماده على المسيح في الليل والنهار، لا يعتمد على إمكانياته بل أتجاوز وأقول إنه يعتمد على ضعفاته. المرأة الكنعانية كشفت نفسها ولجأت للرب بصراخ ودموع. في الحقيقة الحياة الجادة مع المسيح هي التي تمسك صيدًا، والرخاوة لا تمسك صيدًا.المحطة الثانية: الصراخ بلجاجة حينما صرخت المرأة للرب لم يجبها بكلمة! أحيانًا نصلي والله لا يستجيب، ولأننا نحيا في عصر السرعة حيث كل شيء يتم بضغطات الأزرار وأحيانًا يظن الإنسان أن الحياه الروحية بهذه الصورة ولكنها ليست بهذه الصورة ابدًا. حين لم يجبها الرب بكلمة ظهرت فضيلتها أكثر، ويقول لنا الكتاب المقدس أنه على الرغم من أن التلاميذ طلبوا من السيد المسيح أن يصرفها، ولكن السيد المسيح لم يلتفت لصراخها. أحيانًا لا يستجيب الله ولابد أن هناك غرضًا لهذا.الصفه الثانية لهذه المرأة أنها صرخت وعمّقت الطلبة، وهنا تظهر اللجاجة، كان من الممكن أن تعاتب الرب، ولكن هذا لم يخطر ببالها، يقول الكتاب: «فأتَتْ وسَجَدَتْ لهُ قائلَةً: يا سيِّدُ، أعِنّي!» (مت15: 25)، وربما كرّرت طلبتها وغمستها في دموعها وسجودها وقلبها المنكسر. هنا تظهر لجاجة الإنسان الذي يطلب ويكرّر المحاولة مرة تلو الأخرى، ويظل يلح على الله حتى يستجيب بالصورة التي يجدها مناسبة. وهي هنا تعلمنا الصلاة كل حين، وليس مجرد تكرار لكلمات بلا معنى، وليس الوقوف أمام الله في الأزمات فقط، فالوقوف أمام الله هو تعبير حب ومن هنا تأتي نعمه الله كل حين. كانت هذه المرأة تتكلم بقلبها بمشاعرها وإحساسها، وأتت وسجدت وقالت له: يا سيد أعني، فأجاب دون أن يلتفت لها وقال: «ليس حَسَنًا أنْ يؤخَذَ خُبزُ البَنينَ ويُطرَحَ للكِلابِ». تصوّروا مقدار التجربة التي دخلت فيها المرأة في هذا الحوار، ولكن الله قصد بهذا لكي ما يظهر عظمة هذه الإنسانة.المحطة الثالثة: الإيمان بشخص المسيحظهر هذا الإيمان في إصرارها على الطلبة رغم أنها امرأة والمجتمع اليهودي لم يقدر المرأة، بل أن ابنتها مجنونة وبها شيطان، كما أنها لا تكف عن الصرخا ولا أحد يجاوبها. لقد دخلت في امتحان، وكثيرًا ما يسمح الله لنا أن ندخل في هذه الامتحانات بغرض خيرنا. لقد آمنت بشخص المسيح حتى وإن أهملها. وحينما قال لها السيد المسيح «ليس حَسَنًا أنْ يؤخَذَ خُبزُ البَنينَ ويُطرَحَ للكِلابِ» فهي عبارة معروفة في المجتمع اليهودي وتحمل الاحتقار لمن هو غير يهودي، أمّا هذه المرأة فنجحت وبامتياز في إظهار هذا الإيمان عندما أجابت الرب وقالت: «نَعَمْ، يا سيِّدُ! والكِلابُ أيضًا تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الّذي يَسقُطُ مِنْ مائدَةِ أربابِها!». وأحيانًا أقف أمام هذا الرد وأتعجب! من أين أتت بهذا الكلام؟ من أين أتت بهذه الثقة؟! يُهيَّأ إليّ أن السيد المسيح كان سعيدًا جدًا بهذه الإجابة التي كشفت لنا وللتلاميذ وللمجتمع اليهودي عظمه هذه المرأة. إن إيمانها العميق ولجوءها لشخص المسيح ليس له مثيل.المحطة الرابعة: الاتضاع البالغ وهذا الاتضاع هو الذي يحمي مهارات ومواهب الإنسان. حين قال السيد المسيح لها «ليس حَسَنًا أنْ يؤخَذَ خُبزُ البَنينَ ويُطرَحَ للكِلابِ» كان يقصد الكلاب الضالة في الشارع، وقد أجابته «نَعَمْ، يا سيِّدُ! والكِلابُ أيضًا تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الّذي يَسقُطُ مِنْ مائدَةِ أربابِها!» وتقصد الكلاب تُربّى في البيوت وكأنها تقول للمسيح إن هناك نوعين من الكلاب. لقد ظهر اتضاعها البالغ في هذه الكلمات القليلة التي تقدم لنا صورة عظيمة للإنسان الذي يصلي. جيد أم تصلي بإيمان وثقة، لكن يجا أن تغلّف ثياب الاتضاع صلاتك، وهذه المرأة نجحت في اتضاعها. ولذلك كل نعمة يعطيها الله للإنسان لا يمكن أن تثمر إلّا بالاتضاع. الاتضاع هو حارس كل نعمة. اتضاع هذه المرأة هو الذي جعل سيرتها تُذكَر في الإنجيل، ونعيّد بها في الجمعة الرابعة من كل صوم كبير. اتضاع هذه المرأة هو الذي جعلها تستحق مديح المسيح. لقد أجابها السيد المسيح وأعطاها وسامًا لم تكن تتوقعه ولا التلاميذ توقعوه، قال لها: «يا امرأةُ، عظيمٌ إيمانُكِ!». لقد نالت مديح المسيح وشفاء ابنتها، وبالأكثر صارت نموذجًا لنا في إيمانها المتضع، يقول القديس باخوميوس أب الشركه عبارة جميلة: "اقتنِ لسانًا متضعًا، فيكون الكل صديقك". خلاصه سؤال النهارده أن الاتضاع يعطي قوه في الإيمان، انسحاقك وقلبك المنكسر لا يرذله الله. تمسك بصلواتك مهما تأخّرت استجابة الله، بل كلما تتاخر استجابة الله تكون أمامك فرصه لكي ما تقتني فضائل أكثر، وفي النهاية تنال ما تريده ويعظمّك الله في ملكوته أمام قبائل كل السمائيين.إن هذه الأيام المقدسة تصوِّب مسيرتنا الروحية، والممارسات الروحية تقوّي إيماننا، والممارسة الطقسية تضبط أداءنا ولكن الطقس لابد أن يكون له روح.الأمر الثاني الذي يقوي إيمانك هو الاختبارات الروحية، خصوصًا التي نتبادلها مع الآخرين، فحديثنا نع الآخرين يجب أن يكون حديثًا روحيًا. وأحيانًا لا تكون الخبرة الروحية موجودة في الكتب بل محفوظة في القلوب، فحينما نجلس إلى الشيوخ قد نسمع كلمة واحدة من الممكن أن تغيّر في حياة الإنسان.هذه المرأة الأممية تعلمنا قوة الإيمان، وقوة اتضاع الإنسان.
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 2084

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل