تتضمن توبيخ الذين يحزنون على الأموات مرتبة على فصل أحياء ابن الارملة بمدينة نايين( لو ۷ : ۱۱-۱۷ )
لا ينبغي لنا أن ننوح ونندب على أمواتنا بعد ان حقق لنا سيدنا له المجد قيامة الأموات فما بالنا الآن نبكى على الاموات بحرقة ونتخذ النائحات والنادبات وقد قهر سيدنا له المجد الموت وانتزع ملكه وسلطانه. فما بالك ياهذا تنوح كثيرا وتكابد احزانا وهموما. وقد صار موتنا نوما يعرض من شأنه الزوال ولقد كان يجب علينا أن نضحك بالخارجين عنا لأنهم يقولون: لو صدق هؤلاء بقيامة الأموات كما يدعون لما عمل نساؤهم على الاموات هذه الفعال وأنت أيتها المرأة ما بالك تندبين بالبكاء والعويل وتكثرين من الحزن والنحيب. وتتخذين النوائح والصارخات والنادبات. وتخدشين وجهك وتنهشين سواعدك وتقصين شعر رأسك وتلطمين على خدك ولا تسمعين لقول سيدنا: "أن الصبية لم تمت لكنها نائمة . إلا تنظرين حياتها بعد موتها الذى دعاه المخلص نوما؟ فإن قلت لم لا تقوم ابنتي الآن كما قامت تلك ؟ قلت فإن كان هذا عملك على الميتة الواحدة هكذا. فما الفائدة أن تعيش ابنتك مدة ثم تموت مرة أخرى. ثم أقول لك ولسائر المؤمنين: أما تعلمون يا هؤلاء اننا في الدنيا معذبون معاقبون مكابدون أحزانا وهموما يطول وصفها. لأن الله قد قال لأبينا الأول حينما وجده مخالفا للوصية الأولى: "ملعونة الارض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لانك تراب وإلى التراب تعود ثم قال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك بالوجع تلدين أولادا. وإلــــــى رجلـــــك يكون اشتياقك وهو يسود عليك". وإذا كان هذا فما بالنا نندب من خلصه الله من عالم الآفات. ونبكي بحرقة على من رفع من اراضي الاحزان والاتعاب. ولماذا ننظر اناساً آخرين يرهبون الموت ويظنونه موجباً للعدم مطلقاً. وآخرين يثلبون الله تعالى إذ يعدون هذه شدائد وضعها عليهم ويقــــرون بالعجز عنها. ويا للعجب من كونك تفعل مثل هذه الفعال ثم توزع عن ميتك الأموال وتقدم لأجله القرابين وتسأل الكهنة أن يذكروه في الصلوات كثيراً !! فإن قلت إنما افعل ذلك لكي يجد راحة وعوناً. قلت وهل يجد راحة إلا الأحياء؟ فإن كان حياً فما بالك تندب كالاموات. فلا ينبغي لنا إذن أن نحزن على أمواتنا بل يجب علينا أن نسر ونفرح لنقلهم من ارض الحزن والشقاء إلى اماكن النعيم. حيث لا غم ولا حزن ولا أسف ولا ندم ولا هم ولا أنين. الملكوت الذى لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر. فإن قلت إن الحزن لذواتنا طبع لازم. فكيف تخرج الطبيعيات عن العمل بحسب ما يقتضيه طبعها ؟ أجبتك أن الذنب ليس هو لطبيعتك الحيوانية. بل لعقلك المصرف لها. لأنك لو ثقفت عقلك وروضته بالنظر في الناموس دائماً لغلب الطباع الجسيمة وقهرها وفعل ما تقتضيه طباعه الشريفة فإن قلت إنما يحملني على البكاء والحزن هو انه كيف يموت ولا وارث له؟ وكيف يخلف الاموال والعقار والخدم والحقول وغير ذلك لقوم آخرين؟ قلت وهل الارجح عندك أن يرث داراً تسقط سريعاً وخداماً منحلين بطبيعتهم المائتة. وثياباً يفسدها السوس والارضة أو يكون وارثاً لنعيم الملكوت حيث لا تصل العوادي المفسدة إلى ما هنالك. وليس يصير وارثا مع أخوة يحاكمونه ويخاصمونه على التعادل في قسمة الميراث. بل يكون وارثاً مع المسيح نفسه. فإن قلت ولمن يخلف الامـــوال والاملاك والحقول والعبيد والإماء؟ أجبتك أنه ينبغى أن يخلفها للمسيح بتركها للفقراء والمحتاجين. فإن قلت وكيف ينتفع بها وقد صار في محلة الاموات؟ قلت لك بأن تتصدق بها عنه على الفقراء والبائسين والأرامل والأيتام والمحتاجين وتقدمها عنه قرابين ليجدها هناك سليمة عديمة الفساد والزوان هذا وإن كان بعض الأعاجم يحرقون مع الميت جميع ذخائره وقناياه. فلم لا ترسل أنت مع ابنك قناياه سالمة من الحريق لينتفع بها هناك. لأنه إن كان قد ذهب من الدنيا وهو خاطئ مزقت عنه كتاب خطاياه وإن كان غير خاطئ كان له بها زيادة الشرف والسرور أمام خالقه فإن قلت كنت أريد أن لا يفارقني. قلت إذا أردت أن تتمتع بجمال منظره فعش كعيشته الأولى حيث كان طفلا صغيرا فإنك ستقابله سالما وتجتمعان كلاكما دائما في النعيم. فإن فكرت أنه لا يعود إلى هناك فلم لا تفكر أنك أنت ستصير إليه بعد قلبل ويكون لك الحظ الأوفر في ذلك حيث تنتقل صائرا إليه ولا تنتقل مفارقا له. فإن خرج من الدنيا خاطئا فقد وقفت مساعى خطاياه عن التقدم بزيادة. فإن الله تعالى لو علم انه ينتقل عن خطيئته لما بادر إليه مختطفا بسرعة قبل الشروع في التوبة. وإن كان قد خرج من الدنيا بارا صالحا فقد حفظ عليه بره وصلاحه وخلصه من عالم الآفات والحزن اخبرني يا هذا ما الذي تراه في الدنيا من السعادة حتى تحزن على المفارقين لها؟ إنك دائما ترى الاضداد محيطة بك ودائرة عليك وأنت متقلب بين ضروب الآفات وأصناف الانكاد. تارة تطلب ما لا تجد. وتارة تفقد الموجودات والمحبوبات. وتارة تشكو ثقل الامراض والأوصاب. وتارة تعذر الاكتساب. وتارة تتوجع لألم الخلان والأقران. وتارة تتأوه لمصاعب الكبر. وترة تتمنى الموت لورود النوازل العامة كالغلاء والجلاء وعدم الأمطار وقيام الأعداء والمعاندين وتواتر الحروب والفتن وغير ذلك. فلم لا تصبر على فراق الأحباب. وتسر بنقلهم من دار المصائب والحزن. ونجمع رأينا على تصديق كلام ربنا في الاجتماع بهم هناك مبهجين مسرورين. وأنت أيتها المرأة إذا رأيت أن الذى أعطاك الأولاد هو الذي أخذهم إليه ليعطيهم أكثر مما عندك وأنك صائرة إلى الاجتماع بهم بعد قليل. فكيف تندبين وتحزنين عليهم؟ فإن قلت اننى أرملة ووحيدة ولا ولد لى ولا معين قلت وكيف تقولين هذا وقد رجع أمرك إلى قاضى الأرامل وأب الأيتام. ألم تسمعى الرسول حيث يعطيك الطوبي بقوله إن رجاءها في الله وحده ؟ فلو علمت ما هي حقيقة العيشة الحاضرة ومعانى الحياة الأجلة لأعرضك بجملتك عن هذه. ورغبت مسارعك إلى تلك فسبيلنا أن ننهض عقولنا ونطهر سرائرنا ونجتهد بصالح الأعمال للانتقال إلى ملكوت ربنا الذى له المجد إلى ابد الآبدين أمين.
القديس يوحنا ذهبى الفم
عن كتاب العظات الذهبية
انجيل قداس الأحد الرابع من شهر بابه
03 نوفمبر 2024
عدد الزيارات 141