
تتضمن الحث على استعمال الغنى لخلاص النفس لا لهلاكها مرتبة على قوله تعالى للرئيس الغني بفصل
اليوم:"يعوزك شئ واحد أذهب بع كل مالك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء ( مر ١٠ : ١٧ -٣١)
قال البشير يفضل اليوم إن واحداً ركض وجثا لسيدنا له المجد وسأله قائلاً: " أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحيوة الأبدية. فقا له لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله " إن هذا الشاب الغنى الرئيس كما يدعوه مار متى ومار لوقا وكان مؤمناً بأن يسوع المسيح معلم وصالح. وليس بأنه إله. ولذا قال له سيدنا له المجــــد: "لماذا تدعونى صالحاً فكأنه يقول له : " إذا كنت لا تؤمن بألوهيتي فلماذا تدعوني صالحاً "لأن صلاح البشر او الملائكة إنما هو بواسطة النعمة فقط وليس أحـــد صالحاً بالطبع إلا واحد وهو الله ثم قال له: " انت تعرف الوصايا لا تقتل لا تزن لا تشهد بالزور لا تسلب اكرم أباك وأمك فقال له الشاب يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي . فنظر إليه يسوع وأحبه " يظهر من هذا أيها الأحباء أن الشاب لم يأت إلى السيد له المجد ليجربه كالناموس ولكنه كان قد سمع بأعماله العظيمة وتعاليمه المحيبة واحساناته العميمة . فأتى ليتعلم كيف وبماذا يرث الحيوة الأبدية . لأنه لو كان مجيئه وأقواله على سبيل الرؤية فقط . لما كان السيد قد أحيه وهو علام الغيوب وفاحص الكلى والقلوب فهذا الشاب كان حافظا للوصايا ولكنه كان غنيا ومفضلا غناه على كل شئ أخر لذا قال له سيدنا " يعوزك شئ واحد اذهب بع كل مالك وأعط الفقراء ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب ويظهر من قول البشير " فنظر اليه يسوع وأحبه " أن هذا الشاب كان راغباً في الكمال الذي يقول عنه البشير متى ولكن هموم الحيوة وغرور الغنــــى ولذات العالم حالت دون ذلك فاغتم لدى سماعه قول السيد له " بع كل مالك " ومضى حزيناً كما يقول البشير " لانه كان ذا أموال كثيرة " وإذ رأى سيدنا له المجد كآبة هذا الرئيس الغنى. وعدم سماعه مشورته حباً في ثروته قال " ما أعسر دخول ذوى الاموال إلى ملكوت الله " ثم عاد فقال باكثر إيضاح " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله " فماذا يجب إذن أن يقال ؟ أنقول إن الغنى مضر بالإنسان لانه يحول بينه وبين الخلاص بسبب الأبهة ومجاملة الناس له والمديح والتملق وغير ذلك ما يحوك في قلب الانسان شعائر الخيلاء والكبر ثم التأنق في المأكل والمشرب وراحة الجسد التي تزكى في الإنسان معظم الشهوات فيجمح كالبهيم في بيداء المنكرات أو نقول إن الفقر لخير للانسان لانه يصير وديعاً هادئاً مطيعاً لما له من الحقارة بدل الأبهة وخمول الذكر بدل المديح والازدراء عوض المجاملة فلا هو مقيد بمحبة الفضة والذهب ولا هو موثق باستغلال الحقول ولا بفخامة القصور ولا غير ذلك مما يحول دون ارتقائه إلى قمة الكمال البشرى كلا لا يجب أن يقال هذا ولا ذاك لأنه لا الفقر في حد ذاته يوصل إلى الفضيلة ولا الغنى فى حد ذاته يؤدى إلى الرذيلة وإنما هى إرادة الانسان وميله فإن قلت وكيف ذلك ؟ أجبتك أنه كما أنه يمكنك بلسانك إن أردت تمجد الله وتحسن إلى البشر وبه أيضاً إن أردت تكفر بالله وتلعن البشر هكذا بالغنى يمكنك إن أردت تشبع الجائع وتكسو العريان وتعضد الأرملة واليتيم وغير ذلك وبه أيضاً تقترف أعظم الخطايا وترتكب أفظع المنكرات التي تسهل طريق المهالك وعليه فكم يلزم الغنى من الأتعاب والجهاد في سبيل الحصول على المراد دون أن يسقط فى أشراك الطمع ومحبة المال أو الظلم والجور وكم يلزمه من الشجاعة والشهامة حتى لا يغلب من غرور الغنى وهمومه وملذاته وأباطيله حقاً إن خلاص الغنى عظيم وعسير ومرور الجمل من ثقب ابرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله ولكن هذا العسير والغير ممكن يصير سهلاً وممكناً بمؤازرة العون الالهى لأن عند الله كل شئ مستطاع أى أنه متى وجد الله جل وعز في الانسان الغنى أميالاً صالحة ونوايا حسنة فأنه يهبه نعمته فيتغلب بها على تجارب الغنى فيصير أمامه غير المستطاع مستطاعاً وممكناً وهاكم بعض الأمثلة على أن الله يهب النعمة لمن تكون نواياهم صالحة دون سواهم أثباتاً لذلك قال الكتاب المقدس عن غنيين من الأشرار الأول" انسان غنى أخصبت كورته وقال أفعل هذا أهدم مخازني وأبنى أعظم منها وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي وأقول لنفسى يانفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة استريحي وكلى واشربى وافرحى فقال له الله يا غبى هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون " الثاني " كان انسان غنى وكان يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفها وكان مسكين اسمه لعازر مطروحاً عند بابه مضروباً بالقروح ويشتهى أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغنى بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم ومات الغنى أيضاً ودفن فرفع عينيه إلى الهاوية وهو في العذاب ورأى ابراهيم من بعيد ولعازر في حضنه ، فنادى وقال يا أبي أبراهيم ارحمنى وارسل لعازر ليبل طرف أصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب فقال له ابراهيم يا ابني أنك استوفيت خيراتك في حياتك وهاكم مثال الأغنياء الابرار قال الكتاب " وكان ابرام ( أو ابراهيم ) غنيا جدا في المواشى والفضة والذهب " وكان من أهل العدل والنزاهة فاضلاً كريماً حتى أنه اضاف الملائكة وكان مطيعاً لله جداً حتى أنه لم يتأخر عن تقديم ابنه للذبح وبالأجمال كان باراً فاضلاً ،ونال أعظم مقام في السماء حتى أن مكان الراحة والنعيم دعى حضن ابراهيم
وقال ايضاً عن أيوب البار . إنه كان غنياً جداً وأعظم كل بني المشرق وكان فاضلاً مستقيماً طاهراً وعادلاً تقياً ومبتعداً عن كل شر وكان شهماً ثابت العزيمة والصبر مطيعاً لله لدرجة جعلته مستحقاً لأن يقول عنه سيد البرايا : "ليس مثله في الأرض" فلماذا صار في أيوب غير الممكن ممكناً ؟ الجواب هو لأن الله تعالى رأى نوايا قلبه أنها صالحة فأعطاه من نعمته ما قد عضده وشجعه ونصره في هاتيك الحروب الهائلة والتجارب الشديدة المزعجة التي أثارها الشيطان ضده فالحصول على الخلاص إذن لا يتوقف على الغنى ولا يتيسر بالفقر لأن الله عز وجل خلق منذ البدء كل شئ حسنا وإنما الأمر يتوقف على إرادة الانسان وأميال قلبه قد سمعتم أيها الاغنياء بفصل هذا اليوم كيف أن السيد في مثل مرور الجمل من ثقب الابرة قد صعب عليكم أمر خلاصكم إلى اعظم درجة بحيث يكاد أن يكون مستحيلاً فجففوا إذن من اهتمامكم بما لا يدوم ولا تدعوا زخرف الدنيا يغريكم ولا بهجة الدينار تطغيكم ولا يفوتكم أن يوم الرب يأتي كلص وغضبه ينزل بغتة فكونوا مستعدين لئلا يصيبكم ما أصاب ذلك الغني الجاهل الذي بيما كان يقول أهدم وأبنى وأخزن وأقول لنفسى لك خيرات كثيرة لسنين
كثيرة وافاه النذير من قبله تعالى قائلاً له " يا غبى هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي اعددتها لمن تكون"
فسبيلنا ايها الاحباء أن نتخذ ما جرى لهذا الغنى خير عبرة لنا فنقدس نفوسنا وأجسادنا ولا ندع حب المال يتسلط علينا فيشل قلوبنا عن فرائض الدين بل نقوم بمساعدة البائسين واغاثة الملهوفين عالمين أنه إنما أنعم علينا به المنعــــــم لقضاء الحاجات وعمل المبررات فنقتني الفضائل وصالح الاعمال بتعطف وتحنن ربنا وإلهنا يسوع المسيح الذى له المجد إلى الابد آمين.
القديس يوحنا ذهبى الفم
عن كتاب العظات الذهبية