السماء الثانية

03 أغسطس 2018
Large image

نخاطب أمنا العذراء مريم بألقاب كثيرة خلال الصلوات والتسابيح والمدائح العديدة والترانيم، وفي مناسبات كثيرة خلال السنة الكنسية، كما في فترة الصوم الذي نسمّيه "صوم العذراء"، وفي شهر كيهك حيث الاستعداد لميلاد السيد المسيح. ومن هذه الألقاب أننا نقول عنها إنها "فخر جنسنا"، وأنها "حواؤنا الجديدة"، وأيضًا نصفها أنها "السماء الثانية". ودائمًا نلاحظ في أيقونات القديسة مريم العذراء أنها ترتدي ملابس زرقاء اللون (لون السماء)، منقوشة بالنجوم، وفيها نجمتان كبيرتان تعبيرًا على أنها السماء الثانية التي حملت ابن الله المخلص. عاشت أمنا العذراء مريم – السماء الثانية – هنا على الأرض قرابة الستين عامًا ومنذ نياحتها وهي تظهر بين الحين والآخر لأفراد ولجموع في مناطق وبلاد كثيرة، مثلما كان ظهورها الأشهر على قباب كنيستها في ضاحية الزيتون بالقاهرة منذ حوالي نصف قرن. وهذا يدفعنا للتأمل في الآيات الكتابية التي نسميها "الآيات الأرضية السماوية"، وهي التي عندما نقرأها نجد نصفها الأول يتحدث عن الأرض، بينما نصفها الثاني يتحدث عن السماء. وهذه ملاحظة جميلة يمكن أن تفيد الدارسين لكلمة الله وفي مواضع كثيرة من الأسفار المقدسة، وإليكم بعض الأمثلة التي تشرح ذلك: مثال (1): «كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ (على الأرض) فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ (في السماء)» (رؤ2: 10). مثال (2): «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ (على الأرض)، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ (في السماء)» (متى5: 3). مثال (3): «لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ (على الأرض)، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ (في السماء)» (لو12: 32). مثال (4): «كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ (على الأرض) فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ.(في السماء)» (مت25: 21). وهذه الآيات، وغيرها كثير، تربط بين الأرض والسماء بأسلوب محكم واضح، ونعرف أن حياتنا الأرضية مهما امتدت هي تمهيد قصير لحياتنا السماوية في الأبدية. وبناءً على هذا المفهوم نستطيع أن نحدد عدة ملامح سماوية في حياتنا الأرضية من خلال أمور ملموسة ومادية مثل: (1) الكنيسة: هي سفارة السماء على الأرض، هي قطعة من السماء، أو كما نقول في الصلاة الربانية "..كما في السماء، كذلك على الأرض.."، وكما يعبّر القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: "عندما ترى الأب الكاهن يفتح ستر الهيكل فإنه يفتح باب السماء..". (2) الكتاب المقدس: هو دليل السماء "Index"، فالإنسان عندما يذهب إلى أيّة بلد في العالم، يطلب أولًا خريطة المكان الذي يذهب إليه، ونحن نستعين بأجهزة GPS في حياتنا عندما نذهب إلى أي مكان. السماء تحتاج دليل للذهاب إليها هو الأسفار المقدسة. (3) الكهنوت: هو الأبوة Fatherhood في كنيستنا وهو رفيق الإنسان إلى السماء.. فما أشهى أن يرافقني "أب" يمسك بيدي ويقودني بأبوته نحو السماء. وهذا المفهوم الروحي العميق لعمل الكهنوت في الكنيسة يتضح بصورة جلية في أب الاعتراف الذي يختاره المسيحي في رحلة غربته على الأرض. (4) الرهبنة: هي صورة ملائكية للحياة على الأرض. لقد تخلّوا عن كل شيء برضى واختيار، وذهبوا إلى الأديرة بحثًا عن القداسة، وحبًا في الحياة السماوية. ولذا اشتهرت الأديرة في المسيحية شرقًا وغربًا، وصارت بالحقيقة واحات سماوية يذهب إليها البشر بحثًا عن الحياة السماوية الخالية من ضعفات الحياة الأرضية. (5) القداس الإلهي: هو رحلة إلى السماء، حيث صلوات القداس بدءًا من رفع بخور عشية ثم التسبحة في نصف الليل ورفع بخور باكر والصلوات والقراءات والألحان، وأخيرًا التقدم للتناول من الأسرار المقدسة. كل هذه تشكّل رحلة سماوية حيث نصلي أثناء توزيع الأسرار "سبّحوا الله في جميع قديسيه" لأننا صرنا في السماء، عالمين أن لغة السماء هي التسبيح. (6) التوبة: الشيطان يحاربنا ويريد أن يحرمنا من السماء ولذا تكون التوبة هي خطوة نحو السماء. لأن الوصية تقول «كونوا قديسين»، فكأن التوبة هي استعادة حياة القداسة فينا. ومن أجل ذلك جُعِل سر التوبة والاعتراف كأحد الوسائط الروحية القوية في مسيرة حياتنا الأرضية نحو السماء. (7) الخدمة: هي التعبير الظاهر عن المحبة الحقيقية، وكأن كل خدمة تقدمها بأيّة صورة من الصور هي دعوة للسماء. فالمحتاج والمريض والمعوق واليتيم والأرملة والبعيد والمغترب والمهموم وغيرهم، عندما تخدمهم الخدمات المناسبة وتقدم لهم المحبة الحقيقية، كأنك تكشف لهم محبة السماء ودعوتها لهم بصورة ملموسة حقيقية. هذه مجرد صور لكي تعيش السماء على الأرض، وكل إنسان يعيش المسيحية في عمقها مسئول أن يحوّل الأرض إلى سماء، و بمعنى آخر أن ما يشعر به في السماء يجعله على الأرض، وكما نقول دائمًا "كما في السماء كذلك على الأرض". المسيحية هي الوحيدة القادرة أن تحوّل الأرض إلى سماء، ليس لسبب أو آخر إلّا لأنها تعرف أن «الله محبة»..
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 1757

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل