
عاش يسوع مُضطهدًا في حياته
إن السيد الرب لم يخل ذاته فقط من المجد اللائق أن يحيط بلاهوته، بل أخلى ذاته حتى من مجد البشرية أيضًا، فكان محتقرًا ومخذولًا من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن محتقرًا فلم يعتد به (إش53: 2، 3) أمسكوه مرة حجارة ليرجموه (يو10: 31) ومرة أخري "أخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل (لو4: 29) وطاردوه في كل مكان، محاولين أن يصطادوه بكلمة ولم تكن له كرامه في وطنه وتقبل كل هذه الإهانات الكثيرة وهو الذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين قالوا له إنك سامري وبك شيطان! وقالوا عنه إنه أكول وشريب خمر، ومجدف، وضال، ومُضِلّ قالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت، وإنه ببعلزبول يخرج الشياطين فبماذا أجاب المسيح؟ ما أجمل قول القداس الغريغوري "من أجلى احتملت ظلم الأشرار بذلت ظهرك للسياط وخديك أهملت للطم" كيف أن هذا الذي تجثوا أمامه كل ركبه مما في السماء وما على الأرض، الذي ليست السموات طاهرة قدامه، كيف أنه "لم يرد وجهه عن خزي البصاق "؟! الجواب الوحيد أنه أخلى ذاته وهكذا ضربوه ولطموه ما أعجبه في إخلائه لذاته! يصل الأمر بخالق السماء والأرض أن يسمح لإنسان من تراب أن يصفعه على وجهه، ويقبل ذلك ويسكت! " ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش53: 7) ووصلت الاستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته، إلى أنهم فضلوا عليه رجلًا قاتلًا ولصًا هو بَارَابَاس، طالبين أن يصلب المسيح بل وصلت المهانة بإله الكل إلى أن أصبح ثمنه ثلاثين من الفضة، ثمن عبد!!
إنه لم يأخذ فقط شكل العبد، وإنما بيع أيضًا بثمن عبد استغل الناس إخلاءه لذاته فلم يمتنع عن إخلاء ذاته، من أجل الناس وكما عاش مضطهدا في حياته، عاش مضطهدًا بعد مماته أيضًا فحتى قبره كانت تحرسه الجنود المدججة بالسلاح، خائفين أن (ذلك المضل!!) يقوم "فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولي" (مت27: 63، 64) وهكذا ختموا القبر بالأختام، وضبطوه بالحراس وهكذا لاحقوا بالشتائم بعد موته وادعوا أن تلاميذه أتوا ليلًا وسرقوه ودفعوا في سبيل ذلك ما دفعوه من رشوة.
جرأة الشيطان على المسيح!
عبارة "أخلى ذاته" لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب، بل صاحبته طوال حياته على الأرض في الجسد ومن أجل أنه أخلى ذاته، تجرأ الشيطان ليجربه ووصل الرب في إخلائه لذاته، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة ما أشد على النفس قول الكتاب "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضًا " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جدًا" (مت4: 5، 8) إبليس "يأخذه"، "ويوقفه" حيثما يشاء!! يا للهول..!
ما أشد هذا الإخلاء للذات من يحتمله؟!
وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة، يقول عنه الكتاب أن الشيطان "أراه" جميع ممالك الأرض ومجدها!! "أراه"؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب وهذه الممالك، التي كلها من صنعه، وكلها له، والتي بيده بقاؤها وانحلالها، يقول له الشيطان "لك أعطي هذه جميعها"وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له "إن خررت وسجدت لي "!! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة؟!
ما أعجبك يا رب! من يقدر على مثل هذا الإخلاء؟!
وأخيرًا:
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته الأمثلة عديدة، لا تحصي وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم، أتركها حاليًا لتأملاتك الخاصة.
أخلى ذاته ورفع شأن أولاده
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته، كان من الناحية الأخرى يرفع شأن أولاده أخذ شكل العبد، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية! (2بط1: 4) حقًا كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له". وهكذا صارت لنا شركة معه (1يو1: 6) وصرنا "شركاء الروح القدس" (عب6: 4)، (2كو13: 14)، وشركاء في الميراث (أف3: 6) وصرنا جسده، وأعضاءه، ثابتين فيه، كالأغصان في الكرمة وصار الرب يقربنا إليه باستمرار، ويرفعنا قدامه ومع أنه ابن الله الوحيد، الكائن في حضن الآب منذ الأزل، يمسي نفسه في غالبيه الأوقات "ابن الإنسان" ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله، ويكررها مرات عديدة ويقول عنا أننا نور العالم، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس (مت5: 14، 16) ويدعونا أصدقاء له، وأحباء، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته! ويقول الكتاب "ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء" (عب2: 17) ويقول أيضًا" ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين" (رو8: 29) من هم أخوته هؤلاء؟! هم نحن التراب والرماد لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده، يقول له فيه "أيها الأخ العزيز "، لصاح الناس ما هذا التواضع العجيب وإخلاء الذات؟! كيف يدعو ابنه أخًا له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته؟!
بل أكثر من هذا أن الرب كثيرًا ما يختفي لنظهر نحن فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه، فاستجاب وقال "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أع9: 6) حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلًا له "قم وأدخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (أع9: 6) وظهر الرب في رؤيا لحنانيا، وكلمة من جهة شاول، فشفاه وعَمَّده ونقل إليه رسالة الرب إن عمل الكهنوت كله، وكل أعمال الخدمة والرعاية، هي أعمال للرب، يعمل فيها الله في اختفاء، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة هو يعمل فينا، وهو يعمل بنا، وهو يعمل معنا، ولكنه غير ظاهر، أما نحن فنبدو للناس، كأننا نعمل بينما " ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي" (1كو3: 7) ولكن الله كثيرًا ما يعطي السلطان لأولاده، دون أن يستخدمه مباشرة والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في اختفاء، أن يختفوا هم ليظهر الله فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين"ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز115: 1) وعمل المعجزات يعمله الله أيضًا في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة، أما الرب فيقول لهم في حب "من يكرمكم يكرمني"الله يرسل السيدة العذراء، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين، فيعملون معجزات، ويمجدهم الناس، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون بل كثيرًا ما يقع إنسان في ضيقة، فيصرخ مستغيثًا "يا مارجرجس"، ويسمع الرب، فيرسل مارجرجس، فينقذه أو ينذر إنسان نذرًا للعذراء ويفرح الرب ويستجيب بل أن الكنائس وهي كنائس الله سمح أن تبني على أسماء أولاده فنقول كنيسة العذراء، وكنيسة مارجرجس، وكنيسة الأنبا أنطونيوس، وكنيسة مارمرقس وكلها بيوت للرب ولكن الرب يفرح بأولاده بل حتى شريعة الرب ينسبها أيضًا لأولاده أحيانًا، فيقول:- "ناموس موسي" أو "شريعة موسى"، بينما هي شريعة الرب لا غيره ويقول الرب للأبرص "قدم القربان الذي أمر به موسي" (مت8: 4) ويقول أيضًا "موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلقوا نساءكم" (مت19: 8)، بينما الذي أذن هو الله، والذي أمر هو الله ولكن الله يرفع من شأن موسي، ويضع اسمه بدلًا من نفسه..!
تواضع الله في رفع قديسيه
مَنْ هم هؤلاء يا رب الذين تريد أن تظهرهم؟ إنهم تراب ورماد، عدم وليس لهم وجود ولكنهم أحباؤك، قديسوك هناك عبارة عجيبة في العهد القديم، وقفت أمامها منذهلًا لحظات طويلة في قصة الله مع موسى النبي عندما ثقلت المسئولية على موسي، قال له الرب "اجمع إلى سبعين رجلًا فأنزل وأتكلم معك هناك. وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم، فيحملون معك ثقل الشعب" (عد11: 16، 17) تصوروا، الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم! وما هو الروح الذي على موسى؟ أليس من عندك يا رب؟! كيف تأخذ منه؟ وكيف تأخذ منه أمام كل هؤلاء؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى، أنت يا مصدر كل عطية صالحة، أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم كلا، إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى، وأضع عليهم، وأرفع شأن موسى في أعينهم مبارك أنت يا رب في كل تدبيرك الصالح الله يحب أولاده، ويريد أن يكرمهم، في السر والجهر بل أن الله كثيرًا ما كان يسمي نفسه بأسماء أولاده فيقول "أنا إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب" (خر3: 6) ما هذا يا رب؟! إنهم هم الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك الله يختفي ويظهر أولاده وهم بالمثل يختفون لكي يظهر هو أنها محبة متبادلة ومن المظاهر العجيبة في إخلاء الرب لذاته، ورفع شأن أولاده، قصة عماد الرب من عبده يوحنا بن زكريا يوحنا الذي لم يكن مستحقًا أن ينحني ويحل سيور حذائه، يوحنا الذي قال له في صراحة "أنا محتاج أن أعتمد منك"، يقف أمامه رب المجد قائلًا "اسمح الآن" فسمح له، واعتمد الرب منه يا للعجب رئيس الكهنة الأعظم، وراعي الرعاة، الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق يأتي ليعتمد من يوحنا، بينما تنفتح السماء، ويسمع صوت الآب قائلًا "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 13-17) كانت معمودية يوحنا للتوبة ولم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى التوبة مطلقًا لأنه قدوس بلا عيب فلماذا أعتمد؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا جاءوا معترفين بخطاياهم (مت3: 6) ولم تكن للرب خطايا يعترف بها، ويتوب عنها ويعتمد بسببها، حاشا فلماذا اعتمد إذن؟!
إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد وبنفس الوضع، من أجلنا اعتمد من أجلنا أخذ شكل الخطاة، إذ وضع عليه إثم جميعنا، ووقف يطلب عنا معمودية التوبة، كنائب عن البشرية الخاطئة.
أخلى الرب ذاته لكي نستطيع أن نتمتَّع به ونوجد معه:-
كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلى ذاته، نذكر منها:
1- لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه:
لو أنه احتفظ بجلال لاهوته، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره، وما كان الأطفال يستطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها. بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها لو كان قد نزل في قوة لاهوته، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر "أرتجف كل الجبل جدًا، وصار كل الجبل يدخن، وصعد دخانه كدخان الأتون" (خر19: 18) و"أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر 20: 18، 19) وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته، أو يصدهم جلاله إن موسى النبي، عبد الرب، عندما قضي معه أيامًا على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه: "فخافوا أن يقتربوا إليه" (لذلك كان يضع على وجهه برقعًا حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه (خر34: 29 ، 35) فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب، فماذا يكون جلال الرب نفسه؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: "وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها" (رؤ1: 16)؟!
إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي، عميت عيناه من قوة النور وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينيه فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده من يرى الرب ويعيش؟!
وعندما أظهر الرب شيئًا من مجد لاهوته على جبل التجلي، كان التلاميذ مرتعبين، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به (مر9: 6) ولما سمعوا الصوت من السحابة "سقطوا على وجوههم، وخافوا جدًا" (مت17: 6) كيف كان ممكنًا إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته؟ وهو أيضًا من أجل إنكاره لذاته، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي، ولم يعلن هذا المجد للجميع وحتى الذين شاهدوا مجده "أوصاهم أن لا يحدثوا أحدًا بما أبصروا إلا متى قام" (مر9: 9) إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس، ولكنه لم يفعل كان يريد أن يتمتعوا به، ويختلطوا به، لا أن يرهبوه.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب تأملات في الميلاد