أهنئكم أيها الأحباء بالعام اﻟﻤيلادي اﻟﺠديد، وعيد ميلاد السيد اﻟﻤسيح اﻟﺬي أﺗﻰ متجسدًا من أجل خلاص ﻛﻞ البشر لقد كانت الشعوب في عصور العھد القدیم ترفع الصلوات والطلبات من أجل مجيء المخلص، وكان الله یستجیب بإرسال الأنبیاء والأبرار والصدیقین،لكي ما یقودوا الناس في تلك العصور القدیمة،وكانت استجابة الله للطلبات والصلوات سبب فرح للإنسان. وتعلَّم الإنسان أن یختم دائمًا صلواته بكلمة "آمین"، وھي الكلمة المشھورة في جمیع لغات العالم التي تعني "استجب یا رب" وعلى الجانب الآخر، كان الله یطلب من الإنسان
أن یستمع وأن یستجیب لوصایاه، ولذلك نرى ھذه الكلمات تتكرر بین أسفار الكتاب المقدس: "مَنْ لَه أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْیَسْمَعْ" (مت ۱۱: 15, مر٤ :9, لو 8:8, رؤ ۳ : ٦) ، وتتحدث عن الأذن التي تُمثِّل جھاز السمع والإصغاء لدى الإنسان وبھا یستمع لكل ما یقال حوله، فھي بمثابة جھاز استقبال ولا نتحدث عن ھذا العضو الصغیر الموجود في رأس الإنسان فقط، إنما أیضًا الأذن الداخلیة للإنسان، وتتمثل في قلبه، فكل الأحادیث والآراء التي حولنا تدخل ھذا الجھاز وتُترجم قلبیًا، ولنا بعد ذلك الاختیار والحریة لقبول ما نسمع أو رفضه أوالاستجابة له حسب ما یقرر قلبنا وعقلنا وحكمتنا ھل لاحظت أن كلمة "قلب" بالإنجلیزیة وتعني heart تحوي داخلھا كلمة ear أي "الأذن"، لذا دائمًا ما نجد ارتباط بین الأذن والاستجابة بقلب الإنسان، فما یسمعه بأذنه یترجمه قلبه، وتكون الاستجابة بحسب ھذه الترجمة وإذا انطلقنا في رحلة الإنسان على مدار أیام حیاته على الأرض، نجده یقابل الكثیر من المواقف التي تحتاج منه إلى قرارات، بدایة من أصدقاء الطفولة،نوع الألعاب، ما یفضله من أنواع الطعام، إلى اختیاراته للدراسة والعمل والارتباط وغیرھا من القرارات الكثیرة والیومیة، وبحسب استجابته للمواقف تسیر أیامه، وبحسب اختیاراته یرسم حیاته،وھكذا صار على مر الزمان نرى في الأیام الأولى للحیاة على الأرض كیف استجابت حواء لنداء الحیة، وبعد الحدیث معھا أذعنت لطلبھا، وھكذا أیضًا امتثل آدم لطلب حواء أن یأكل الثمرة، وبحسب خضوعھما للحیة واختیارھما لسماع كلماتھا، سارت حیاتھما، فطُردا من الفردوس بعد أن كسرا وصیة الله كذلك نتذكر كیف كان نوح البار ینادي للجمیع أن یتوبوا وینضموا معه إلى الفلك، لكنھم رفضوا بسبب قساوة قلوبھم، بل تھكموا على من یبني مركبًا على سفوح الجبال، وھكذا ھلكوا بالطوفان، وھناك أحداث كثیرة على مرالعصور توضح اختلاف استجابة الإنسان بحسب رؤیته للمواقف ونحن نؤمن أن الله یستجیب، فقد قال بوعد: "ادْعُنِي فِي یَوْمِ الضِّیقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي" (مز ٥۰ : ۱٥ )، فھو یرید الاستجابة لنا، لكن استجابته تتغیر بحسب الزمان والمكان والطلب، وأیضًا بحسب قلب السائل، إن كان یطلب بإیمان، أو یطلب كما لقوم عادة، فقد طلب أبونا إبراھیم من الله ابنًا له، ولم یمل من الطلب، فأعطاه الله نسلاً بعد وصوله وزوجته إلى الشیخوخة، وقد قبل الله لصلاة یونان النبي بعد مكوثه في جوف الحوت ثلاثة أیام وثلاث لیالٍ، أیضًا استمع الله للقدیس سمعان الخراز في نقل جبل المقطم، وغیرھا الكثیر من الأمثلة.
وفي احتفالنا بمیلاد السید المسیح له المجد، تظھر أمامنا مجموعات مختلفة من الاستجابات البشریة
وھو ما أود أن أتأمله معكم الیوم:
استجابة القلب المطیع: فتاة عذراء تجد ملاكًا یبشرھا بولادة ابن الله منھا ویقول لھا: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ یَحِلُّ عَلَیْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلكِ، فَلِذلِكَ أَیْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ یُدْعَى ابْنَ للهِ" (لو ۱ : ۳٥ )، وبكل الطاعة تجیب: "ھُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ لِیَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" (لو۱: ۳۸ )، وتستجیب لبشارة الملاك، وتستعد لاستقبال ابن الله داخلھا مع أن مریم فتاة صغیرة، لكنھا تعلمت كیف تطیع الله، وتؤمن بكلماته، وتعمل كل ما یطلبه منھا ومن اتضاعھا الجمیل عندما تعلم أن نسیبتھا ألیصابات العاقر حبلى تذھب مریم عبر الجبال لتخدم ألیصابات في حملھا بیوحنا المعمدان،وتقدِّم مثال التواضع للكل، لذلك نطوبھا ونمجدھا لأنھا صاحبة استجابة قویة ونخصص لھا شھرًا كاملاً ھو شھر كیھك نقدِّم فیه الصلوات والتسبیحات ونطلب شفاعتھا أمام المسیح إلھنا.
استجابة القلب النقي: رعاة ساھرین في جو بارد، وھواء الشتاء الرطب، یرعون خرافھم باجتھاد في السھول والودیان، وفجأة تنیر السماء بملاك الرب یبشرھم قائلاً: "أَنَّه وُلِدَ لَكُمُ الْیَوْمَ فِي مَدِینَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ ھُوَ الْمَسِیحُ الرَّبُّ" (لو ۲: ۱۱ )، ویدلھم على مكانه، ثم یظھر جمھور من الجند السماوي مسبحین الله قائلین: "الْمَجْدُ ﻟﻠﮫِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لو ۲: ۱٤ )، "قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُھُمْ لِبَعْضٍ لِنَذْھَبِ الآنَ إِلَى بَیْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ ھذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِه الرَّبُّ فَجَاءُوا مُسْرِعِینَ، وَوَجَدُوا مَرْیَمَ وَیُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ" (لو ۲: 15 -۱٦ )، ففرحوا بالعطیة الإلھیة، واستجابوا لنداء الملائكة "ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَھُمْ یُمَجِّدُونَ اللهَ وَیُسَبِّحُونَه عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِیلَ لَھُمْ" (لو ۲: 20).
استجابة القلب الواسع: بیت لحم، القریة الصغیرة، كانت تعاني من ازدحام شدید بسبب الاكتتاب خلال ھذه الفترة، فقد رجع كل إنسان إلى مكان میلاده لیكتب اسمه في السجلات، لیتم عد الشعب بأمر أوغسطس قیصر، فكان الازدحام شدیدًاولا یوجد مكان لإنسان، وكانت البلاد في ذلك الزمان عبارة عن مساكن للبشر ومساكن للحیوانات،ولم یجد یوسف النجار مكانًا یذھب إلیه مع مریم العذراء خطیبته ویبیتوا فیه، حتى عرض علیھم صاحب بیت، لا نعرف اسمه، أن یستقبلھم، لكن ولضعف إمكانیاته، في مذود البقر، وھكذا استقبل أھل بیت لحم المولود في قریتھم، فتباركت ھذه البلدة من الله بسبب استقبالھا للطفل یسوع.
استجابة القلب المتلھف أو المشتاق: أناس علماء یدرسون الفلك والنجوم، رأوا سماءً ملیئة بالنجوم ولكن بینھم نجم خاص، فتركوا كل شئ وذھبوا وراء النجم، لم یعلموا إلى أین یقودھم، وقد تطول فترة سفرھم بالشھور، لكنھم لم یفكروا كیف یسیرون،لأنھم یثقوا أن ھناك حدث عظیم ویجب أن یسیروا وراءه، واختاروا المسیر، ووصلوا إلیه بعد تتبع النجم، وفي مقابلتھم للطفل یسوع قدَّموا أثمن الھدایا،واثقین أنه لیس طفلاً عادیًا حتى لو مولود في مذود متواضع بسیط، وبعد مقابلتھم له غیروا طریق عودتھم لأنھم آمنوا أنه ملك بقلوبھم لا بعیونھم.
استجابة القلب الشریر: إنه مَلك خاف على مُلكه حین سمع من المجوس أن النجم الظاھر ھو لملك
عظیم، قتل الآلاف من الأطفال حتى یستمر مُلك ھیرودس ولا یزعزعه أي قادم، وغضب من المجوس بسبب عدم عودتھم له، وعدم إخباره بمكان المولود، لم یفكر سوى بنفسه ومملكته وسلطته.
وھكذا ومواقف كثیرة أخرى في حادثة المیلاد تظھر التباین بین الاستجابات بحسب القلوب،
ومازالت الأصوات تعلو في العالم تنتظر استجابة:
صوت الله یطرق على كل قلب، لیختار الإنسان أن یفتح لیدخل الله ویقیم في قلبه، أو یغلق ولا یسمح ﻟﻠﮫ بالدخول.
صوت الوصیة الإلھیة، لیستجیب الإنسان لھا أو أن یكسرھا بإرادته ویفعل ما یحلو له في العالم،ویسیر في طریق الإلحاد وخطایا المثلیة والإدمان بكل أنواعه وغیرھا الكثیر.
صوت الإنسانیة الصارخة، ونحن جمیعًا نسمعھا الآن، من خلال الحروب التي انتشرت حولنا، ورد
فعل العالم لھا، وكیفیة استجابة الشعوب لھذا الصراخ، تسمع وتستجیب أم تصم أذنیھا عن الأنین
الخارج من الشعوب المحطمة في الحروب.
لقد كانت فترة الصوم المیلادي فرصة لإصلاح الأذن الداخلیة في قلب الإنسان، لیستطیع الاستماع والاستجابة،ومكتوب: "یستجیب لك الرب في یوم شدتك" (مز ۲۰: ۱)، فإذا كانت القلوب نقیة فإنھا
تعرف كیف تسمع وتستجیب، ولأن العالم یضج بالحروب والنزاعات فھو لا یستطیع أن یستمع للصوت الإلھي الصارخ من أجل الدمار والصغار والنساء والقتلى والمجروحین والأنین الخارج من النفوس المحطمة.
وقد خصصت الكنیسة شھر كیھك كاملاً للصلاة من أجل إحلال السلام في العالم كله، لیحل السلام من ملك السلام المولود في النھایة ھذا الیوم ھو فرصة لكل إنسان أن یراجع استجاباته السید المسیح أتى لینیر الإنسانیة ویضيء قلوب البشریة، یطلب منا أن یحل السلام،فھل یستجیب العالم لندائه ؟ سؤال ینتظر إجابة من كل إنسان كل عام وأنتم بخیر.
قداسة البابا تواضروس الثاني
الميلاد واستجابة الإنسان
10 يناير 2025
عدد الزيارات 22