
هذا العيد محسوب من أعياد الإبيفانيا التي كانت تعيِّد لها الكنيسة معاً: الميلاد، وزيارة المجوس، والختان، والعماد، وعُرس قانا الجليل كذلك بخصوص هذا العيد السيدي يسجِّل لنا القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315 - 403م) لمحة عن اهتمام الكنيسة القبطية بالتعييد له مع عيد الغطاس منذ القديم في قوله:[وتقيم الكنيسة القبطية عيد عُرس قانا الجليل في 11 طوبة (مع عيد الغطاس) حيث يعتقد الشعب بإمكانية تحوُّل مياه الينابيع ومياه النيل بحسب الإيمان الطيب الصادق إلى خمر، كذكرى سنوية لمعجزة المسيح]( 1).
قانا الجليل تبعد ستة أميال شمال شرق الناصرة، أي على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام. العذراء مريم سبقت المسيح وتلاميذه كعادة تواجد النساء معاً منذ بداية العُرس (مدته 7 أيام)، والمسيح يحضر في الوقت المناسب دائماً (بعد فراغ الخمر)، مع تلاميذه الذين لم يكتمل عددهم إذ لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أيام على دعوة نثنائيل، وفيلبس قبله بقليل، وأربعة أيام على دعوة أندراوس وبطرس، أما يوحنا فلم يتجاوز الأسبوع منذ أن انتقل من مرافقة يوحنا المعمدان إلى مرافقة يسوع. إذن، فلم يتجاوز عدد التلاميذ يوم عُرس قانا الجليل عدد أصابع اليد الواحدة تأتي هذه المعجزة كبداية آيات وبداية خدمة المسيح، بعد معموديته، كما تأتي كأول مقابل لخدمة يوحنا المعمدان، لأنها تعطي أوضح صورة للمسيح «ابن الإنسان»: هذا بالماء والنسك والامتناع الكلِّي عن الخمر وحياة البراري، وهذا بعرس قانا الجليل وبتحويل الماء إلى خمر، حيث التنبيه الذي تستحدثه المعجزة هنا يتركَّز في الدعوة إلى الانتقال من الماء - رأسمال يوحنا المعمدان - كقوَّة للتطهير وللتغيير بالتوبة والسلوك، إلى المسيح نفسه كقوَّة فائقة عُظمى للتغيير في صميم الطبيعة وبالتالي في سلوكها!!فالمسيح هنا إذ يُخضع الماء ويحوِّله إلى ما ليس ماءً بسلطان كلمته، ينبِّه بشدَّة إلى أن القوة التي يتوق إليها الإنسان للتغيير والتوبة والفرح والعزاء كائنة أصلاً في المسيح وفي كلمته!!كما أن المعجزة تشير كذلك إشارة خفية مُبدعة إلى أن الخمر، بحضرة المسيح، لم يعد هو مصدر الانتعاش والانتقال من الكآبة والهم إلى الفرح والتهليل، إذ يوجد الآن مَنْ هو أقوى فعلاً وأثراً من الخمر، المسيح الذي يخلق طبيعة الخمر ذاتها خلقاً!! وبالتالي كل ما في الخمر من قوَّة، وأكثر!! «(حُبَّك) حبيبي أطيب من الخمر»!! (نش 1: 2)التركيز إذن في هذه المعجزة ينصبُّ في كلمة واحدة: المسيح كمصدر ”التحوُّل“. المسيح ينبِّهنا في بداية آياته وبداية خدمته أنه جاء ليكون هو وحده ”مصدر التحوُّل“ في حياة الإنسان: إذن لا بالنسك ولا بالبراري يكمن سر التغيير، ولا بالتطهيرات بالماء أو بالدعاء، ولا في إيليا ولا يوحنا ولا بالأنبياء، ولكن في المسيح يتم تحوُّل الإنسان، كما تحوَّل الماء سرًّا وبدون أي صلاة أو دعاء أو أي حركة ما، إلى ما ليس ماءً، إلى خمر جديد جيِّد، هذا الذي كان يتوهَّم الإنسان أن فيه راحته.
معنى العُرس في التقليد العبري:
مراسيم العُرس في التقليد العبري الأصيل وما يلازمه من احتفالات، تحمل معاني أعمق بكثير من كونه ”فرحاً“ أو حفلة أو مناسبة اجتماعية للسرور والمجاملات. والذي ننقله إلى القارئ من تقليد العُرس العبري في أيام المسيح هو من التلمود وكتب اليهود الطقسية القديمة كما يقدِّمها لنا أحد الحاخامات المتنصِّرين(2). وخلاصة القول أن العُرس كان يُعتبر نقطة حاسمة في حياة الشاب والشابة، يصوم كلاهما قبل التقدُّم إليه ويعترف كل منهما بخطاياه. فالزواج كان يُقدَّر في التقليد العبري على كونه بمثابة ”سر“، حتى أنه بمجرَّد تتميم عقد الزواج يحدث غفران تلقائي لكل خطايا الإنسان السالفة.
ويعطينا سفر التكوين صورة واقعية بهذا المعنى، فامرأة عيسو التي كان اسمها قبل الزواج ”بسمة“ ونُطقها العبري الصحيح ”باسيمات“ (تك 36: 3) صار اسمها بعد الزواج ”محلة“ ونُطقها العبري الصحيح ”ماحلات“ (تك 28: 9) ومعناها ”محالة الخطايا“ أو ”مغفورة الخطايا“.
وكان المعروف أن العلاقة التي تربط العريس بالعروس هي على نمط ما هو قائم بين يهوه وشعبه ككل!! وهذا يردِّده الكتاب المقدَّس مراراً وتكراراً حتى صار من صميم تعاليم الربِّيين. وهكذا كان ارتباط العريس بالعروس يوم القران - في مفهوم الشعب - يقوم على أساس ارتباط الله بإسرائيل.
لذلك كان الاهتمام الشديد لحضور أي حفلة عُرس بالنسبة للشعب وقادته ينبع من مفهوم الشركة في تعميق سر ارتباط الله مع شعبه، وتكريم قيام وثبوت وعود الله الخاصة بازدهار الأُمة!
بهذا المعنى كانت حفلة العرس يُعتنى بتنسيقها جدًّا، وبتوفير مصادر الفرح لها من قِبَل الأغنياء ورجال المجمع، إذا كان الزوجان فقيرين، لأن ذلك يُحسب تكريماً للعلاقة التي تربط الله بالمجمع وبالشعب!! وبالتالي كانت مراسيم الزواج المفعمة بالخشوع والتقوى والإحساس الديني تتخلَّل حفلة العرس ذاتها من أول لحظة إلى آخرها كحفلة مقدَّسة، حيث يكون السرور والفرح والرقص والتصفيق باليدين وشرب الخمر، بعد الصلاة بالبركة عليه(3 ).
كل هذا، على المستوى الديني، لا تشوبه أي شائبة انحلالية، بل كأعمال مقدَّسة تكريماً للرب ”يهوه“.
بل إن مجرَّد الخطوبة التي تسبق الزواج والتي نسمِّيها الآن؛ ”جي بنيوت“، أي قراءة «أبانا الذي»، كانت تسمَّى بالعبرية ”عروسين قدوشين“، أي دخول العروسين في القداسة!! وحين كان يقف أحد المسئولين أو الكهنة ليعدِّد أوصاف وفضائل وجمال العروس كان هذا يُحسب ضمن الطقوس المقدَّسة!!
كل هذا يجعل حضور المسيح حفلة عُرس لعريسين فقيرين «ليس لهم خمر»، أمراً طبيعياً يدخل في صميم رسالته كعريس حقيقي لكل نفس، خاصة وأنه أول عمل يأتيه مدعَّماً بآية. فإن كان حضور العُرس محسوباً أنه خدمة دينية وواجب لكل إسرائيلي ولكل ذي غيرة، فإنه بالنسبة للمسيح هو بمثابة تقييم جديد لمعنى العُرس في العهد الجديد. إذ بحضوره تمَّ حضور الله. وهكذا أصبح الزواج المسيحي مدموغاً منذ عرس قانا حتى اليوم بطابع ”السر الإلهي“، حيث مفهوم سر الزيجة ينحصر في معنى ”حضور المسيح“، لجعل رباط الزيجة قائماً ودائماً بين ثلاثة وليس بين اثنين «فالذي جَمَعَهُ الله لا يُفرِّقه إنسان» (مت 19: 6)!! حيث المسيح في كل زيجة هو مقيم الوعد وضمين العهد بين الزوجين، لتحويل الحياة من مستواها الزمني العادي إلى مستواها الخالد والأبدي، بسر حضور الله (على مستوى تحويل الماء إلى خمر)!
وعندما قصد المسيح أن تكون بداية خدمته واستعلان مجده من داخل عُرس، لم يكن إلا مشيراً بإصبع المناسبة والآية إلى نهاية خدمته، حينما يستدعينا جميعاً إلى عُرسه الخصوصي لحضور «عشاء عُرس الخروف» (رؤ 19: 9)، حيث نكون نحن موضوع هذا العُرس، وموضعنا موضع العروس!! «لأني خطبتكم لرجُلٍ واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (2كو 11: 2)
إذن فآية عُرس قانا الجليل تعود أيضاً ومن طرف خفي لتنبهنا إلى مكانة المسيح الحقيقية سواء في ”قانا“ أو في حياتنا، فهو العريس الحقيقي أينما حضر، ونحن معه دوماً أينما كان وأينما كُنَّا، كعروس تتبع دائماً عريسها، إذن فعُرس قانا هو عُرسنا، والعريس فيه هو عريسنا، والعروس فيه هي نفسنا آه يا نفسي متى تدركين موقعك من المذود والأردن، ومن قانا والصليب، والقبر والسماء؟
القمص المتنيح متى المسكين
وللحديث بقية