لأني منه وهو أرسلني

08 يوليو 2019
Large image

تكلّم السيد المسيح في حوار مع اليهود وأورد ذلك القديس يوحنا الإنجيلي كما يلي: "نادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلًا: تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني" (يو7: 28، 29) قال السيد المسيح ذلك ردًا على كلام اليهود عنه: "هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يو7: 27). لم يفهموا أن السيد المسيح قد جاء منالسماء وتجسد من السيدة العذراء بدون زرع بشر، بل اعتقدوا أنه كان ابنًا طبيعيًا للقديس يوسف وللعذراء مريم. وبذلك اعتبروا أنهم يعرفون من أين هو. وكانت معرفتهم غير سليمة. لأن سر التجسد الإلهي كان مخفيًا عن عقول الأشرار لكن السيد المسيح بالرغم من أنه لم يتكلم وقتها صراحةً عن الميلاد العذراوي، إلا أنه أشار إلى ولادته من الآب قبل كل الدهور وإلى إرسال الآب له إلى العالم أي تجسده في ملء الزمان وقد لخص السيد المسيح الحقائق المختصة بميلاده حسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور، وولادته من العذراء مريم بحسب ناسوته في ملء الزمان بقوله عن علاقته بالآب السماوي "لأني منه، وهو أرسلني" (يو7: 29) إنها عبارة قصيرة مكونة من شطرين أقصر منها. ولكنها تحمل حقائق عقائدية في منتهي القوة والأهمية.
الشطر الأول من العبارة "لأني منه"تشير إلى ولادة الابن الوحيد من الآب بنفس جوهر الآب. وهذا هو الميلاد الأول للابن الكلمة.
والشطر الثاني من العبارة "وهو أرسلني"تشير إلى إرساله من قِبَل الآب إلى العالم ليتجسد من العذراء مريم.وهذا هو الميلاد الثاني للابن الكلمة.
لأني منه
جميل جدًا أن يقول الابن عن نفسه أنه من الآب. أي أن له نفس طبيعة الآب وجوهره وكما شرح مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث كمثال فإن العقل الذكي يلد فكرًا ذكيًا، والعقل القوى يلد فكرًا قويًا، والعقل الحكيم يلد فكرًا حكيمًا، والعقل المقدس يلد فكرًا مقدسًا. أي أن العقل يلد فكرًا له نفس جوهر العقل، أي أن جوهرهما واحد. والعقل يلد الفكر في داخله دون أن ينفصل منه، وإن خرج الفكر منطوقًا به ككلمة فإنه أيضًا لا ينفصل من العقل بل هو كائن فيه على الدوام وفي حوار السيد المسيح مع اليهود الذين قالوا إنهم يعرفون من أين هو، استنكر هو ذلك لأن مصدره هو الآب، ولم يكن اليهود يفهمون ذلك. ورد السيد المسيح على كلامهم بقوله إنهم لا يعرفون الآب، أما هو فيعرفه بالتأكيد لأنه منه "ولستم تعرفونه. وأما أنا فأعرفه" (يو8: 55)ونفس الشيء قاله معلمنا بولس الرسول عن الروح القدس: "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1كو2: 10)فالابن لأنه من الآب بالولادة، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محدودة. وكذلك الروح القدس لأنه من الآب بالانبثاق، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محدودة واقتران كلام السيد المسيح عن معرفته للآب مع قوله عن ولادته من الآب "لأني منه"، يؤكد أنه كان يتحدث في هذا الشطر من العبارة عن العلاقة الفائقة التي تربط الابن بالآب في الجوهر الإلهي الواحد، أي عن أن الابن مولود من الآب بنفس جوهره وطبيعته.
وهو أرسلني
يقول معلمنا بولس الرسول: "لما جاء ملء الزمان؛ أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدى الذين تحت الناموس" (غلا4: 4، 5) فعبارة السيد المسيح "وهو أرسلني"تشير إلى إرسال الابن الوحيد إلى العالم مولودًا من امرأة، ليفتدى العالم من لعنة الخطية وقد كرر السيد المسيح كثيرًا في الأناجيل، وبخاصة ما سجله القديس يوحنا في إنجيله، أن الآب قد أرسله إلى العالم. وتكرر ذكر هذه الحقيقة عشرات المرات وكمثال لذلك نرى السيد المسيح يذكر إرسال الآب له عدة مرات في الأصحاح الثامن من إنجيل معلمنا يوحنا كما يلي: "أنا والآب الذي أرسلني" (يو8: 16)، "ويشهد لي الآبالذي أرسلني" (يو8: 18)، "لكن الذي أرسلني هو حق" (يو8: 26)، "والذي أرسلني هو معي" (يو8: 29)، "لأني لم آتِ من نفسي، بل ذاك أرسلني" (يو8: 42) إن تأكيد السيد المسيح على إرسال الآب له يحمل من جانب: تمجيدًا للآب السماوي، بمعنى أن كل ما يفعله الابن من أجل خلاص العالم هو بتدبير من الآب والابن والروح القدس، مثلًا نقول في التسبحة (لأنه بإرادته ومسرة أبيه والروح القدس أتى وخلصنا) (ثيئوطوكية يوم الثلاثاءqeotokia). لذلك كان السيد المسيح دائمًا يؤكد أنه لا يعمل وحده بل يعمل هو والآب الذي أرسله. فعمل الثالوث هو واحد بالرغم من تمايز دور كل أقنوم في العمل الواحد ويحمل من الجانب الآخر: إبرازًا لحقيقة صدق إرساليته وارتباطها بالآب السماوي وذلك بشهادة الآب له وحينما تكلّم السيد المسيح مع نيقوديموس عن صلبه من أجل خلاص العالم قال له: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16) إن الصليب ليس فقط تعبيرًا عن محبة المسيح لنا باعتباره ابن الله الوحيد، بل هو أيضًا تأكيدًا على محبة الآب لنا إن المحبة الصادرة من الثالوث هي محبة واحدة، وكما وصفها الآباء القديسون هي [من الآب بالابن في الروح القدس]. فالأقانيم الثلاثة يحبوننا بنفس المقدار وبنفس القوة وقد ذكر القديس إشعياء النبي اشتراك الروح القدس في إرسالية الابن الوحيد إذ سجل ذلك على لسان السيد المسيح "منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحُه(بضم الحاء)" (إش48: 16). فالروح القدس ورد في هذا النص في صيغة الفاعل وليس المفعول به، أي هو والآب قد أرسلا الابن إلى العالم ما أعظم هذه الإرسالية التي جعلتنا نتمتع بظهور الله الكلمة في الجسد. وما أروع هذا التدبير الإلهي الذي جعلنا ننعم بحضور الله معنا تحقيقًا لنبوة إشعياء النبي "هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (مت1: 23)، (انظر إش7: 14)لم تعد عبارة "الله معنا" هي على سبيل التمني أو الإحساس فقط بمعونة الله، ولكنها تحولت إلى حقيقة تلامست معها البشرية فأمسكت بالحياة الأبدية. وهذا ما عبّر عنه القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1يو1: 1، 2).
أنا قد أتيت باسم أبي
قال السيد المسيح لليهود: "مجدًا من الناس لست أقبل ولكنى قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم. أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه. كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه" (يو5: 41-44). وقد ربط السيد المسيح بين مجيئه باسم أبيه وبين رفضه لمجد العالم الزائل فما معنى قوله: "أنا أتيت باسم أبي؟ ومن هو الآخر الذي سيأتي باسم نفسه؟!
إنسان الخطية ابن الهلاك
تحدثت الكتب المقدسة عن إنسان سوف يأتي مدعيًا أنه هو المسيح، وبسببه سوف يحدث الارتداد العام قبل نهاية العالم مباشرة. ولقّبه سفر الرؤيا باسم "الوحش" وأن عدد اسمه هو 666 وهو مجموع حروف اسمه باللغة العبرية حسب الحساب الأبجدي كتب بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي الذين تصوّروا أن المجيء الثاني للرب يسوع المسيح قد حل موعده فقال: "لا يخدعنكم أحد على طريقة ما. لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولًا، ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك. المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله.. الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويُبطله بظهور مجيئه. الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2تس2: 3، 4، 8-10)ونلاحظ أن "المسيح الكاذب" أو "ضد المسيح" الذي تكلّم عنه بولس الرسول سوف يدّعى الألوهة فوق كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا. فهو لن ينكر فقط أن يسوع هو المسيح، وأن يسوع هو إله حقيقي، بل سوف يتجاهل ألوهية الآب السماوي والروح القدس. أي لن يعترف بالثالوث القدوس الإله الواحد الحقيقي، مظهرًا نفسه أنه إله فوق كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا (انظر 2تس2: 4)هذا المسيح الكاذب سوف يأتي طبعًا باسم نفسه وليس باسم الآب، وسوف يُمجِّد نفسه ولا يمجد الآب. وسوف يأتي محاطًا بكل مظاهر العظمة والسلطان البشرى والمجد العالمي الزائل الذي أراده اليهود للسيد المسيح ولم يجدوه فيه لأنه جاء رافضًا له مرددًا مقولته المشهورة "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36) المسيح الكاذب فسوف يقود العالم إلى الارتداد وإلى عبادة الأصنام. لأن الشيطان سوف يجعل تمثال الوحش يتكلم ويبهر الناس. وسوف يجعل الناس يسجدون لهذا التمثال، وسوف يضعون سمة الوحش على جباههم أو أيديهم. وقد وردت كل هذه الأشياء في سفر الرؤيا إذ كتب يوحنا الرسول يقول:"ويصنع آيات عظيمة.. وأُعطى أن يُعطى روحًا لصورة الوحش حتى تتكلم صورة الوحش. ويجعل جميع الذين لا يسجدون لصورة الوحش يقتلون. ويجعل الجميع.. تُصنع لهم سمة على يدهم اليمنى أو على جبهتهم. وأن لا يقدر أحد أن يشترى أو يبيع إلا من له السمة أو اسم الوحش أو عدد اسمه. هنا الحكمة. من له فهم فليحسب عدد الوحش فإنه عدد إنسان. وعدده ستمئة وستة وستون" (رؤ13: 13، 15-18) إذن فسوف يبهر الوحش الناس بالمعجزات والآيات الكاذبة كقول معلمنا بولس الرسول عنه "الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2تس2: 9، 10). وللأسف فسوف ينخدع الكثير جدًا من الناس بهذه الأمور ويسجدون للمسيح الكاذب ولتمثاله (صورته) ويمجدونه كإله دون أن يمجدوا الآب السماوي لذلك قال السيد المسيح لليهود الذين رفضوا الإيمان به: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" (يو5: 43). بمعنى أن اليهود وباقي البشر الذين سوف يقبلون المسيح الكاذب قبل نهاية العالم، لهم نفس النوعية مثل اليهود الذين رفضوا قبول السيد المسيح وقيل عنهم: "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله" (يو1: 11).
منهج السيد المسيح
حينما أخلى السيد المسيح نفسه من مجد الألوهة المنظور آخذًا صورة عبد، وضع منهجًا مغايرًا تمامًا لمنهج الوحش الذي مجيئه بعمل الشيطان، والذي يضع تمجيد ذاته فوق كل اعتباركان منهج السيد المسيح هو تمجيد الآب السماوي بصورة مستمرة مثلما قال للآب "أنا مجدّتك على الأرض" (يو17: 4). لذلك قال لليهود: "إن كنت أمجد نفسي فليس مجدي شيئًا. أبي هو الذي يمجّدني الذي تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه. وأما أنا فأعرفه. وإن قلت إني لست أعرفه أكون مثلكم كاذبًا" (يو8: 54، 55). إذن فالسيد المسيح قد مجّد الآب ولم يمجّد نفسه، بل ترك ذلك للآب.
نيافة الحبر الجليل المتنيح الانبا بيشوى مطران دمياط ورئيس دير الشهيدة دميانة
عن كتاب المسيح مشتهي الأجيال منظور أرثوذكسي

عدد الزيارات 932

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل