
[ وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَنَا لَهُ وَسَأَلَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لَا تَزْنِ. لَا تَقْتُلُ. لَا تَسْرِق. لَا تَشْهَدْ بِالرُّورِ. لَا تَسْلُبْ أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هذه كُلُّهَا حَفَظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْورُكَ شَيْءٍ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلِّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَيْرٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتَّبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينَاً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَتَحَيَّرَ التَّلَامِيذُ مِنْ كَلامِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: «يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُص؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ، لأَنَّ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّهِ ].
الشاب الغني وتبعية المسيح
نحن هنا أمام إنسان كامل من جميع ما يُطلب من الإنسان اليهودي، فهو مؤدب ويحترم المعلمين، وهو كما سنرى حفظ الناموس كله منذ حداثته، أما كونه ذا أموال كثيرة ففي اليهودية هذا يُعتبر نجاحاً ليهوديته وتوفيقاً من الله ومجالاً كبيراً لعمل الخير والصلاح. كذلك واضح أن هذا الغني الذي حفظ الناموس يعرف جيداً أن هناك حياة أبدية يرثها الذين أكملوا الناموس، فهو يسأل عما يعمله أكثر من حفظ الناموس ليرث الحياة الأبدية. إلى هنا لا نجد غباراً على هذه الشخصية اليهودية التي تسعى نحو الحياة الأبدية. وهو حينما جثا أمام المعلم أعلن جهاراً الطاعة الكاملة والخضوع لكل ما يشير به المعلم، ودعاه صالحاً توقيراً منه المعلمه منتظراً المشورة لما يعمله بعد أن أكمل الناموس، وكان أمله أن يدله على عمل يكمل الناموس باستخدام ثروته، ولا مانع إذا كان يأخذ منها المعلم شيئاً نظير مشورته. فابتدره المسيح بأن رفض لنفسه لقب الصلاح كمعلم، فالصلاح الله وحده وليس للمعلمين «فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْرٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتَّبَعْنِي حَامِلاً الصليب» هذه أول مرة في الأناجيل يُصرح أن المسيح أحب إنساناً، وحينما يقول الإنجيل إنه أحبه فيعني أنه أحبه شاب غني يحفظ الناموس باهتمام منذ صباه ويذهب وراء المعلمين يسأل باهتمام ماذا أعمل بعد حفظي الناموس حتى أرث الحياة، هذا نموذج فريد لا يمكن أن نجد في كلامه أو سلوكه أي خطأ ولكن للأسف لقد أخفق الفتى فيما أخفقت فيه إسرائيل كلها، لقد سحرها مالها وغناها ونسيت إلهها وعبدت كل ما عداه، ولكن إسرائيل جاءها المسيح يطلب ودها فرفضته، وذبحته، وهذا الغني جاء يطلب ود الله ولكن كان قد اقتنى مالاً كثيراً فحجزه عمن أحبه.
"اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء"
عملية تحويل بديعة وناجحة ومربحة بالدرجة الأولى، تحويل مدخراتك من بنك الأرض إلى بنك الأرصدة المرصودة لحساب الحياة الأبدية ومقره السماء، حيث لا ينقب سارق ولا يفسد سوس بأرباح مركبة المسيح هنا يقدم المشورة الناجحة للغني الساعي الميراث ملكوت الله، والمسيح لا يقدمها من فراغ بل يقول وهو الضامن لما يقول، وأمر يسوع يخرج مدعماً بقوة على التنفيذ، فمهما كان الأمر صعباً وشبه مستحيل ففي أمر المسيح ضمان التنفيذ والنجاح، لأنه لم يعد قولاً عادياً، بل أمراً يتحمل المسيح شخصياً لا نجاحه فقط بل ويتحمل أيضاً كل مسئولية تنشأ أثناء التنفيذ وبعد التنفيذ، لأنه لم يصبح أمراً عادياً بل رهاناً على مصداقية المسيح فكل من سمع وآمن وأطاع ونفذ يتحقق من مصداقية المسيح، ويرى ويعاين مجده «إن آمنت ترين محد الله».
«وتعال اتبعني حاملاً الصليب»
إن هو حقا باع وألقى بنفسه على رجاء أمر المسيح؛ يحمله المسيحويضعه على الطريق وإذ يكون قد تحرر من حمله الثقيل يستطيع أن يسير ويتبع المسيح. والذي باع كل ما له لم يعد له ما يستحق أن ينظر وراءه، ففي الحال يرى السماء مفتوحة، ويأتي إليه من يضع علامة العبور على كتفه.
«فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» .
لقد سحر المال ذلك الغني فقيمه بأكثر من الحياة الأبدية التي جاء يطلبها ودله عليها المسيح لأنه لما وازن بين المال والملكوت زين له العدو عظمة الغنى في هذا الدهر، فانطفأت جذوة الحياة الأبدية من قلبه فاغتم ومضى حزيناً على أشواق ذهبت ولن تعود وهذا هو الغم الذي اشتراه بأمواله، وهذا هو الحزن الذي ورثه له غناه!
«فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَتَحَيَّرَ التَّلَامِيذُ مِنْ كَلَامِهِ».
هنا القديس مرقس ينقل عن شاهد عيان دقيق الملاحظة يستطيع أن يقرأ الحركات والسكنات ويحولها إلى لغة وأوصاف. فالمسيح هنا ينظر حوله ليستطلع مدى تأثر التلاميذ بالدرس العملي الذي ألقاه عليهم على مستوى وسيلة الإيضاح فالشاب الغني كاد يبكي على حال غناه إذ جعله المسيحيقف موقفاً حاسماً من نفسه: المال أم الملكوت؟ فاختار المال ومضى مغموماً حزيناً!! وكأن المسيح يقول لهم بنظراته أسمعتم ورأيتم كيف وقف المال عثرة كؤود في طريق الملكوت؟ وبعدها قال حكمه الإلهي: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله».
«فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُص؟»
كلام المسيح لا يخضع لمنطق العالم، والخلاص أيضاً لا يخضع لمنطق أبناء هذا الدهر، ولكن باستطاعة الله أن يخلص الغني ويخلص كل إنسان، إن هو سمع صوت دعوة الله. وكل إنسان يتعذر خلاصه إن هو أراد أن يخلص نفسه، ولكن إن سلم حياته للمسيح خلص: «آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك».
وأخيراً نقول : الخلاص ليس في يد إنسان بل في يد الله، فلا نستطيع نحن أن تدبر الخلاص لأنفسنا. فالخلاص هو باستطاعة الله وحده، لذلك من الخطأ بل والخطية أن نسأل مَنْ يستطيع أن يخلص؟ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يُخلّص نفسه، هذا باستطاعة الله وحده خلوا من غنى أو فقر. شيء واحد تعلمناه من درس هذا الغني أنه إن لم يبع الإنسان كل ماله ويعطي الفقراء ويتبع المسيح حاملاً صليبه، فعسير عليه أن يخلص!
المتنيح القمص متى المسكين