شخصية اتاي

30 نوفمبر 2019
Large image

إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً" (2صم 15: 21)
مقدمة
قصة اتاي من أروع القصص الكتابية التي تحدثنا عن الغريب الذي يتبادل الموقع، لم يكن أتاي إسرائيلياً، بل فلسطينياً من جت بلد جليات الفلسطيني،.. وعندما التقى بداود لم يكن اللقاء بينهما لقاء جليات بداود، أو لقاء عدوين متقاتلين، أو خصمين يطلب أحدهما حياة الآخر، أو رجلين يتعبد كل منهما لإله يختلف عن الآخر،.. لقد التقيا على العكس من ذلك، لقاء صديقين محبين مسالمين، إذ جاء أتاي غريباً منفياً من وطنه، ومن المؤكد أنه آمن بإله إسرائيل، ولفظ عبادة داجون، واستظل بجناحي الإله الوحيد الحي الذي يتعبد له داود، وقد جاء إلى داود مع ستمائة من الفلسطينيين، لعلهم أهله وعشيرته وبيته، وكان قائداً عليهم!!.. ومن العجيب أن هذا الرجل الغريب تبادل الموقع، ففي الوقت الذي خرج فيه أبشالوم وأخيتوفل وشمعي على الملك،.. جاء هذا الرجل ليأخذ المكان الخالي، وليدافع عن الملك دفاع الحياة أو الموت،.. من حق هذا الرجل أن ننظر إليه وهو يقود ثلث الجيش المدافع عن داود مع يوآب وأبيشاي اللذين قادا الثلثين الآخرين، نفس النظرة التي نظر بها المسيح إلى قائد المئة: "فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"... ومن حقنا نحن الذين كنا أصلاً بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا، وبلا إله في اعالم، أن نفخر بالرجل القديم الغريب الذي أخذ المكان المتقدم الذي ضاع من ابن البيت وصاحبه!!.. دعونا إذا نرى الرجل في الصورة التالية:
أتاي المنفي
ليس من السهل أن تعرف لماذا نفى أتاي من بلده ووطنه،.. وهل يرجع الأمر كما يتصور البعض إلى الطغيان في الحكم هناك، مما دعاه إلى الهروب والالتجاء إلى إسرائيل، كما فعل داود في صدر شبابه، وهو هارب من مطاردة شاول الملك؟.. أو أن الأمر يرجع إلى تصرف ما، لم يرق في عيني القادة الحاكمين، مما اضطره أن يلجأ لداود بحثاً عن أمنه وسلامته؟.. أياً كان السبب فإنه من الواضح أن الرجل دخل إسرائيل منفياً متعباً، هو والذين تبعوه، وأنه لجأ إلى داود وإسرائيل بحثاً عن الهدوء والأمن والسلامة ومن الواضح أن النفي كان جزءاً من عناية الله وهو يدري أو لا يدري -للإيمان بإله إسرائيل، والتعرف عليه والاستظلال بجناحيه، وأنه على اختلاف الزمان والمكان أشبه براعوث الموآبية التي حياها بوعز بقوله: "قد أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك حتى تركت أباك وأمك وأرض مولدك وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل من قبل ليكافيء الرب عملك وليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئت لكي تحتمي تحت جناحيه".. ومن الواضح على أي حال أن قصته تطالعنا بملامح رجل ألف حياة الجندية، وارتسمت على قسمات وجهه غضون الآلام والمتاعب والكفاح، ومثل هذه الحياة، يمكن أن تكون التربة الخصبة الصالحة لعمل نعمة الله، وكسبه إلى الحياة الأبدية!!.. ومن المعتقد لذلك أن النفي كان وسيلة الله للبعد عن داجون والاقتراب إلى تابوت العهد في إسرائيل!!... إن المنفى بالنسبة لأي إنسان هو الكارثة بعينها، التي لا يرحب بها، ولكنها مرات كثيرة تكون طريق الله العظمى لكل ما يتمتع به من خير أو بركة،.. وقد لا يكون المنفى بالضرورة البعد عن الوطن أو الحرمان منه، ولكنه على أي حال هو ذلك الإحساس بالأسر المادي أو المعنوي، الذي يجرح الجسد أو النفس، ويترك بصماته العميقة على الروح في الإنسان الباطن،.. في قصة لشاب أمريكي أنه في ثورة من ثورات غضبه لعن بلده أمريكا، وإذ قيل له أنه ليس من الكريم واللائق أن يلعن الإنسان وطنه، وإذ به يجيب ممعناً في التمرد، أنه لا يعتبر أمريكا وطناً له،... وكان جزاؤه القاسي الذي حكم عليه به حرمانه من أن تطأ قدمه أرض أمريكا طوال حياته،.. وضعوه في سفينة تجوب به البحار، دون أن يسمح له أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى بلده، وكان الحنين يمزق قلبه، وهو يرى من على بعد الأرض والمدن والبلاد التي لا يجوز له أن يدخلها، وضاق الطريد بالمنفى، ولما لم يجد رجاء في الأرض، اتجه إلى الله في السماء، وكان الإنجيل صديقه وملاذه في الكربة والضيق، وعندما مات كان هو الشيء الوحيد القريب منه، وتحت وسادته، وكأنما يريد أن يذكر قومه، أنه وإن حرم من وطنه الأرضي، فإنه لا يمكن أن يحرمه أحد من الوطن السماوي، الذي يتجه إليه كل مؤمن غريب نفته الأرض بالموت ليستوطن عند الله،.. قد يكون المنفى بعداً عن وطنه، أو قد يكون أسراً صحياً لجسد فقد البصر، أو أقعدته العلة عن الحركة والنشاط، أو ربما يبدو خسارة في مال، أو هزيمة لمركز، وضياعاً لحب أو ألفة أو صداقة،.. وقد عرفه الشاب الاسكتلندي العظيم چورچ ماتيسون عندما كان في آخر مرحلة في دراسته الجامعية، وكان قد خطب لنفسه فتاة، وأصيب بمرض في عينيه، قرر الأطباء معه أنه لابد أن يفقد البصر، وإذ تركته خطيبته لعلمها بذلك، جرح في الأعماق، وفي منفى النفس، والقلب المكسور، عرف المسيح، وأصبح خادماً من أشهر الخدام الاسكتلنديين، وهو مكفوف، وخلد ما حدث معه بترنيمته العظيمة التي مطلعها: أيتها المحبة التي لا تدعني أذهب!!، لقد أوشك في منفى النفس أن يهيم على وجهه، ويضرب على غير هدى، ولكنه وقد فقد البصر، ضاءت بصيرته، وعرف الحياة الجديدة مع المسيح،.. لم يأت أتاي الجتي إلى المنفى في إسرائيل، بل جاء قبل وبعد كل شيء إلى الله، إله إسرائيل هنا!!...
أتاي الغريب
كان أتاي الجتي واحداً من أشهر الغرباء الذين سجل الوحي قصة حياتهم العظيمة ين الناس، وهو واحد من ذلك الموكب الجليل النبيل الحافل بأعاظم الرجال أو النساء على حد سواء، موكب ملكي صادق، وأيوب، وراحاب، وراعوث، وأوريا الحثي، وملكة سبأ، ونعمان السرياني، وقائد المئة الذي لم يجد المسيح في كل إسرائيل كإيمانه، وغيرهم من الغرباء الذين بزوا الجميع وتقدموا الصفوف، وصاروا نجوماً لامعة عجيبة في كل التاريخ، وأتاي الجتي بهذا المعنى ليس إلا الصورة أو الرمز لكل أعمى غريب أفقدته النعمة، وجاءت به من المنفى، أو الكورة البعيدة، التي وصل إليها،.. وفي الحقيقة إنها ظاهرة عجيبة تستدعي الدرس والتفكير والتأمل، كيف يمكن أن يأخذ "الأعمى" مكان "الإسرائيلي" و"الغريب" مكان ابن "البيت" على هذا النحو العظيم العجيب،.. وهي ظاهرة يمكن أن نأخذها بصورة أخرى، عندما نرى عمل النعمة الإلهية، في الكثيرين من الأشرار الذين أوغلوا في الخطية والفساد، وهم "غريبون" عن كل كنيسة، أو أكثر من ذلك من مضطهدي الكنائس، والذين لا شيء أبهج على قلوبهم ونفوسهم، من مقاومة العمل الإلهي في كل مجال ومكان،.. في مدينة روزرهام بانجلترا هناك كنيسة أسسها رجل اسمه "يوحنا ثورب"،.. وقصة هذا الرجل عجيبة،.. إذ أن يوحنا ويسلي ذهب إلى المدينة ليعظ فيها، وينادي برسالة الخلاص التي جاء بها المسيح إلى العالم،.. وتصدى يوحنا ثورب ليوحنا ويسلي، وهو يقود جماعة آلت على نفسها أن تفسد كل أثر لرسالة الواعظ الإنجليزي العظيم،.. وابتكر ثورب كل وسيلة شيطانية لإفساد الرسالة الإلهية، فلم يضطهد رجل الله فحسب، بل أراد أن يجعله سخرية للمدينة كلها،.. وذات مرة وهو يقلد ساخراً الواعظ الكبير أمام جمع من المعربدين والسكيرين في أحد البارات، وبينما هو يفعل ذلك، إذ بروح الله يسيطر عليه، وهو في ذات الفعل يسخر ويجدف،.. وإذا بالساخر، لا يتحول قديساً فحسب، بل يصبح أكثر من ذلك واحداً من أعظم مساعدي يوحنا ويسلي في خدمة الله،... وما تزال الكنيسة التي أسسها يوحنا ثورب قائمة إلى اليوم في مدينة روزرهام لتشهد بعمل نعمة الله في المجدف والسكير والشرير والأحمق، والذي تحول ليبشر بالإنجيل الذي كان يتلفه من قبل!!..
أتاي المحب
ولا يمكن أن نقرأ قصة هذا الرجل العظيم والجندي الشجاع، دون أن نتبين عاطفة المحبة القوية التي ربطت بينه وبين داود، ومن المعتقد أن كليهما كان صاحب الفضل في أن تصبح واحدة من أندر صور المحبة بين الناس، ولعل السر في ذلك يرجع إلى طبيعة الرجلين واستعدادهما الكامل للتقابل والتجاوب، فداود أصلاً من الشخصيات التي تثير التقدير والإعجاب والحب،.. ولعله وهو الملك النبيل الشجاع، ورجل الله العظيم المقدام، وقد لاذ به أتاي، قد أفسح له المكان، ومن معه، وأعطاه ما لم يكن يحلم به من مساعدة ومعاونة، بل قربه إليه ليجعله من خاصته الملكية، وقائداً لمجموعة الفلسطينيين الذين جعلهم كحرس ملكي له،... وما من شك بأن أتاي وقد خرج من الجو الوثني إلى الجو الفياض بمعرفة الله والإشراق الإلهي، رأى النور مكان الظلمة، ورأى الحق مكان الباطل، ورأى الله مكان داجون،.. وكان لابد أن يؤخذ بهذا كله، ليحوله عصارة حب لله، وللرجل الذي جعله الله على رأس الأمة ملكاً وقائداً لها،.. وما من شك بأن داود رأي في أتاي الرجل الصريح الشجاع الأمين، الجدير بكل تقدير وإكرام ومحبة،... ووقع كلاهما من الآخر الموقع النفسي الحسن،.. على أن الأمر -فيما أعتقد- كان أكثر من ذلك، إذ أن داود التقى بأتاي وهو منكوب عاثر، والنفس العاثرة شديدة الانفعال والإحساس، وهي تذوب حباً فيمن يقف منها موقف الحنان والرفق والعطف والمساعدة والإحسان، والأمر عينه، عندما تعثر داود، ووقف موقف الشريد الطريد، وفاض قلب أتاي، بأعمق المشاعر، ولعله تذكر في ذلك الوقت ما فعل معه داود عندما جاءه هارباً منفياً مطروداً مشرداً،... على أي حال لقد كانت محبة الرجلين بعضهما للبعض مزيجاً من الإعجاب والآلام، والآمال والتعاسات،.. وكانت أصدق صورة للمحبة في صحو النهار أو حلوكة الليل، في رقة النسيم أو أمام الزوبعة القاسية والعاصفة الهوجاء!!...
أتاي الوفى
كان أتاي الجتي صورة من أروع صور الوفاء التي كتبت في حياة الناس على هذه الأرض،.. وقد كان وفاؤه أولاً وقبل كل شيء لله، أو في لغة أخرى، إن وفاءه لداود كان نابعاً في الأصل من الوفاء لله،.. كان هذا الرجل كما عرفنا رجلاً جندياً بطبعه وحياته، وكان لهذا السبب صادق النظر، مستقيم المبدأ، لا يعرف الازدواج أو الرياء أو التصنع أو الانحراف، وهو يعرف عندما يدخل المعركة، لماذا دخلها، وما واجبه في أوراها واشتداداها،.. ولا شك أنه سأل نفسه هذا السؤال الواحد: ها هي الثورة تقوم، وها هو الابن ينقلب على أبيه، فأيهما على حق وأيهما على ضلال؟!! وكان الجواب على السؤال هو الذي يحدد موقفه القاطع الحاسم النهائي، وقد أدركه بدون أدنى ريب أو تردد، إذ لم يكن هناك شك في أن الموقف الحق الصحيح إلى جانب داود، وضد ابنه المتمرد الثائر الآثم الشرير!!... ومهما تكن النتيجة فإن واجبه يقتضيه أن يقف في موقع الله، حيث الحق والصدق، والشرف والأمانة،... ومن الملاحظ أن أتاي لم يسأل الأسئلة التي قد تراود الذهن البشري قبل أن يقرر مكانه وموقعه، كمثل من يا ترى سيفوز في الثورة، ومن سينهزم؟!! من سيحيا ومن سيموت؟!! من سينجح ومن يصاب بالهزيمة؟!!.. كل هذه أسئلة لا مكان لها عنده، إذ أن مكانه الوحيد: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حينما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"... أليس هذا عين ما قالته راعوث لنعمى من قبل: "فقالت راعوث لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد إنما الموت يفصل بيني وبينك"... (را 1: 16 و17).
فإذا أضفنا إلى ذلك أن جمال التصميم عند راعوث من قبل، أو عند أتاي فيما بعد، نشأ بعد العرض السخي الكريم من نعمى أو داود أن يعود المصاحب إلى موقعه ومكانه، دون أن يجهد نفسه أو يكلفها بما لا قبل لها من تعب ومشقة وجهد ومعاناة،... وكما رفضت راعوث من قبل، رفض أتاي من بعد في تصميم من وضع يده على المحراث دون أن يفكر لثانية واحدة في النظر إلى الوراء،.. لقد جاء هذا التصميم من نبع الاختيار الحر المطلق الكريم!!.. على أن الجمال الأعظم في هذا الولاء أو الوفاء، أنه جاء في وقت المحنة، والمستقبل الغامض المجهول،... وإذا كانت المحنة قد كشفت الأعماق عند شمعي وأخيتوفل وأبشالوم، وسائر الشعب الذي سار وراءهم، فإنها هي التي أعطت المثل الأعلى في ذلك الذي سار وراء داود وهو مغطى الرأس حافي القدم أعزل من القوة والرجاء بحسب المفهوم البشري ونظرة الناس،.. ومن الغريب أو العجيب أن كلا منا يلزم أن يكون بمعنى ما "أتاي" في التبعية، لابن داود، ابن الله في الأرض،... إذ لا يمكن أن نرى مجده، قبل أن نخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره،... وكما وقف أتاي الجتي مع داود ضد من يحاول أن يغتصب عرشه، فإن واجبنا أن نقف مع ابن داود ابن الله، ضد كل المحاولات التي تحاول أن تغتصب مجده وعرشه وجلاله، وتجرده من سلطانه العظيم كملك الملوك ورب الأرباب، ومهما يكن نصيبنا من الاضطهاد والمحن والتشريد والآلام، إلا أن موقعنا الصحيح من المعركة معروف دون أدنى تردد أو تراجع أو إبهام... مع المسيح في الحياة أو الموت على حد سواء!!..
عندما وقف مارتن لوثر في مجمع ورمس، أما تشارلس الخامس الامبراطور، ووجه إليه السؤال: "هل تتراجع أو لا تتراجع عن معتقداتك"؟.. جاء الجواب: "إذا كان "جلالتك" يطلب مني جواباً واضحاً، وبسيطاً، ومضبوطاً، فسأعطي هذا الجواب، وهو أني لا أستطيع أن أخضع إيماني للبابا أو للمجامع، لأنه واضح وضوح النهار أنها تتعرض للخطأ والتناقض بعضها مع بعض، وما لم أقنع بشهادة الكتاب المقدس، وبالمنطق الواضح، ما لم أقتنع بما ذكرت من أجزاء كتابية، وما لم يربط ضميري بكلمة الله، فإني لا أقدر أن أتراجع، ولا يمكن أن أتراجع، إذ أنه ضار بأي مسيحي أن يتكلم ضد ضميره".. وحتم دفاعه بالعبارة التي دوت في كل الأجيال: "هنا أقف ولا أفعل غير ذلك، وليعني الله"...
ليس من حق المسيحي أن يسأل أين توجد الأغلبية، أو من يتصور أن يعيش أو يفوز في المعركة إذ أن مكانه دائماً إلى جانب "الملك" في الحياة أو الموت على حد سواء، لأنه إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، لأنه إن عشنا وإن متنا فللرب نحن،... وإذا كان الاسبرطيون القدامى في معركة ترمبولي قد كتب على نصبهم: "أيها المسافرون اذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعاً لقوانينها المقدسة"... وإذا كانت آخر كلمات الشاب الفرنسي بايارد، وهو يصعد إلى المقصلة قائلاً لجلاديه: "أيها السادة لست أنا ممن يرثى له، فأنا أموت إتماماً لواجبي، إنما أنتم أولى بالرثاء، يا من رفعتم سلاحكم ضد مليككم وبلادكم وعهودكم"...
لقد تصرف أتاي الجتي بالروح التي يلزم أن يتصرف بها المسيحي إزاء سيده وملكه وفاديه ومخلصه،.. وإذا كان داود قد أحس في هذا الولاء روح الحب العميق، الذي على استعداد أن يبذل الحياة نفسها دون تحفظ، فإن ابن داود، أو بالحري ابن الله يستحق أضعافاً مضاعفة كل ولاء ووفاء، مهما تعرض هذا الولاء أو الوفاء للامتحان القاسي أو المحنة الجارفة!!...
أتاي المنتصر
لقد أعطى هذا الغريب شرف القيادة في المعركة، إذ قسم الجيش إلى فرق ثلاث واحدة بيد يوآب، والأخرى بيد أبيشاي، والثالثة بيد أتاي الجتي، ولعل هذا كان فخر الرجل ومجده، وهو فخر كل من يدعي للقتال في معركة المسيح، وهو الفخر الذي طالب بولس ابنه تيموثاوس بأن لا ينساه أويتخلى عنه عندما قال له: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح"... وإذا كان أيوب يذكرنا بالحقيقة التي تتابع كل إنسان على الأرض: "أليس جهاد للإنسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه؟!!" فإن السؤال لم يعد بعد: هل نجاهد أم لا؟!!. إذ لابد أن هناك جهاداً محتوماً يواجهنا لكن السؤال: ما هو نوع هذا الجهاد؟!!.. هناك معركة طرفاها داود وأبشالوم، المسيح والشيطان، الخير والشر!! فأي جانب تأخذ في المعركة؟ وأي مصير نرتبط به في قصة جهادنا الأرضي؟!! هل نأخذ المكان إلى جانب أبشالوم، نجاهد الجهاد الآثم الشرير المحرم، الذي لابد أن يلحقه الضياع والموت والهلاك الأبدي؟.. أم نأخذ جانب داود؟ أو بتعبير أصح، جانب ابن داود لنغني في النهاية مع من قال: "جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً!!"..
كان البادي حسب الظاهر أن الغلبة ستكون إلى جانب أبشالوم، إذ أن الذين مع داود لا يزيدون عن حفنة لا يمكن أن تقارن بالسيل المخيف من المتمردين الثائرين، ومع هذا، فإن أتاي واجه المستقبل المجهول بالنفس المطمئنة الراضية في الموت أو الحياة، وهذا في حد ذاته هو النصر الذي ما بعده نصر فالمؤمن -شاهداً أو شهيداً- منتصر في كل الحالات مع المسيح، لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح!!.. إن الهزيمة في حياة المؤمن، لا ترتبط إلا بشيء واحد، هو وقوعه في السقوط والخطية،.. أما ما عدا ذلك، فهو النصر، بل هو أكثر من النصر إذ: "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا"...
طلب داود أن يدخل في المعركة، فرفض أتباعه، وطلبوا أن يبقى في المدينة ليكون نجدة لهم إذا ما حزب الأمر واشتد القتال،.. على أننا وإن كنا نقاتل في معركة المسيح، وإن هذا هو حظنا وقدرنا، فإن المسيح لا يبقى كداود بعيداً عنا، بل سيرقبنا لينجدنا، حتى يستطيع الواحد منا أن يقول بكل فخر ويقين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" وسنجد أنه مهما كانت المقتلة العظيمة بين القلة مع داود، والكثرة مع أبشالوم، فإن المعركة ستنتهي على نحو مثير مفاجيء، بسقوط العدو وسحقه، مما سيفعله السيد في المعركة الأقسى والأعظم: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً!!"..
عاد أتاي الجتي مع داود إلى أورشليم في موكب المنتصرين، ولا أعلم ماذا كان إحساسه في ذلك، أو ماذا كان مذاق النصر عنده، وقد سقط التمرد والبغي، والشر والفساد أمام الصدق والحق، والأمانة والرحمة،.. لكني أعتقد أن أتاي عاش طوال عمره يذكر تلك اللحظة الحاسمة من حياته! حيث واجه الاختيار الأقسى والأصعب والأشد،.. ولعله علم أولاده وأحفاده -في الصراع بين الحق والباطل- أن يقولوا كما قال هو ذلك اليوم القديم: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"...

عدد الزيارات 1561

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل