
تتضمن الحث على الاتضاع وذم التكبر والتحذير منه مرتبة على قوله تعالى" إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات "( مت ۱۸ : ۱- ۹ )
أرايت ياصاحب كيف تداوى الأمراض بأضدادها وكيف يمنح ذوو الامراض بإستعمال هذه الأدوية ما يطلبون ويشتهون كما يوافق ذواتهم في تلك الحياة الدائمة وليس كما يوافق طلبتهم وشهوتهم في هذه الحياة الزائلة فكما داوى هنا محبى التقدم والرئاسة على من سواهم لقوله " إذا اراد أحد أن يكون أولا. فيكون آخر الكل " كذلك صنع فيما تقدم مع محبى المال ومحبى المجد الباطل فقال :" إن كنت تتظاهر بالصدقة والصلاة والصوم لتظفر بالشرف. فلا تصنع هكذا لئلا تضيع تعبك. لكن أعمل ذلك في خفية لتظفر بمطلوبك كما ينبغى في الوقت المناسب " وقال أيضا " إن أردت أن تكثر من مالك لتستغنى. فلا تكثره في هذا العالم بل افتقر ههنا لنستغنى بكنوزها هناك " وقال أيضا " إن اردت التقدم على الكل فاختر المرتبة الأخيرة الحقيرة لتظفر بالمرتبة الأولى العظيمة " وذكر الأمرين معا لنهرب من الردى ونطلب الجيد. وذكر الأمم لأنهم كانوا مرذولين بسبب رداءة أفعالهم "إنن تلك الرئاسة الباطلة هى رئاسة الخوف والاضطرار ولذلك فإنها تزول بسرعة أما الرئاسة الناتجة عن الإتضاع فهى من الإختيار ولذلك تثبت فإن :القديسين الكبار الذين كانوا يتضعون أكثرهم الذين كانوا أعظم من كل الناس وهم الذين لم يبطل انتقالهم من هذه الحياة شرفهم بل ظل ذكرهم يثبت متزايدا ويدوم إلى الانقضاء وإني لأعجب من المتكبر بالرئاسة الباطلة لأنه من جهة تكبره لا يرى الناس شيئا ويتوهم أنه لا يوجد أحد فى طبقته وأن ليس أحد يستحقها سواه ومن جهة طلبه الرئاسة والشرف الباطل فإنه يتظاهر لكل أحد ويطلب منه ذلك فهو يطلب الشرف من الذي لا يراه شيئا وهو مستعبد لضعفات كثيرة كالغضب والحسد وايثار الرئاسة والشرف أما المتضع النفس فهو غير منفعل بشئ من ذلك فمن هو إذن العالي؟ ومن هو المنخفض؟ أهو المتعالى المنفعل ؟ أم المنخفض الذي هو ليس منفعل؟
حقا أن الطائر الذي وقع في يد الصياد ليس هو العالي وإنما الذي لا يقع في يد الصياد هو العالى وقد عرفنا ذلك سيدنا عندما قال " ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو فإن ذاك الذي كان عاليا قويا ســـقط بتشامخه حتى صار ينسحب على الارض ويدوسه الارضيون والإنسان الذي كان على الأرض ضعيفا ارتفع بإتضاعه حتى أعدت له السماء أرضا ووطئ قوة ذاك الذي كان عاليا فمن هو الذي يذل ؟ أهو الذى يحاربه الله القوى وحده؟ أم الذي يعينه تعالى؟ معلوم أنه المحارب لا المعان وقد قال الكتاب " إنه تعالى يقاوم المستكبرين ويعطى نعمة للمتواضعين" وقال الله تعالى: " إلى هذا انظر. الى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي " فأيهما الطاهر العالي؟ أهو الذي يكون قربانه مقبولا لدى الله ؟ أم هو الذي يرفض قربانه؟ قال النبي " ذبائح الله هي روح منكسرة القلب المنكسر المنسحق يا الله لا تحتقره " وقال ايضا " مستكبر العين ومنفتح القلب لا أحتمله " فالمتكبر يعاقب مع الشيطان كمـــا قـــال الرسول " يجب أن يكون الاسقف غير حديث الايمان لئلا يتصلف فيسقط في دينونة ابليس ( وقد تسبق عقوبته هنا عقوبته هناك مع المحال كما حدث لفرعون الذي تعظم وقال " لست أعرف الرب " فأستهانت به الضفادع والذباب وغرق في البحر مع جنوده وسلاحه وخيوله أما ابراهيم فكان على العكــــــس إذ قال: " أنا تراب ورماد " وكان يعلو دائما لتمسكه بفضيلة التواضع. فإنه وقع في يد المصريين وغيرهم ثم نجا ظافرا طلب الانسان الأول المساواة بالله وهى فوق قدر الانسان فأضاع ما كان له فالكبرياء إذن تنقص ولا تزيد. أما الاتضاع فأنه لا ينقص من قدرنا شيئا بل يضيف الينا ما هو ليس لنا فسبيلنا أن نهرب من الكبرياء ونتمسك بالتواضع لنستريح في العاجل ونشرف في الأجل بنعمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح الذى له المجد مع ابيه الصالحوالروح القدس إلى البد آمين.
القديس يوحنا ذهبى الفم
عن كتاب العظات الذهبية