«وإذ كان يُصلِّي»

21 يناير 2020
Large image

صلاة يسوع أثناء معموديته في الأردن
عيد الغطاس هو أحد أكبر ثلاثة أعياد سَيِّدية في الكنيسة، وهي التي يُقام فيها القداس في نصف الليل. فهو من جهة الأهمية يأتي مباشرة بعد عيدَي الميلاد والقيامة. بل يجب أن نعرف أنه في زمن لم يكن فيه عيد الميلاد قد عُرف بعد، كان عيد الغطاس من أكبر أعياد الكنيسة، ولاسيما في الشرق.
نقرأ من إنجيل معلمنا لوقا البشير:
«ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً. وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيب بك سررت» (لو3: 21و22).
تركيزنا اليوم سيكون على عبارة ”وإذ كان يُصلّي“، وسنتأمل في نوعية صلاة المسيح في هذه المناسبة، بماذا كان يصلي؟ وماذا كانت مشاعره وأحاسيسه عند العماد؟
نقرأ في إنجيل يوحنا أن يوحنا المعمدان أشار إليه قائلاً«هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو1: 29).
فالذين سمعوه تذكروا للتو نبوة إشعياء العجيبة التي لم تنطبق على أحد من قبل«لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها. ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبِحُبُرِه شُفينا. كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاه تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه... إنه ضُرب من أجل ذنب شعبي... على أنه لم يعمل ظلماً ولا وُجد في فمه غش... إنه جعل نفسه ذبيحة إثم... بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها... إنه سكب للموت نفسه وأُحصِيَ مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين» (اش53: 412)هذه النبوة هي عن إنسان حَمَلَ خطايا الشعب، وتذلَّل وظُلم ولم يفتح فاه، ولم يوجد في فمه غش، لكنه بإرادته جعل نفسه ذبيحة إثم، بل وسكب للموت نفسه!
إنها نبوة خالدة عن العبد المتألم. كانوا يقرؤونها في العهد القديم ولا يفهمونها، ثم جاء المعمدان وأشار إلى تحقيقها في المسيح، قائلاً باختصار بليغ: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم!». ففي هذه اللحظة بدأت رسالة المسيح كحمل الله!ولكن في الحقيقة ليست هي إشارة المعمدان التي أثَّرت على المسيح وجعلته يبدأ رسالته كحمل الله، ولكن العكس هو الصحيح: فمشاعر الرب الداخلية وما كان يعتمل في قلبه من تصميم على تقديم نفسه ذبيحة إثم هي التي أحس بها يوحنا المعمدان، فنطق بما كان يراه أمام عينيه في قلب المسيح والآن يهمُّنا أن نتحسس ماذا كانت مشاعر الرب وأعماقه الداخلية في هذا الموقف، تلك التي صمت عنها الإنجيل واكتفى بأن يقول باختصار «إذ كان يصلي».
من الأشياء التي تساعدنا على التعرُّف على مضمون صلاة الرب أثناء العماد هو ما نقرأه في سفر العبرانيين«لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرِدْ ولكن هيِّأتَ لي جسداً» (عب10: 5) بمعنى أن كل الذبائح والقرابين السابقة لم يُسَرَّ الله بها، لأنها كانت مجرد ذبائح حيوانية غريبة عن طبيعة الله. ولكن الشيء الذي يُسرُّ به الله هو ذبيحة الحب الإلهي المقدَّمة من ابنه الحبيب بمشاعر حب بنوي لائق بالله. ولذلك ”هيَّأَ له جسداً“، ليصير هو الذبيحة المقبولة عند الآب. وبقية الآية تؤكد هذا المعنى«بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرَّ. ثم قلتُ ”هانذا أجيء، في درج الكتاب مكتوبٌ عني، لأفعل مشيئتك يا الله“. إذ يقول آنفاً ”إنك ذبيحةً وقرباناً ومحرقاتٍ وذبائحَ للخطية لم تُرِدْ ولا سُررتَ بها“ ... ثم قال ”هانذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله“، ينزع الأول لكي يثبِّت الثاني» (عب10: 6-9) العجيب في هذه الآية أنها تبيِّن لنا بوضوح نوعية صلاة المسيح الداخلية التي اكتفى إنجيل لوقا بالإشارة إليها باختصار قائلاً: «إذ كان يصلّي». إنه كان يقول في قرارة نفسه: ”هانذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله. هانذا أجيء لأصير أنا الذبيحة الحقيقية المرضية أمامك، عوض كل ذبائح ومحرقات العهد القديم التي لم تُرضِك ولا سُررتَ بها“.
أمر آخر يُقرِّب لنا ماذا كانت مشاعر الرب وصلاته أثناء العمادلقد جاء يوحنا المعمدان يُعمِّد بمعمودية التوبة لغفران الخطايا، وكان الجميع يأتون إليه تائبين وينزلون إلى الماء معترفين بخطاياهم. فكون المسيح يأتي هو أيضاً ويتقدَّم مثلهم وكأنه يريد أن ينال معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، وهو البار القدوس الذي بلا خطية ولا شر؛ هذا يدل بكل تأكيد أنه كان يتقدَّم بصفته حامل خطايا العالم كله، بل بصفته قد صار هو نفسه خطية لأجلنا لكي يبررنا من كل خطية، بحسب المكتوب«جعل الذي لم يعرف خطيةً خطيةً لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه» (2كو5: 21)أي أن الله الآب جعل المسيح خطية، وضع على كتفه كل خطايا البشرية ابتداءً من خطية آدم ثم جميع خطايا الأجيال اللاحقة حتى آخر إنسان سوف يوجد قبل اليوم الأخير، كلها تجمعت على أكتاف المسيح. فلم يكن إحساس المسيح أنه حامل خطايا فقط، بل بلغ إحساسه أنه هو نفسه خطية، ما أقسى هذه الحقيقة، ولكن كل هذا لكي يجعلنا نحن بر الله فيه لذلك كانت صلاة المسيح: «هانذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله». ها أنا مستعد أن أتألّم وأتقدّم إلى الصليب وأتقبّل معمودية الدم، وليس فقط معمودية يوحنا هذه التي للتوبة. فالمسيح في هذه اللحظات كان ينظر إلى صليبه على اعتبار أنه هو المعمودية الحقيقية التي ستغسل البشرية كلها من خطاياها«لي صبغة (حرفياً: معمودية b£ptisma)أصطبغ بها (حرفياً: أعتمد بها baptisq»nai)،فكم أنا منحصر حتى تُكمَّل!» (لو12: 50)«وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيب بك سُررتُ» (لو 3: 21و22).
صلاة المسيح بنية تقديم نفسه ذبيحة حب هي التي جعلت السماء تنفتح وأظهرت فيض الحب الأبوي المنسكب عليه من الله الآب، بشهادة الآب أن «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ»، فتحقق قول المسيح «لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً» (يو10: 17)على أن الحب المتبادل بين الآب والابن لم يبدأ اليوم، ولا هو كان متوقِّفاً على تقديم المسيح نفسه ذبيحة بالنية، ولكنه حب أزلي لانهائي موجود من قبل تأسيس العالم. الآب يحب الابن حباً لا نهائياً، والابن يحب الآب حباً لا نهائياً، والروح القدس ينقل مشاعر الحب من الآب للابن ومن الابن للآب هذا كله كان يتم من قبل تأسيس العالم في مرأى من الملائكة التي تشاهده وتسبِّح الثالوث قائلة ”قدوس قدوس قدوس“، كما ظهر في رؤيا إشعياء.
ولكن لماذا في هذا اليوم بالذات، عند معمودية المسيح، يظهر هذا الاستعلان علناً؟ ما هو الجديد الذي حدث اليوم ولم يكن موجوداً قبل تأسيس العالم؟ الجديد هو أن الابن ظهر لابساً جسد الإنسان وأبدى استعداده لأن يقدِّم هذا الجسد الذي أخذه من الإنسان كذبيحة حب لله أبيه بالنيابة عن الإنسان: «هيّأتَ لي جسداً، فقلتُ هانذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله»، فظهرت علاقة الحب المتبادلة بين الآب والابن منذ الأزل وقد شملت الآن بشرية الرب يسوع – وبالتالي شملت جميع العتيدين أن يتحدوا بجسد المسيح ويصيروا أعضاءً منه لذلك يرى القديس كيرلس الكبير أن نزول صوت الآب على المسيح في هذا اليوم قائلاً «أنت ابني الحبيب. بك سُررتُ» كان من أجلنا نحن ليشملنا في التبني ويُدخلنا في مجال حب الآب للابن:
[لقد جاء صوت الله الآب على المسيح في وقت معموديته ليقبل به وفيه الإنسانَ الأرضي، قائلاً: ”هذا هو ابني الحبيب“. لأن الابن الوحيد الحقيقي بحسب الطبيعة، لما صار مثلنا تعيّن ابناً لله، ليس ليقبل هذه الكرامة لنفسه - إذ كان ولازال كما قلتُ هو الإله الحقيقي - بل ليوصِّل إلينا نحن هذا المجد] ويؤيده في هذا الرأي القديس يوحنا ذهبي الفم[حينئذ انفتحت السموات ونزل الروح القدس، وذلك لكي يُخرجنا من سيرتنا القديمة إلى الجديدة، ويفتح لنا أبواب السماء، ويُرسل لنا الروح القدس من السماء، داعياً إيانا إلى ذلك الوطن. بل وليس فقط داعياً إيانا بل ومؤهلاً إيانا لأعظم كرامة، إذ لم يجعلنا ملائكة أو رؤساء ملائكة بل جعلنا أبناءً لله وأحباءَ الله!]لقد كان صوت الآب النازل على المسيح في معموديته يشمل البشرية التي كان ينوب عنها. لقد كان المسيح ممثِّلاً لملايين ومليارات من الناس الذين وُجدوا والذين سوف يوجدون فيما بعد. كان المسيح المتجسد يُقدِّم مشاعر الحب البنوي لله الآب، باستعداد تقديم جسده الذي أخذه من الإنسان ذبيحةً بالنيابة عن الإنسان، وبالتالي فإن الآب قَبِل هذه المشاعر لحسابنا نحن، ومن ثمَّ كان هذا الصوت لصالحنا. فسرور الآب بالابن في وضعه المتجسد هو لنا ولحسابنا، أي للبشرية جمعاء الممثَّلة في المسيح وهو لابس جسدنا. ونحن على قدر ما نشارك المسيح في مشاعره الداخلية، وعلى قدر ما نكون صادقين في مشاركته في حبه للآب، وفي استعدادنا للاشتراك في شرب الكأس التي يشربها هو وفي الاصطباغ بالصبغة التي يصطبغ هو بها، على قدر ذلك نشعر بتعزية الروح القدس تنسكب داخل قلوبنا، وبأننا صرنا فعلاً أبناءً لله وأحباءَ.

عدد الزيارات 1793

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل