كيف تصلي؟

28 فبراير 2020
Large image

كل فصل من أناجيل الصوم الكبير يحمل سؤالًا، وكأن أيام الصوم هي بمثابة أسئلة يطرحها الله علينا لتكشف لنا مقدار معرفة الإنسان الروحية وطبيعته وتعمقه وعمقه في هذة الحياة الروحية. كلمة الله أجابت عن أسئلة كثيرة في السنوات الماضية وهذا العام (2017) سوف نأخذ القراءة الإنجيلية في كل يوم جمعة طوال أيام الصوم في السبعة أسابيع.إنجيـــــــل الجمعـــــــــــة الأولـــــــــــى مـــــــــــن الصـــــــــوم (لوقا11 : 1-10) يبـــــــــدأ بســـــــــؤال واضـــــــح جــــــدًا، فقـــــــد طلب التلاميذ من السيد المسيـــــح قائلين: «يا رَبُّ، عَلِّمنا أنْ نُصَلّيَ...»، ولذلك السؤال يكــــــون كيف تصلي؟ كثيرون ينظرون إلى الصــــلاة على أنها فعل روحي، وبعضهم يعتبرها فنًّا، ولكننا نرى الصلاة حياة. حياة الصلاة هي ليست حياة لوقت معين ولا في مناسبة معينة ولا في مكان معين، الصلاة حياة يعيشها الإنسان طول حياته، والوصية التي قالها السيد المسيح أن صلوا كل حين ولا تملوا، فكأن الصلاة مرتبطة بالتنفس في كل حين. والصلاة هنا تعني العلاقة التي تربط بينك وبين الله، وهذه العلاقة علاقة داخلية في القلب وليست مظهرية أو خارجية، فصمتك قد يكون صلاة، وترنيمك صلاة ووقفتك صلاة، حتى أننا نقرأ في سفر النشيد عن عروس النشيد «أنا نائمَةٌ وقَلبي مُستَيقِظٌ (بالصـــــــلاة)» (نش2:5)، وكأن نبضات القلب هي تعبير عن نبضات الحب، حب الإنسان لله وحب التواجد في حضرته على الدوام. والصلاة لا تأخذ شكــــــلًا واحـــــــدًا، مشاعرك تكون صلاة، ودموعك تكون صلــــــوات، وسجودك صلوات، وصمتك يُحسب صـــــــلاة. وداود النبي يقول هذا التعبير الجميل: «مِنَ الأعماقِ صَرَختُ إلَيكَ يا رَبُّ» (مز1:130)، لا أحـــــــد يسمـــــــع هذة الصرخة غير الله، أعمــــــاق القلب وأعمــــــــاق النفس البشرية هي التي تصلي وتخاطب الله، والله يسمع ويستجيب. لذلك في كل قداس نصليه في الكنيسة نسمع نداءً من الأب الكاهـن في صورة سؤال: «أين هي قلوبكم؟»، فيـــــرد المصلـــــون ويقولون: «هي عند الرب»، ليست قلوبنا على الأرض وإنما في السماء. تقدم التلاميذ للسيد المسيح وطلبوا السؤال الذي نطلبـــه: «علمنـــــــا يــــا رب أن نصلـــــي»، هل تحتاج الصـــــــلاة أن نتعلمهــــــا؟ هل نحتاج إرشادًا لنصلي؟ هل لابد من الحكمـــــة؟ نعم! لذلك أعطاهم السيد المسيح النموذج المثالي للصلاة، وهي التي نسميها الصـــــلاة الربانيـــــة وأحيانًا نسميها صلاة الصلوات. وسلمنا الرب هذه الصـــــــلاة في عبارات موجزة قليلة ولكنها واسعـــــة المعانـــــــي، وصــــــارت هذة الصلاة هي الصلاة الرسمية في المسيحية، ونصليها شرقًا وغربًا، ويمكن أن نعتبرها بمثابة البذرة التي نشأت منها كل صلواتنا.وهذه الصلاة قصيرة ولكن عميقـــــة المعنى، وأريد أن أتأمل معكم في هذه الصـــــــلاة في عشرة معانٍ متكاملة...المعنــى الأول: أن فيها روح البنـــــوة، فحين تصلي وتقول: أبانا في بدء الصــلاة، معناها إني أنا ابن لك يا رب. شعور البنوة حلو يريح الإنسان.المعنــــى الثانـــــي: ننادي الله «أبانا» بصيغة الجمع وليس أبي، وكأن كل الموجودين إخوتي، أي روح الأخوة التي تجمعنا، فلنا أب واحد هو الله الآب. ولذلك قيمة الصلاة أنها تجمعنا معًا. أيضًا حين نخاطب الكاهن ندعوه «أبونا» وأيضًا بصيغة الجمع، والكنيسة الإثيوبية تنادي الأب البطرك والأب الأسقف والأب الكاهن بكلمه «أبونا» حتى اليوم.المعنـــى الثالــــث: وهو روح المهابـــة، فأنت تقف أمام أبينا الذي في السماء، وتحمل نسمة حياة من السماء. لست مخلوقًا أرضيًا بل مخلوق من السماء. وحين تقف أمام الحضرة السماوية فيجب أن يكون ذلك بمهابة وخشوع.المعنى الرابـــع: «ليتقدس اسمك» رغم أنهما كلمتان والعبارة قصيرة، ولكن ليتقدس اسمك يا رب في حياتي، وهذه روح القداسة. أحيانًا في مسيره حياه الإنسان ينسى اسم الله وينسى تقديس اسم الله، ولذلك نعتبر القسم خطية لأن الإنسان يستخدم اسم الله بلا مصداقية. في إنجيل يوحنا تجد هذه الآية الجميلة «لأجلِهِمْ أُقَدِّسُ أنا ذاتي» (يو19:17)، الأب في بيته يقدس نفسه أي يجعل نفسه أمينًا على أسرته، الخادم في الكنيسة وكل مسئول في المجتمع يقدسون أنفسهم من خلال الأمانة في المسئولية. ليتقدس اسمك يا رب في كلامي فلا يكون غامضًا أو ملتويًا بل بالحق.المعنــى الخامــــس: «ليأتِ ملكوتك» وهنا روح الاستعداد. فالإنسان المؤن ينتظر ملكوت الله أو ينتظر أن يكون له نصيب في السماء. ليأتِ ملكوتك أي الإحساس اليومي بأنك مدعو لهذا الملكوت، مدعو أن يكون لك حياة في السماء، الحياة الأبدية التي بلا نهاية. مثل العذارى الحكيمات والجاهلات يشرح لنا كيف أن العذارى الحكيمات انتظرن العريس مستعدات بالزيت، أمّا الغير مستعدات فيسميهم الكتاب المقدس الجاهلات، فلم يكن لهن نصيب وأُغلِق الباب دونهن.المعنــــى الســــادس: «لتكن مشيئتك» وهذه المشيئة تعني روح التسليم. الإنسان الذي يعيش في مشيئة الله، الذي يرى كل شيء يصنعه الله أنه خير، يعيش في حياة الرضا والقبول، هو في يدي الله يقود حياته من يوم ليوم ومن سنة لسنة ومن مسئولية لمسؤلية. المعنـــــى السابــــع: «كما في السماء كذلك على الأرض»، عبــــــاره مفصليــــة: قبلهـــــا ثلاث عبارات تخـــــص الله. نريـــــد يــــا رب أن الأرض التي خلقتها لنا تكون مثل السماء، أريد كنسيتي مثل السماء، وكذلك وطني، بل والبشرية كلها تكون كما السماء. السماء كلها سعادة وفرح وصفاء، ونريد أن تكون الأرض هكذا. السماء قلبها واسع وكلها سلام، ونريد سلامًا على الأرض... وهذه نسميها روح الاتكال أو سماوية الطابع.المعنـــــــى الثامـــــن: «خبزنا كفافنــــــا أعطنـــــا اليوم»، ونسميها روح القناعـــــة. والقناعة صورة من صور الرضـــــا أو الشبع الداخلــــي، ولن يأتي الرضا أو الشبــــع الداخلـــي مــــــــن أمـــــــــور ماديــــــه أبدًا، ولكن بقدر ارتباطك ووجودك في الحضرة الإلهية بقدر ما يكون شبعـــــك، لأن القلب لا يشبـــــع بطعام ولا بماديات ولا بالتراب بل بالله فقط. المعنى التاسع: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا». الله صاحب المغفرة، ولكنه أعطى للإنسان قوة المسامحة، والمعادلة أكثر من رائعة! فعلى قدر ما تسامح الآخر على قدر ما تحصل على غفران الله، ورغم بساطتها إلّا أن الإنسان أحيانًا ما ينساها! وهذه نسميها روح المغفرة. أتعجب حين يحدث خلاف بين اثنين ويستمر لأيام بل وسنين، وأتساءل: ألا تصلون أبانا الذي...؟! المعنــى العاشــــر: «لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير». هي روح الحرص، نحن نعيش في عالم فيه الخير والشر، وفيه ضعفات كثيرة وخطايا متنوعة، فكيف يحترس الإنسان لنفسه، ونحن نعلم أن الخطيه يسبقها غفلة أو نسيان للوصية، لذا نقف أمام ربنا ونقول: لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير. طالما تحصنت بروح الصلاة الدائمة فلا يقدر العدو أن يؤذيك ما لم تؤذِ أنت نفسك. الصلاة الربانية تقــــدم لك نموذجًا للصلاة، سواء روح البنوة أو الأخوة أو المهابة أو القداسة أو روح الاستعداد أو الاتكال على الله أو القناعة أو المغفرة أو االحرص والانتباه. كل هذه مفاهيم تدخل في الصلاة. مشكلة الإنســـــــان المعاصــــــر أنه يحيــــــــا في عصر السرعة، لكن الحياة الروحية ليست بهذه السرعة. فحين تزرع لبد أن تنتظر ثلاثة أو أربعة شهور حتى تثمر، وهناك نباتات تحتاج لسنين، فلكل شيء وقت. في هذا مثل صديق نصف الليل (لو11) يعلمنا اللجاجة أي استمرار الطلبة أمام الله، وكأنك تقول لله إنه ليس لي غيرك ولا أستطيع أن أذهب لأحد آخر. وقد سمعتم عن القديسة مونيكا التي ظلت تصلي 20 سنة وبدموع من أجل ابنها أغسطينوس، حتى تغير وصار قديسًا. لم تصلِّ يومًا ولا اثنين بل 20 سنة! قيسوا على هذا كثيرًا. ولذلك اللجاجة أحد عناصر نجاح الصلاة. والله عندما يعطيك أو لا يستجيب إنما يفعل هذا لخيرك. ولذلك في آخر هذا الفصل يقول لنا «اسألوا تُعطَوْا، اُطلُبوا تجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لكُمْ»، إياك من اليأس أو الشك إن كان الله يسمع صلواتك، بل هو يسمع كل كلمة، يسمع مشاعرك من الداخل وأنين قلبك. اسألوا باللسان، اطلبوا بمشاعر القلب، اقرعوا باللسان والمشاعر والإرادة. لقد أعطانا الله نعمة الصلاة، ونعمة التواجد في الحضرة الإلهية، ونعمة الاستجابة، كل إنسان ومهما كان ضعفه ومهما كانت كلماته يستطيع أن يصلي، والله يسمع ويستجيب الصلاة. يعطينا مسيحنا أن تكون حياتنا كلها صلاة، كما يقول داود النبي: «أمّا أنا فصلاة»...
قداسة البابا تواضروس الثانى

عدد الزيارات 1159

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل